مقتطف محمود شاهين - عديقي اليهودي(29) * مبروك يا عارف ! (30) * يوم الحب والألم!

(29)

* مبروك يا عارف !

- هل تصحبني معك لأحضر تقليدك الوسام من قبل الرئيس حبيبي !

تنهد عارف وصمت للحظات :

- يسعدني ذلك حبيبتي لكني لم أطلب اذنا باصطحابك ، رغم اعتقادي أن الرئيس سيسر لحضورك . ثم إنني لم ألتق الرئيس منذ 36 عاما وربما نسيني في خضم عمله .

- هل التقيت به من قبل ؟

- كثيرا . وأجريت معه لقاءات صحفية .. وعملت معه في مكتب دراسات كان يرأسه . وكتبت رواية عن هجرة اليهود بتكليف من المكتب . وكنت سأعمل معه في مشروع سياسي حينذاك ، لولا أنني تركت المكتب لخلاف مع مديره . وكان آخر اجتماع معه بحضور الرئيس عرفات حول ذلك المشروع . لم أره بعد ذلك إلا يوم حفل افتتاح مهرجان ثقافي فلسطيني أقيم في المركز الثقافي السوفياتي حينها .. كان ذلك في دمشق أواخرعام 1981.

- ولم تلتقيا بعد ذلك !

- لا أذكر . حدثت حرب 1982 . ثم الخروج من لبنان .. وأحداث كثيرة جرت ، و لم أذهب إلى تونس لظروفي الخاصة وليس لسبب سياسي.

- هل كنت مع اتفاقية اوسلو أم كنت ضدها .

- سياسيا كنت معها لأنه لم يكن هناك غيرها أمام الفلسطينيين نتيجة للظروف السياسية والموضوعية التي كانت سائدة حينذاك . بل ورأيت أن فيها حكمة ما للخروج من الوضع الذي وصلنا إليه . المشكلة أن أحدا لم يتصورما كان يفكر فيه بعض زعماء اسرائيل ، كنا نظن أن الدولة الفلسطينية ستقوم بعد خمس سنوات ، بينما يفكر بعض الإسرائيليين في عدم قيام دولة فلسطينية حتى بعد 25 سنة !

- ألا ترى أن لاغتيال رابين دورا ما في هذه المسألة !

- بل الدور كله ، والأمر نفسه ينطبق على اغتيال ياسر عرفات . وآمل أن لا يلجأ اليمين إلى الأمر نفسه في هذه المرحلة ويقدم على اغتيال أبي مازن .

- آمل ذلك . مع انني لا أثق باليمين الإسرائيلي بمختلف اتجاهاته .

- والفلسطينيون مختلفون ومنقسمون ، والمرحلة تتطلب وحدتهم وتضامنهم مع قيادتهم ، ممثلة بالرئيس عباس ، وكل ما هو غير ذلك خطأ حسب رأيي . التحرك الجماهيري السلمي الذي بدأ منذ قرار ترامب ويتصاعد اليوم أمر جيد .

قالت سارة بعد إطراقه :

- اوكيه حبيبي . لا أريد أن أكركبك في الذهاب معك . أتمنى لك لقاء سعيدا مع السيد الرئيس.

******

كان اللقاء حارا مع السيد الرئيس .. حضرعارف نذير الحق بصحبة وفد من مكتب الرئاسة اصطحبه لتقليد الوسام . عانق الرئيس بحرارة ، وفوجئ عارف بأنه ما يزال يذكره جيدا رغم كل هذه العقود المنصرمة. وذكره بكتبه الأخيرة التي وصلت مهداة إليه ، وسأله عن أحواله وصحته ، ثم قام بتقليده وسط حشد من المسؤولين ورجال الإعلام، وسام دولة فلسطين من رتبة " فارس فلسطين " ومما جاء في ديباجته " نظرا لبطولته الفذة في انقاذ عشرات الأطفال الإسرائيليين من الغرق ، ولدوره الرائد في الثقافة الوطنية الفلسطينية الإنسانية الهادفة إلى إقامة السلام بين الأمم ، وتحقيق قيم المحبة والخير والعدل والجمال ، وبناء الحضارة الإنسانية " وقام عارف بشكر السيد الرئيس قائلا :

" جزيل شكري سيادة الرئيس ، لهذا الشرف العظيم الذي أحطتموني به ، والذي سيهبني المزيد من العزيمة ، لمواصلة عملي الإنساني في خدمة شعبي ، والعمل الدؤوب لإقامة السلام بين الأمم ، متمنيا لكم دوام الصحة والعافية "

******

عاد عارف إلى البيت فرحا منشرح الصدر، ليتلقى مباركة سارة.. عانقها وقبلها كثيرا كما لم يقبلها من قبل . لم يترك جزءا من وجهها وشعرها وعنقها إلا وأمطره بالقبل وهو يحاضنها ويدور بجسدها على أرض الصالون.. وما أن جلسا حتى فاجأته قائلة :

- اتصل أبي يريد موافقتك على حضور حفل على شرفك يقيمه أطفال كيدار ومعاليه أدوميم ، بمشاركة أهلهم ومعلمي ومعلمات الأطفال ..

" اوه ! " ردد عارف بدهشة وأطرق مفكرا في الأمر ، وما لبث أن هتف :

- فكرة مدهشة أن يكون هناك حالة مناقضة للقتل والإجرام وإزهاق الأرواح وإدماء الأجساد، واعتقال الشباب والأطفال ، على مدار الأيام في الضفة وغزة من قبل سلطات الإحتلال ، لعلها تشكل نموذجا إيجابيا للتأسيس لعلاقات مختلفة بين الشعبين تسود في المستقبل . وإن كنت متخوفا من اتهامي بالعمالة والتطبيع مع الإحتلال ، وربما قتلي من قبل القوى المتطرفة لدى الشعبين . ما رأيك أنت ؟

- إنه أمر محير حبيبي.. فإن تقبّل بعض المتطرفين واقعة إنقاذك للأطفال ، فلن يتقبلوا أن تشارك أهلهم ومعلميهم في حفلات. ففي الجانب الفلسطيني سينظر إليها كخدمة للإحتلال والقبول به والتعايش معه، وفي الجانب الإسرائيلي ستعتبر تعايشا مع الفلسطينيين الذين ينبغي أن يطردوا من أرض اسرائيل التي وعدهم الله بها !

- كم هو فظيع هذا الوعد الأسطوري الذي يصدقه اليهود بعد أكثر من ثلاثة آلاف عام على حدوثه ، بينما لا يصدقون وجود شعب ما يزال متمسكا بوطنه المغتصب بعد سبعين عاما على اغتصابه .

- أعتقد أنها أكبر مهزلة من مهازل التاريخ حبيبي !

- والمؤسف أن العالم يقبل بها ، ولا يسعى إلى نقضها !

- والآن ماذا سأقول لأبي ، هل ستوافق على إقامة الحفل ؟

- لا أعرف حبيبتي . لم أحسم الأمر بعد . قد أستشير الرئيس في الأمر ؟

- وأبي ما يزال متمسكا بدعوته الخاصة أيضا !

- للأسف الظروف لا تساعد .. هذه قد نعملها في وقت مناسب دون إعلام ودون معرفة آخرين . اعلام الإحتلال يجيّر كل عمل لصالح سلطة الإحتلال . وحفل كحفل الأطفال سيكون مادة عظيمة للترويج لنموذج التعايش الذي ينبغي أن يسود اليوم . وهذا ما حاولت سلطات الإحتلال أن تفرضه على واقع اوسلو !

- حبيبي ! طالما أننا نسعى إلى مستقبل أفضل للشعبين ، هل لك أن تقدّم لي تصوّرك لهذا المستقبل ؟

- لقد سبق وأن تحدثت باختصار مع أبيك عن هذا الأمر. مرحليا لا بد من إقامة دولتين ، دولة فلسطينية على حدود 64 عاصمتها القدس إلى جانب دولة اسرائيل. ومستقبلا قد تتحد الدولتان في دولة واحدة ..وإن شئت المدى الأبعد ، قد تتحول مع الأردن ومن ثم بلاد الشام كلها إلى دول متحدة . والمدى الأبعد منه ، قد يحدث هناك اتحاد يجمع الدول العربية كلها على غرار الإتحاد الأوروبي. العالم اليوم يتجمع في تكتلات ، ولن تكون هذه المنطقة من العالم بعيدة عن هذه الرؤية . وآمل أن يؤدي ذلك إلى وحدة أمم الأرض ذات يوم حسب ما أحلم !

- حبيبي دعنا الآن في أمر الدولتين . كيف ستحل مشكلة اللاجئين والمستوطنات مثلا .. هل سنزيل المستوطنات ليقيم فيها لاجئون فلسطينيون ؟!

- يمكن أن تبقى ، مقابل أن يعود بعض اللاجئين إلى بيوتهم وأراضيهم التي تركوها منذ عام 48 ، وأن تقام تجمعات سكانية لآخرين في اسرائيل .. وهكذا يكون استيطان مقابل استيطان إذا جاز لنا أن نسميه كذلك ، رغم أن عودة اللاجئين ليست استيطانا كون الأرض كانت لهم .

- وهل سيقبل الإسرائيليون الذين سكنوا بيوتا فلسطينية بإخلائها ؟

- يجب أن يقبلوا ، فهي ليست بيوتهم .

- وماذا عن اللاجئين الذين لن يعودوا ..

- لا بد من تعويض مادي يشمل الجميع ، من العائدين وغير العائدين ، لأنهم قضوا عقودا مشردين . يمكن أن يكون تعويض من يعود إلى بيته وأرضه أقل من تعويض الذي لا يعود .

- والتجمعات السكنية هل سيسمح بإقامتها للفلسطينيين في اسرائيل ؟

- ولماذا لا ؟ فالأرض أساسا هي فلسطينية رغم التلفيق الأسطوري الذي يستند إلى التوراة ، وينبغي أن يكون للفلسطيني الحق في أن يقيم في أي مكان فيها .

- وكيف سيعامل المقيمون في الجانبين .

- يخضعون لقوانين الدولة الحاكمة .

- وهل سيقبل الإسرائيلي أن يخضع لقانون فلسطيني ؟

- الأمر يتعلق بالأحوال المدنية غير الدينية .

- وماذا عن الدين ؟

- حرية االمعتقد تكون من حق الجميع ، من اليهووية إلى الإلحاد . بما في ذلك حرية الرأي والفكر.

- وماذا عن الجنسية .

- يمكن لمن يريد الإحتفاظ بجنسيته أن يحتفظ بها ويمكن لمن يريد أن يحمل جنسية الدولة التي يعيش فيها أن يحصل عليها !

- أليس هناك من حل غير هذا ، كأن يخلي المستوطنون جميع المستوطنات ليسكنها فلسطينيون ؟

- لن يكون الأمر سهلا على المستوطنين إلا بإرغامهم على القبول ، لكن المشاكل التي قد تنجم عن هذا الحل قد تكون اكثر مما سينجم عن الحل الأول . مع أن هذه الحلول ترقيعية حسب وجهة نظري . والحل المنطقي هو دولة واحدة للجميع كأن تحمل اسم " دولة فلسطين " أو " دولة فلسطين واسرائيل "

- ولماذا ليس دولة اسرائيل فقط ؟

- لأن الإسم دخيل ومصطنع ولا يعبر عن حقيقة تاريخية .

- مشكلة الدولة الواحدة قد تؤدي إلى أن يفوز الفلسطينيون بحكمها ، وهذا لن يرضي الإسرائيليين أو اليهود ..

- يجب أن يرضوا .. فالقبول بالدولة الواحدة يشير إلى ذلك ، خاصة وأن العرب سيصبحون أكثرية ، وربما أكثرية مطلقة في زمن قريب ، ويفوزون بحكم البلاد دائما ..

- مسألة معقدة !

- لم يعقدها إلا أصحاب النوايا الشاذة والعدوانية .

- ماذا عن استبدال أرض مستوطنة بأرض مستوطنة في اسرائيل ، حسب بعض ما يطرح ؟

- الأمر يتعلق بنوع ومساحة الأرض . ولن يكون هناك تكافؤ بين الأرضين ، فالأرض التي احتلتها المستوطنات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية ، أرض مختارة بعناية شديدة ، وهذا ما لن يتاح للفلسطينيين ليختاروه من الارض الواقعة تحت حكم اسرائيل منذ عام 48 .

- أف! قد نحتاج إلى معجزة لحل قضيتنا !

- نحتاج فقط إلى نوايا جادة للتوصل إلى سلام يضمن الحد الأدنى من حقوق الفلسطينيين ، أما عن اسرائيل فيفترض أنه ليس لها أية حقوق في أرض ليست لها . ومع ذلك قبل الفلسطينيون بالأمر الواقع . وهذا ما يصر الإسرائيليون على تجاهله ، والتمادي في الهيمنة والتوسع على حساب الفلسطينيين .

- الحق معك حبيبي. ألن تتغدى ، لقد طهوت وجبة خرافية !

- ما هي ؟

- فخذ خروف في الفرن !

- فانتاستك ! هيا إلى الغداء . سنعمل سلطة !

*****

(30)

* يوم الحب والألم!

استفاق عارف على مكالمة هاتفية من زوجته الأولى تهنّئه فيها بالسلامة والوسام . ثم جاءه هاتف من صديقة فرنسية . وآخر من صديقة سورية ، ثم تلقى هاتفا من زوجته النمساوية ، تبعه آخرمن صديقة ألمانية، وقبل ان تبلغ الساعة الحادية عشرة صباحا كان قد تلقى قرابة عشر مكالمات من زوجتيه وصديقات سابقات . بحيث أطلق على يومه هذا يوم الحب والألم لتذكره بعض ماضيه وما جرّه عليه من أفراح وأتراح !

دهشت سارة وهي تستمع إلى المكالمات وتبادل المشاعر التي مرعلى بعضها عقود وما تزال الصداقة قائمة . تساءلت سارة بدهشه :

- حبيبي كيف استطعت أن تحافظ على علاقات طيبة مع مطلقتيك وبعض صديقاتك؟

" ههههههه " ضحك عارف وأجاب :

- هن من يحرصن على ذلك حبيبتي لأنهن طيبات .. أما أنا فكنت عاقاً وفاشلا في علاقاتي العاطفية ، كنت أقرب إلى عاشق بلا حدود !

- وما الذي دفعهن إلى الإبقاء على صداقتك ؟

- ليس هناك غير صدقي يا حبيبتي . كنت صادقا مع زوجتيّ وصديقاتي، وصادقا مع الناس . يمكن القول أنني كنت أعيش بوجه واحد أظهر به أمام الجميع .

- كيف ؟

- لا أكذب !

- ألم تكن تخاف المجتمع ؟

- لا أظن ! أو لم أكن مباليا على الأغلب، ثم إن نمط حياتي لم يكن معروفا للناس، وإن كان ذلك ينعكس في بعض أحلامي أحيانا وخاصة حين أقدم على أمرغير مألوف للناس، لكني مقتنع بصوابه . ليس هناك موقف يتناقض مع الأعراف الظاهرة للمجتمع إلا وله ثمن شخصي يدفعه المرء بدرجات متفاوته . ربما من كان بلا إحساس لا يكترث للأمر ، وخاصة فيما يتعلق بالدين وحريّة المرأة والجنس !

- ماذا تقصد بالأعراف الظاهرة للمجتمع؟

- ظاهرالمجتمعات المتدينة غيرباطنها ، فالظاهر تدين وأخلاق عالية ، والباطن أمرمختلف ، تقدم فيه النفس على ما يلبي رغباتها حسب ما يتاح لها.. معظم الناس يصلّون ليس بدافع الإيمان ، بل بدافع الخوف من عذاب جهنم ، أو التكفير والإلحاد وما شابههما من قبل المجتمع . ما يجعلهم يحيون في ظل رهاب ديني اجتماعي.

- أليس هناك من يصلّي بدافع الذهاب إلى الجنّة أو غايات أخرى كالإيمان مثلا ؟

- أعتقد أن هؤلاء الفئة الأقل في المجتمعات .

- لنعد إلى الصدق . هل بوسعك أن تذكرلي مثلا عن صدقك مع النساء !

- لماذا هذا الإحراج حبيبتي ؟

- هل تخجل منّي ؟

- لا ، لا أخجل ، المشكلة الآن أنني لست الرجل الذي كنته في ما يخص علاقتي بالمرأة ومسائل أخرى ، أكاد أن أكون زاهدا في كل شيء، ومنذ قرابة عقدين من الزمن . حياتي بعد سن الأربعين بدأت تتغيرإلى حد كبير . سأذكر لك بعض القصص. حين أحببت ذات يوم روسية خارقة الجمال اسمها جينيا ، كنت في موسكو حينها ، وفي حدود الثامنة والعشرين من عمري وهي في التاسعة عشرة ، سألتني قبل أن تقيم علاقة معي " هل أنت متزوج؟" قلت لها ما لم تتوقعه " أنا متزوج وأحب زوجتي ، وكلما أحببت غيرها ، أحببتها أكثر" أدهشتها الإجابة المعقدّة التي لم تسمع مثلها من قبل . تغدينا معا.. ومن ثم ذهبنا لممارسة الحب !

- فعلا . أمر غريب ، لكنه ينم عن صدق ذكوري . لكن كيف تعرفت إليها ؟

- أعجبني تعليقك " صدق ذكوري " فأنا كنت ابن الذكوريّة وتربيتها، وإن حاولت التخلص مما أورثتني ! أمّا عن التعارف ، فقد كنت أتجول في معرض لمنتوجات مختلفة للجمهوريات السوفيتية .. ولفت انتباهي جمال فتاة ترتدي ملابس صفراء كملابس رواد الفضاء . تحرشت بها بالإنكليزية متسائلا عما إذا كانت تجيدها ؟ أجابت بعد أن لمست طريقتي المهذبة في التحرش: أجل ! قلت لها: أنا سائح ولا أعرف شيئا هنا ، فهل بإمكانك مرافقتي لمساعدتي؟ قالت : بكل سرور!

- وماذا أيضا ؟

- حين قررت فتاة نمساوية أن تقيم علاقة حب معي ، قلت لها حتى لا تبدو ذات يوم وكأنها مخدوعة أمامي : أنت لست الأولى ولن تكوني الأخيرة ، فهل تقبلين إقامة علاقة حب معي على هذا الأساس ؟ قبلت . لكنها سألتني : وماذا عنّي أنا ؟ قلت لها أنت مسؤولة عن نفسك بالتأكيد وحريتك بيدك !

- ماذا حدث بعد ذلك ؟

- مارسنا الحب كالعادة ، لكن ، وحين سافرت لبضعة أسابيع ورجعت ، سألتها عما إذا مارست الحب مع أحد خلال سفرها . قالت أنها مارسته مع رجل . ولم أجد نفسي إلا وأنا أبكي من أعماقي ! فوجئت بالأمر . لم تتوقع أن يكون الأمر مؤثرا عليّ إلى هذا الحد . تأسفت وقالت أنها لن تفعلها ثانية . قلت لها وأنا أبكي : أنت تمارسين حقك في الحياة في أن تكوني حرة يا حبيبتي ، وأنا مع هذه الحرية ، لكن هناك ثمن أورثنا إياه المجتمع الذكوري ، وينبغي أن ندفعه ، ونتحمل فيه عواقب سعينا إلى التحررمنه ! أنا لست عطيل ، وأنت لست ديدمومنة ! نحن بشريا حبيبتي ولنا أهواؤنا وأمزجتنا وتطلعاتنا ورغباتنا ، وينبغي أن نعيشها قدرالإمكان دون الإساءة للآخر، حتى لو كانت تتناقض مع أعراف اجتماعية بالية ، وتربية ذكوريّة متخلفة !

ضمت سارة رأس عارف إليها وقبلته . تساءلت :

- كيف تعرفت إليها ؟

- كانت تسأل عني في دمشق وتحمل كتابا مترجماً إلى الألمانية يحتوي بعض قصصي ، فهي كانت تعد رسالة ماجستيرعن القصة الفلسطينية .

- هل هي من تزوجتها ؟

- أجل !

- يبدولي أن الغيرة الجنسية غريزة في الإنسان أكثر مما هي اكتساب مجتمعي .

- صحيح . لكن التربية قد تساعد على تنميتها أو الحد منها . فلا يعقل أن يقدم رجل على قتل زوجته لمجرد الشك أو حتى الخيانة الزوجية . وجرائم القتل الأخرى التي ترتكب ضد الأخوات والبنات بدوافع الشرف، لها علاقة ما بالغيرة أيضا وليس بالشرف! ويندر أن نجد رجلا قتل من قبل امراة بدافع الغيرة أو الشرف . فالمرأة قادرة على تحمّل غيرتها على الرجل .

- ربما تبكي كما حدث معك حبيبي. إنها ردة فعل جميلة وإنسانية كما أرى !

- ليس هناك ما هو أصعب من أن يكون الإنسان منسجما مع فكره . المجتمعات لا تخرج من حالة اجتماعية أو نظام اجتماعي محدد ، إلا بثورة ، أو شبه ثورة . كم من الصراعات والثورات وشبه الثورات حصلت في أوروبا ، لعزل الدين عن الدولة ، وتحريرالمرأة من حزام العفّة الفظيع الذي فرضته عليها الكنيسة والمجتمعات الذكوريّة ؟

- لم أسمع عن هذا الحزام وأكاد لا أصدق أنه كان يستخدم !

- بل كان يستخدم وعلى نطاق واسع عند خروج المرأة من البيت أو غياب الرجل، وخاصة من قبل المحاربين المشاركين في الحروب . كانوا يرغمون زوجاتهم على ارتدائه وإقفاله بقفل حديدي يحملون مفتاحه معهم !

- أمر فظيع ، أقرب إلى الأساطير! كيف كانت المرأة تحتمل كل هذا العذاب ، خاصة وأن المحارب قد يغيب شهورا وربما سنة عن البيت ؟

- أكيد كانت حياتها مأساة وخاصة مع اللواتي يوضع عليهن حزام حديدي وليس جلديا!

- هل كان العرب يستعملونه ؟

- لم يرد ما يؤكد استخدامه على نطاق واسع ، ليصبح حالة اجتماعية كما في أوروبا وحتى الصين والهند حسب ما قرأت ، وإن قيل أن الأشوريين والفراعنه استخدموه . ربما استخدم بشكل محدود. تروى في بلدتنا طرفة عن أحد الأجداد ، أنّه أخاط فرجي زوجتيه حين ذهب إلى الحج . وكانت إحداهما عفيفة والثانية ليست كذلك ، فقامت هذه بفك الخيوط ومارست الجنس. وحين عاد الحاج ، استقبلته زوجتاه بالرقص والغناء وضرب الدّف. غنّت غيرالعفيفة قائلة " من فرحتك يا بوعلي وتقطعن قطبانه " وغنّت العفيفة " من فرحتك يا بو علي برقص وقطبانه فيه "

راحت سارة تضحك .. تساءلت :

- ألم يكن هناك حزام عفّة للرجل ؟

- قرأت أن الكنيسة فرضت ذلك أيضا على الرجل في أوروبا حتى لا يمارس العادة السّريّة ، وأشك في أن يكون الأمر قد طبق على نطاق واسع ! ربما من قبل رجال محدودين كان للمرأة سلطة عليهم .

الجنس في الحضارات القديمة كالسومرية والبابلية كان يمارس بشكل جماعي في المعابد كطقس مقدس، للتقرب إلى الآلهة ، وهذا يعني أنّه كان يحمل شعوراً روحياً ، وكانت عذرية الفتاة تهب للآلهة ، كما في عبادة عشتار ، حيث كانت العذراء كما يروى تجلس في المعبد أو أمامه منتظرة أول قادم ليفض بكارتها ، كنوع من التقدمة القربانية للإلهة !

- كيف تتصور العلاقات الإنسانية في المستقبل ، فيما يتعلق بالحياة الزوجية والجنسية ومسألة التكاثر ؟

- تطرقت إلى ذلك في بعض كتاباتي . الحياة المادية تطغى على علاقات البشر ، بحيث تكاد الرومانسية والروحانية وحتّى الإنسانيّة بمفهومها الواسع، أن تنتهي من العلاقات الإجتماعية . تصوّرت مجتمعات تنقرض فيها الحياة الزوجية ، لمعظم الناس . وأن التكاثر فيها يتم بوسائل صناعية ، أو عبر نساء مختارات مخصصات للإنجاب ،يطلق عليهن الأمهات ، يمارس الخصب معهن أيضا رجال مختارون ، وتكون الغاية من الممارسة هي الإنجاب. إنها مجرّد تصورات، فلا أحد يمكنه أن يدرك بالضبط ، نمط العلاقات الإنسانية في مجتمعات ما بعد ألف عام أوأكثر .. حتى الآن ما تزال المؤسسة الزوجية هي الأمثل لتكاثر المجتمعات ، والعلاقات الحرّة تظل محدودة ، وإن كانت تكثر مع تقدم الزمن . العالم يفكر منذ عقود في إيجاد مجتمعات بعقول متفوقة ، لا أحد يدرك بالضبط ما نمط العلاقات التي ستنجم عن هذه العقول . يمكن أن يتحوّل الشعور الجماعي إلى شعور انساني .. المسألة تتعلق بنوع العواطف والمشاعر التي ستنتج عن علاقات حرّة.

- ألا يمكن لفكر فلسفي كفكرك مثلا أن يفرز مجتمعات إنسانية ؟

- المسألة تتعلق بمدى صواب الفكر وأخذ الناس به ، فإذا ما ثبت للبشر ذلك ، وأخذوا به ، سينجم عنه علاقات إنسانية عظيمة تخدم الإنسان وتبني مستقبله .

*******

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى