أمل الكردفاني- بوسيدونيا- قصة

إنني حر تماماً، آه.. كلما زدنا معرفة زدنا معرفة بجهلنا أضعافاً، لذلك تبدو لغتنا مفككة، إنني حر تماماً، يمكنني أن أقسم هذه الجملة لخمس فلسفات ضخمة وعظيمة على مر التاريخ: (أنا) ، (حر) ، (تماماً) ، (أنا حر) (حر تماماً)، يا للعنة، يا للعنة أن تدرك بأن جملة بسيطة كهذه الجملة هي أعقد مما يبدو عليه إطلاقها هكذا في فضاء التداول. لكن من راقب حديثه بهذه الطريقة مات هماً، وربما عاش مجنوناً، وغالباً سيفقد قدرته على التواصل مع الآخرين، تماماً كالنحوي، الذي ما أن يتحدث معك حتى يكشف عشرات الأخطاء النحوية في حديثك، فيضيع جوهر الحديث في تصحيح اللغة، إن النحوي يجب أن يتخلى عن مراقبة صحة الأحاديث نحوياً حتى يتمكن من التواصل مع البشر وعلى الفيلسوف والطبيب والمهندس والمحامي..أن يفعلوا ذات الشيء. وهكذا فإنني "حر تماماً" بغض النظر عن حمولات هذه الجملة أنطولوجياً وسوسيولوجيا وحقوقياً...، حر لأنني أغوص في الآن؛ في لحن موسيقي حزين فأحزن، صاخب فأرقص، أرى امرأة جميلة فأحلم، زهرة مرتعشة وسط ثلوج الشتاء فأتدفأ بالنظر إليها، أتذكر أعدائي فأخوض حرباً عالمية ثالثة ورابعة وخامسة في خيالي، أنمي شعوري بالعظمة، وأستغل شعوري بالنقص لتنمية حقدي على العالم، أتقزم أمام الواقع وأشيد قصوراً سوداء تثقب ذؤابات حراب قبابها الحادة سحب الليل الرمادية تحت ضوء القمر الشيطاني. إنني بطل، وجبان، بخيل، ذكي وأبله، ومعقد وبسيط..شيء ولا شيء...نصف إنسان ونصف إله..، محب وحقود..، سطحي وعبقري..، لأنني حر، في كل آنٍ يعبرني وأعبره. ولذلك فلا بأس أن ينعتني البعض بالأهوج، وبالسخيف، وبالشر المحض، باللطيف، بالمتحضر، بالطيب، إن كل ذلك لا يهمني، لأن كل ذلك لا يستطيع إنتزاعي من فوضى حريتي. من عظمتي وقداستي، وسموي وانحطاطي وتفاهتي وعدميتي ولا جدواي. وحين أسير في شوارع مملكة أنتي بن بوسيدون الذي قتله هرقل وتمادى فاستاثر بزوجته طنجة، أسير في أزقتها التي تشبه محيط خصرها ونهديها والتفافات ردفيها، هنا حيث سار أنصاف الآلهة، وتصارعت الفلسفات والمذاهب، وأبادت كل أمة أختها، وتعايشت كل الأمم، هنا غذيت خطاي بلا هدف كعادتي لأتحرر أكثر وأكثر، هنا يا طنجة التي لا هوية لها ولا هوية لي سواها، عشت كدودة ونسر، كفينيقي وغماري وأمازيغي وإدريسي وأموي وعامري ومرابطي وموحدي وعزفي ومريني وبرتغالي، وإسباني وإنجليزي وعلوي.. عشت كل شيء فلم أكن لذلك شيئاً.. وهذه الظهيرة الصحوة، لم تقوض روح الموت والحياة في أعماقي المشوهة كالتاريخ، بل دفعتني لوضع سماعات الأذن وربط حذائي الرياضي والعدو حتى المحيط الذي كان يحاول تمزيق الصخور بيأس، فوقفت أتأمل صراعه الأزلي مع اليابسة حينما عبرته جميع السفن غازية طنجة ثم أضحت تدافع عن موطنها الذي غزته، من غزوات الغزاة. ألم أقل أن التاريخ شائه، وأن البشرية تبدو حمقاء أكثر كلما توغلت في ماضيها، الذي هو ماضي كل البشرية..هنا جرب الأوربيون البيض حياة العبودية كما جربها من استعبدوهم بعد ذلك، ومن هنا خُلق الحاضر، ومن هنا تحدد مصير نجازاكي في اليابان قبل خمسمائة عام من قصفها. يبدو كل شيء مضطرباً وفوضويا، هزلياً وسمجاً، مخاتلاً وصادقاً. لذلك ليس عيباً أنني عشت في طنجة دون أن أتعلم السباحة. كان يبدو الأمر مضحكاً أن أبحث عن المتعة وراء اليابسة..ما دمت لست قرصاناً يبيع شاباً إسبانياً كعبد. لقد عشت حراً تماماً، بدون فلسفة فما حاجتي للتوجس من البحر. أليس ذلك هو المحيط بزرقته الرهيبة الذي تبتلع هيبته قلوب السفن الحربية الغارقة الآن في قيعانه..ما المخيف فيه؟ لا شيء.. هناك على بعد نصف ميل بحري، تتحرك سفينة صيد ترفع علماً لدولة لم تولد بعد، ولكن تاريخ ميلادها كُتب ها هنا. فمن أناْ لكي أخشى المحيط..الزبد الأبيض يضرب بطن الصخر ويتبدد كصرخات أم ثكلى. وأنا فوقه على مسافة ستين متر..، ومع ذلك أرى طحالب خضراء لزجة تتشبث بالثلم الصخري..تحاول الحياة كما فعل أجدادها مع أجداد هذا الثلم...لا موئل لشيء..طيور البحر تزعق وتستنشق ريح السمك، وتعوم في السماء وهي تحلق في فلك مقوس لأسفل..هل بإمكاني أن أفعل مثلها.. ولِمَ لا.. أنا دائماً حر..ولذلك فأنا قادر...وسمعت صوتا قرب ساقي يقول "لستَ أكثر حرية مني".. فنظرت وإذا به كلبٌ فتيُّ الجسد، يقف متأملاً المحيط..قال بصوت رخيم "ليست العدمية سوى حريتنا يا زميل المشهد... إنك تنتعل حذاءً رياضياً أما أنا فعارٍ إلا من جسدي الحر.."..ثم قفز إلى المحيط...كانت الأمواج تدور بجسده وعينيه الجاحظتين مع صمت إصراره الحاسم...ذيله يلتف تارة حول رقبته الطويلة، وتارة يتمدد مع دوامات البحر..قبل أن يختفي جسده في الأعماق..ومات حراً...حينها جلست متأملاً ما بعد طنجة..فلكل كائن حي بطولاته الخاصة به، كبطولات الشعراء والروائيين والسياسيين والجند والرجل في الفراش وذلك الكلب المنتحر..أما بطولتي أنا فأن أبقى حياً رغم حريتي..، وهل هناك أصعب من تلك المعركة..أن تظل حياً رغم حريتك؟..
...
بضع كيلومترات من شارع باستور ثم أمضي عبر الازقة، وبما أنني حر فإنني لم اتعلم العزف على الجيتار ابداً ومع ذلك فعلي أن أعزف وعلى العالم أن يسمع ضوضائي، وأن يمنحني كل شخص مقداراً من المال لكي ابتعد عنه، إنني لست متسولاً بل كالحكومات أفرض أتاواتي على من لا يستطيعون المقاومة، وغالباً أنال علقة ساخنة، لكني افلت من بعض من يقاومون سلطتي. وهذا ليس بالشيء المهم، فإن اختباري للبشر أثبت لي أن أغلبهم جبناء، ويميلون للاستقرار في وضع العبودية حتى دخولهم القبر. إنهم يتكبلون وهم يشيدون زنازينَ حول أجسادهم وعقولهم وعواطفهم منذ ميلادهم، ولذلك فقلة من يخوضون معاركَ دفاعاً عن حرية لم يعرفونها يوماً ما. عشت في هذه الغرفة المتهالكة التي تشاركني الفئران والصراصير سقفها، والبق والقمل أرضها، يتوسط أرضها موقد الكيروسين، وقُلة طينية، وفرشة من الحصير، ووسادة جميلة من ريش النعام أهدتها لي فتاة يهودية نامت معي قبل ثلاث سنوات، لم استخدم تلك الوسادة إلا قريباً، لأنني كنت أشم فيها عطر اليهودية الوحيدة التي بقت من نسل يهوذا في طنجة، ثم غادرت إلى أرض الميعاد بعد أن استيقظت فوق حصيرتي مباشرة. لقد اكتملت أوراقها وعبرت إلى هوية مصطنعة أخرى. لقد سألتها: هل تؤمنين بالصهيونية؟ فنظرت لي وابتسمت قائلة: لا تجعلني أكذب..فعندك فقط لا أجبر على الكذب. ولقد أسعدتني إجابتها أكثر مما لو كانت قد كذبت وقالت بأنها تحبني. هذه أرضي المحررة..غرفتي هذي، هي ليبرلاند الجديدة.
أجلس مساء عند العجوز صائب صاحب المكتبة القديمة على ناصية زقاق يدعي مانشيه، فيعطيني كتاباً ولا يمنحني فرصة قراءته، لأنه يثرثر عن تاريخ طنجة، يظن بأنه يعرف كل أسرها الراسخة، ويخطئ كثيراً في ذلك، وحين أحاول تصويبه يغضب ويأخذ الكتاب من يدي ويطردني وهو يكيل لي السباب، حتى أختفي من ناظره، لكنه ينسى كل شيء في اليوم التالي، وكذلك أنا. إن الحُر لا يتذكر كثيراً، وكذلك العجوز الخرف..فكلانا أبناء اللحظة الراهنة.
إن عدو الحُر الوحيد هو الزمن..لأنه الذي يتسرب أثناء نشوة الحرية، ويحيل نهارك لسواد قاتم. يقول العجوز صائب بأنه يعيش أجمل أيام حياته، وقال ذلك لي عندما كنت طفلاً وكان كهلاً، وقال ذلك قبل أن أولد...وكانت كلماته تلك تهزم عدوي اللدود دائماً. وتقول ابنته لي حين تلتقيني في أمسيات مظلمة: "إلى متى ستظل وحيداً؟".. فأجيبها، وإلى متى ستظلين وحيدة؟.
هذه انعطافة مصطنعة لحوارها عندما يشتد بها الأمل. تدرك أنني حينئذٍ سأصفق صفقتين واختفي مباشرة من أمامها كجني. "ومن لا يعيش وحيداً في هذا العالم؟"...أقول وأنا أمضي قافزاً من مكان لآخر، كبرغوث نشط..إنني فقط أتشوق لمعرفة نهاية قصتي فأنا دائما في أجمل أيام حياتي..قفوا قفوا... تجمعوا..هيا..هيا.. استمعوا لي.. انصتوا يا مرتادي سوق دبرا والنازحين من عرب الجبال ومن أزقة أحيائكم الخالية من الخضرة العابرين باب الفحص والباحثين عن معنى لوجودكم المنقطع عن أجدادكم ..هلموا فسأمثل أمامكم مسرحية هزلية بائسة ولكنها مضحكة.. من يضحك عليه ألا يدفع شيئاً ومن لا يضحك فيعاقب بدفع تعويض مالي يسير... تعالوا.. نعم.. هنا.. هنا.. إنني ساحر قديم ..ساحر أحول كل الأشياء لذهب.. ضعوا أموالكم داخل هذا الطبق النحاسي القديم وانظروا كيف ستتكاثر تلك الأموال... نعم.. جربي أيتها العجوز فإنك من أصول أندلسية..وأنت أيها الأسمر مفتول العضلات فأنت أمازيغي شريف.. هيا يا أبناء الكناوة..وبواقي الجزائريين والسوريين واليهود.. ضعوا نقودكم وانظروا كيف ستتضاعف شيئاً فشيئاً... ها.. هيا.. نعم.. المزيد المزيد.. المزيد المزيد... ها قد انتهت لعبتي السحرية..هل رأيتم كيف تضاعف المال.. نعم يا سيدتي تضاعف المال.. ألا ترين؟...هل وضعتِ أنتِ كل هذا المال؟ لا.. إذا فلقد تضاعف كما قلت لكِ ولم أكذب..ضحكتك جميلة جداً.. ضحكاتكم جميلة جداً ولكن ليس مثل ضحكتها..نعم .. هكذا هي الحياة.. كانت طنجة أرضاً بلا بشر يوماً ما.. ولكن.. من منكم هو الأصيل فيها اليوم... نعم؟ هل أنت متأكد أيها الأمازيغي؟.. لا.. بالتأكيد لستَ متأكداً.. هل أنتِ يا سيدتي..لا.. ولا أنت..ولا أنت؟.. فمن هو الأصيل هنا؟.. لا تصدقوا أن هناك عرق خالص في هذا العالم..لذلك فأنتم جميعاً أصيلون هنا وجميعكم غرباء... حسناُ..لقد انتهت مسرحيتنا اليوم... فكروا .. ناقشوا أكذوبة هويتكم جيداً بعد أن أغادر.. إلى اللقاء.. إلى اللقاء..قبلاتي..
ها هو الميناء القديم.. حيث دارت معارك مفصلية في التاريخ البشري.. ولكن..هل هناك معارك مفصلية بالفعل؟.. إن المسألة برمتها لا تعدو أن تكون مرتبطة بالزاوية التي سنكتب منها التاريخ...ماذا لو عاش الجميع في سلام؟ هل كان التاريخ ليتوقف عن المضي؟.. إذاً .. فالسلام مجرد هدنة لا أكثر... لقد انقضى يومي على أحسن حال.. لقد التقيت بالكلب المنتحر وبالعم صائب وبابنته وتذكرت اليهودية وملأت جيوبي بمال يكفيني بضعة أسابيع قادمات... ومع ذلك..لا زلتُ حراً.. أنا حر تماماً..

(تمت)..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى