أمير ناظم - الكتاب الأسود

دخل قاعة الدرس بهدوء وأغلق الباب من دون صوت، كان الطلبة يتقاذفون بكُراتِ ورقٍ مليءٍ بكتابات دروس أخرى، ولكنهم كّفوا عن إثارة الفوضى وجلس كلٌّ في مقعده، ثم شخصت أبصارهم إلى الأستاذ الذي بدا كأنه يفككّ قنبلة موقوتة وهو يفتش حقيبته الدبلوماسية ليخرج مستلزمات التدريس، ثم أخرج كتابًا أسود ووضعه على الطاولة الخشبية وأتكأ بإحدى يديه على الحائط الجانبيّ، محلقًا بنظره على أركان القاعة وفي وجوه الطلبة، فعمّ الصمت.
مازالوا ينتظرون أستاذهم أن يتكلم، لم يرُوه من قبل، فهم في بداية عامهم الأخير من الثانوية، ولم تبقَ إلا سنة واحدة حتى يكونوا طلبة جامعة، إلا أنّ الأستاذ لم ينطق كلمة واحدة قبل أن يسير بين الممرات الضيقة في القاعة متفحصًا وجوههم المبهمة، ثم حينما عاد الى مقدمة القاعة وقال بصوت أجشّ مرهق: أنا أستاذ مادة التأريخ، وسنبدأ بالتعارف على بعضنا بسؤال، وهذه طريقتي لأتعرف على الآخرين، فما رأيكم؟ لم ينبس أحدهم بكلمة، كانوا بين مستغرب وساخر ومتحدٍّ... فأكمل: ستكون وسيلة تعارفنا هي أن تحاولوا الإجابة عن السؤال التالي... وخطا ثلاث خطوات ثم قال: برأيكم, ما هو أهم سؤال يجب أن يبحث الإنسان عن إجابة له طيلة أيام حياته؟
التفتوا في وجوه بعضهم البعض حيارى، تجرأ الجالس في المقدمة ليسأل: لم نفهم السؤال؟!
فتمشى في المساحة الفارغة من القاعة متحدثًا بنبرة متأمِل: سأشرح لكم، لدى كل إنسان أسئلة كثيرة في حياته، وخاصةً في مثل عمركم, ليس لمثلي أنا الهرم الذي ابيضّ شعر رأسه، فواحد منكم مثلًا ينفق حياته بالبحث عن جواب للمفهوم الجمال، وسؤاله يكون (ما هو الجمال؟ أو ما هي معايير التفاضل فيه؟)، وآخر يحب أن يكون غنيًّا، فيكون سؤاله (كيف أكون غنيًّا)، وآخر يبحث عن الشهرة، فيكون سؤاله (كيف أكون مشهورًا؟) وشابّ يشغل تفكيرَه الأدب، فيكون سؤاله (كيف أكون أديبًا؟ وماهي الغاية من الكتابة والأدب بشكل عام؟)، ورجل ما يتساءل عن وجوده، فيكون السؤال المهم بالنسبة إليه هو (ما هو الهدف من الوجود؟)، على أن لا يكون هذا السؤال هو الوحيد في حياتنا، فلكلٍّ منا كثير من الأسئلة في شتى جوانب الحياة، ومن الضياع أن نحاول إيجاد جواب لكل سؤال يتبادر لأذهاننا، ولكن لابّد من وجود سؤال يعتقد أغلبنا أنه أهم سؤال، فنبقى نلاحقه كلَّ أيام العمر لكي نجد له جوابًا مناسبًا، وقد تنتهى حياتنا من دون أن نجد إجابة... المهم أن هنالك سؤالًا في حياتنا دائمًا, فما هو أهم سؤال يظنّ كل واحد منكم أنه ألاهم في حياة الإنسان؟ هذا إن فهمتم السؤال أصلاً؟
عادوا يتأملون ملامح بعضهم البعض ثم قالوا بصوت واحد: نعم، فهمنا.
فرجع الأستاذ إلى السبورة يمشي إلى الخلف متحدثًا: إذاً؟ ومدَّ يديه إلى الأمام باسطًا كفيه.
لم يتوقعوا قطّ أن يُسألوا بهذه الطريقة أو هذا السؤال المباغت، وفوجئوا بكل كلمة نطق بها، حتى أصبحوا كمن وقف على رأسه الطير, غير أن أحدهم تجرأ ليقول: ليس شرًطًا أن يكون عندي سؤال، أنا أعيش حياتي فقط. وبسط كفيه ساخرًا مقلدًا حركة أستاذه!
فسار أستاذهم الهرم المتكئ على عكازٍ أسود واقترب منه ليوجه كلامه إليه مباشرًة: إذًا، ما هي قيمة وجودك في الحياة؟ ألا تظّن أنك تتهرب من نفسك؟
فلم يجد ذلك الطالب الغض جوابًا أو ردًّا والتزم الصمت، فواصل مسيره والعيون تتبعه حتى وقف في مكان آخر من مقدمة القاعة ليكرر: إذاً؟
وبعد دقيقتين من السكوت تأكد أنهم لن يجيبوا، قد يكون خوفهم من السخرية أحد الأسباب، لذا طلب منهم أن يكتبوا أسئلتهم في ورقة ويجلبوها في الدرس التالي، مبيّنًا لهم أن من يستعين بأحد أو يكتب نيابة عن أحد ثانّ سيكون راسًبا في مادته، ووعدهم بعدم ذاكر أسمائهم أمام الطلبة الآخرين, فقبِلَ الطلبة ذلك واطمأنت نفوسهم حتى حان وقت الدرس التالي ليعرض كلًّ منهم ورقته.
*
هذه المرة ليس كالدرس الأول، فحينما دخل الأستاذ إلى وجدهم هادئين بقلق، كل واحد منهم يضع ورقة أمامه، منتظرين على غير عادتهم، فألقى تحية باردة وطالبهم بأسئلتهم، فجمعوا الأوراق وسلموها إليه، فبدأ يقرأ:
ورقة (1)
ليس عندي ما أشغل تفكيري به غير لعبة كرة القدم، فسؤالي هو هل سيحصل برشلونة على دوري الأبطال؟
ورقة (2)
لقد مات أبي عندما بلغت السادسة عشر من عمري، ولطالما تساءلت: أين تسكن روحه الآن؟ وأتوقع أن هذا السؤال الذي يجب أن أجيب عنه في حياتي.
ورقة (3)
كيف تصنع أمي الفطيرة التي أحبها؟
ورقة (4)
لماذا أجبرتَنا على كتابة هذا الواجب التافه؟
ورقة (5)
أنا أحب النباتات، ربما لأن أبي نباتيّ ويحضر النباتات إلى البيت وهي لم تكبر بعد، أحيانًا يغرس البذور في أسطح صغيرة ونجدها في صباح اليوم الثاني قد أصبحت أزهارًا رائعة، فسؤالي الذي أظنّ أنه أهم ما سأبحث عنه في سني حياتي اللاحقة هو: كيف تتحول البذور الى أزهار؟ ومن؟ وكيف تُبثّ الروح فيها؟
ورقة (6)
لقد رأيت أخي الأصغر كيف تحول من كيس بيض في رحم أمي الى جنين، ومن ثم إلى طفلٍ صغير من خلال الأشعة التي نلتقطها لبطن أمي في كل مراجعة للطبيب، وكنت حاضرًا في المستشفى حينما ولدت أمي ورأيت أبي كيف يبكي في باب صالة الولادة، وبعد أقل من سنة، لازمه مرض لم يجد له الأطباء علاجًا، فشهدت لحظة خمود قلبه وتوقف أنفاسه ليموت... ومنذ تلك اللحظة وأنا أتساءل: لماذا نأتي إلى الحياة؟ وما الحكمة من ذلك؟ فأختضر سؤالي وأقول: من أين جئنا إلى هذه الحياة وما الحكمة من ذلك؟ أظن أنني سأبحث لبقية حياتي عن جواب لهذا السؤال.
ورقة (7)
أظن أن أهم سؤال يجب أن يبحث عن جواب له كل إنسان ولست أنا فحسب هو: أي الديانات هي التي تنقذ البشرية وتنقلهم إلى الخلود؟
ورقة (8)
لماذا تشتم أمي أبي في غيابه وتمدحه حين يحضر؟
اطّلع الأستاذ على بقية الأوراق التي كانت تحتوي على أسئلة مشابهة لهذه وأخرى فارغة, وبعضها كانت تحمل عبارات من دون معنى أو وشتائم، فوضع الأوراق كلها في حقيبته بجانب الكتاب الأسود وباشر الدرس.
ربما تتساءلون الآن: أي إجابة أو سؤال كان الأفضل؟ ومن سيحصل على الدرجة الأعلى؟ لذا، سأعرض أحد أهم الأسئلة بالنسبة لكم كما أرى أنا، وهو ليس مفروضًا أبدًا،
بل أظن وأرى أنه الأهم، وهو مذكور في إحدى الوريقات التي لم يعلن صاحبها عن اسمه، يقول فيها (لماذا أجبرتنا على كتابة هذا الواجب التافه؟) وأتصور أنه يقصد: لماذا نسأل أنفسنا؟ وما الغرض من ذلك؟ هذا ما أردت أن أشرحه لكم، فاعلموا أن الجواب ميت، والسؤال هو الذي يحيي فينا أجوبة أو أفكاراً أو رؤيا لم نكن نحسب أنها موجودة في داخلنا. البحث عن أي شيء أو جوابٍ لأي شيء يجعل لحياتنا معنى ونعرف الهدف الذي نحيا من أجله كي لا نبقى ضائعين نتخبط إلى أن نموت، المعنى أو الهدف الذي يعلمنا أن للحياة قيمة، وأن لوجودنا هدفًا، وأن لموتنا هدفًا أيضًا، فمِن المستحيل أن نكون قد خُلقنا بهذا الإبداع والإتقان من دون هدف، ومن يظن أو يعتقد بأنه مجرد رقم من أرقام البشرية التي بالمليارات، فليبحث في نفسهِ عن سؤال مهم أو هدف يراه في سكينة روحه أهم الأشياء، ويركز عليه... فمعنى (لماذا نسأل أنفسنا أو لماذا نتساءل؟) هو أن نبحث عن أسئلة... وليس كما يفهم كثير منا بأنه ليس شرطًا أن نستفهم عن الأشياء والموجودات وأنفسنا فنبدو تافهين في نظر الآخرين...
فسأل أحد الطلبة: وأنتَ يا أستاذ، ما هو أهم سؤال بحثت عن إجابه له طيلة حياتك؟
حمل الأستاذ حقيبته واضعًا فيها مستلزمات الدرس وفتح باب القاعة ليخرج نصفًا من جسده ملتفتًا لهم وهو يقول: ما زلت أبحث في نفسي عن أهم سؤال لابد وأن يبحث عنه الإنسان، ثم أخرج كتابه الأسود وقال: دوّنت في هذا الكتاب أسئلتي كلها، واخترت أهمها وبحثت عن إجابة له... لكنني كلما مرّ العمر زمنًا تغير السؤال وتغيرت الطرق... وتغيرت أنا، من دون برٍّ ترسو فيه سفن أجوبتي بينما أنا على شفا حفرة من الموت.

أمير ناظم
٢٠٢٠

تعليقات

نص الكتاب الاسود الذي خصنا به الاديب والسارد أمير ناظم ، نص محير مفعم بسيل من الاسئلة الوجودية المربكة ، ارتأى الكاتب صياغتها في قالب فلسفي يضج بالسخرية تارة وبالجد تارة أخرى، بطلها استاذ التاريخ ، هذا التاريخ العصي عن الفهم الذي يختصر حيوات وتجارب وقصص متنوعة حفلت بالنجاح وبالفشل ولنا في صفحاته عبرة..
حتى أننا نجد أنجح القادة وأشهر الفلاسفة يصرحون وهو على فراش الموت أنهم فشلوا في حياتهم برغم النجاح الذي احرزوه
أشياء عديدة تعالجها القصة وأسئلة كثيرة تطرحها القصة الاستاذ نفسه تهرب منها

كل التقدير اخي
 
أعلى