فهد العتيق - متتاليات ليلة البارحة.. قصة قصيرة

نمت جائعاً وظمآن ، قرأت في كفي غزالة وأيقظتني فضحكت ملء فمي: يا وجوه قاع الكأس. صحوت جائعا وظمآن ، فتحت القلب للهواء والنهار، كفاي خطوط بلا انتهاء، حدقـّت في تعرج خط من رأس الإبهام حتى الذراع فإذا نهر من ماء مغشوش، أطلب كسرة من نجمة ساقطة ، تختلط اللعبة بأغنية عن ثورة جبل أفاقت على صوته مدينتان وشمس ، وكنت أحدق في خط تعرج من رأس الإبهام حتى الذراع.
نهضت في صباح شقي ، مشيت فلم أبصر غير الجدار، اصطدمت بفتحة الباب الواسعة فسقط ذراعي في الهواء وتبعه جسد موبوء بمرض الحالمين ، وقعت على الأرض، نهضت ، فتحت النافذة فرمتني جارتي بوردة بنفسجية للصباح . دخلت غرفة البارحة ، رأيت بقايا في كؤوس متسخة وضجت روائح قديمة ، نظرت في قاع كأس فلم أر وجوه الأصحاب ، رأيت كسرة من نجمة ساقطة ، ومسافة حزن بيني وبين ليلة البارحة.
البارحة عصرنا القوافي واستمطرنا الشعر وشربنا نخب الصداقة ، ذهبنا في الفرح وكانت الأسئلة الكبيرة تنهزم والوقت بديعا تحسست فيه شيئا من دفء في عيون حاضرة يملأها فرح بشري طهور، قلنا ندخل معاً قاع الكأس والمدينة لامعة تشع فينا، استحضرنا الأرض مسطحة وكان وقتاً ممتعا فلا الأرض كروية والوقت مدى طويل . من فتحة النافذة أطلت وردة ، قمت إليها قبل أن يبين سهيل فصبت في عيني حزنا من عينيها وولهاً كدت أضم شواطئه القمرية الأنيسة ، وعدت أربط وجوه قاع الكأس بخاصرتي.
كنت البارحة فرحا ، رأيت فجوة ترسل أشعة ذهبية تغمر الوجوه حولي ، وسمعت الأصدقاء يهتفون بفجوة المستقبل ويحفرون بأظفارهم في الحائط ، غمست إبهامي في كأس ملآن وجئت به على صدري ، ضغطت بقوة ، رفعت إبهامي، رأيت نهرا يجري ويغمر ذراعي . والبارحة يا جارتي أخلفت ثلاثة وعود ، تركت المدينة والناس ورتابة طقوس الدخول والخروج اليومية ، بلا أي شيء ، وعد يعقد قرانا وآخر يفسخه وثالث، وجدته ينسل خفية من خيط الذاكرة ، وأحدثك عن وقتي التالف فأرضي دوما مسطحة، والشمس تجيء وتغادر دون أن أراها فقد لففت كل شوارعنا الصغيرة والكبيرة مراهقا وكاد يخدعني طريق واحد للحياة لم أر سواه في هذه المدينة ، وبدأت في غرفتي الصغيرة آكل كل الدروب ، وأفلس وجودي المشطور بين غيمه لا تأتي واشتهاء وجهك العائد دائما من شوارع خاوية لا تنتهي.
قلنا في البارحة المزهرة : من يسقط حين يبين القمر يسمى قمراً ومن يسقط حين تسطع نجمة سهيل يسمى سهيلاً ، رأينا سهيلا يتكئ على صمت وعروق دمه خضراء ثائرة في وجه صيرته الكآبة شاحبا لا يعكس ضوء المكان ، ونجمنا الخافت رجل منذ طفولته، سطعت العبقرية في عينيه طفلا ومشى ، لكن أشجار المدينة تحركت وراحت تجر جذورها في وجهه فجعل يصدم الواحدة تلو الأخرى حتى انكسر وجاءنا يستريح من عناء عمر صغير شقي ، وبحجم بؤسه صار يركض مهووسا وينثر حلمه المكسور بيننا.
صحوت هذا الصباح جائعا . لا يرى القلب من نهاره غير الضوء ، ولا ترى الأحداق غير نافذة موصده غائبة، وبقايا كؤوس وسجائر محروقة ، كفيّ معلقة وإبهامي تجري مياهه الفاسدة. غفا قمر في منتصف ليلة البارحة فاستعرنا من نوره أخبار المدينة ، فإذا عصافير ظمأ راقدة في أعشاشها ، منذ حلمنا ما لبسنا فيها ثوب احتفال ، وكانت الغرفة محمولة على أكتافنا فتعشب أجوافنا تعبأ. نهض قمر ومشى مجدفاً بيديه وضارباً الأرض بقدمين رخويتين : سوف آكل رأسي يا سادتي . وقال متقدما خطوة أو خطوتين: أهلا . ما هذا .. قلنا : قفص العصافير . وكان نائما . قال وهو يرتد للخلف : إذن هذا هو. إذا لم تكن مريضة هذه الطيور أكلت رأسي ، ثم ضحك ، وقبل أن يسقط فتح باب القفص وأطلق العصافير. وعن قمر أقول لك إنه الأرض المباركة التي لا تنجب إلا بضرب الفأس ، وهو أيضا ضحية لغة فاسدة وحديثة عن الهلوسة أو الخوف . في البدء سقط سهيل وتبعه قمر وكنت مفيق حتى التعب ، خفيرا على حلم طويل ، ووجهك لم يظهر هناك ، أركض ولا أجده ، قلت : ضاعت في المدينة وردة، وأنا أعرف مدينتنا.
صحوت جائعا وظمآن. ليس سوى بقايا كؤوس متسخة ورائحة قديمة وجسدين متقاطعين لقمر وسهيل وقفص مفتوح هربت عصافيره. حدقت في الكأس الملآن فإذا كسرة من نجمة ساقطة ومسافة حزن أو حزنين بيني وبين ليلة البارحة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى