إسراء غاندي - شظايا قلب..

في أحدِ صباحاتِ شُباط البارِدة، استيقظ أهلُ قريةِ نيورمي على أصواتِ تَحطُّمِ زجاجٍ.. كانَ الصوتُ عاليًا، سمِعهُ آخرُ شخصٍ يقطُنُ القريةَ، على بُعدِ مئةِ بيتٍ مِن المصدر. هرع جميعُ السُكّانِ في فزعٍ حتّى وصلوا إلى مصدرِ الصوتِ؛ بيتِ الزعيمِ كاثيو الأكبر.. بدا كُلُّ شيءٍ في الخارِج على ما يُرام، ممّا زادَ حِيرةَ النَّاس، فَأرادوا الولوجَ إلى المنزل كي يفهموا ما الَّذي حدث، ولمَ صوتُ التحطُّمِ عالٍ إلى هذا الحدِّ!
وسطَ الجَلبةِ صاحَ صوتٌ رقيقٌ، مُبتلٌّ بِالدُّموعِ مِن بينِ الحُشود: "كانال.. كانال.. أووه يا إلهي أتمنّى ألّا يكون قد أصابهُ مكروه". تجاوزتِ الفتاةُ الحشودَ، دفعتِ البابَ بِقوَّةٍ ودخلت أخيرًا، وصلت إلى غُرفةِ الفتى كانال.. "طائرُ الحُبِّ" أو "الفتى العاشِق" كما يُحبُّونَ أن يُسمُّوه، فَوجدت أبويه على الأرضِ بجانبِ سريرهِ يبكونَ بِحُرقةٍ وأيديهما تقطُرُ دمًا، نظرتَ حولها فلم تجد كانال، بل وجدت بدلًا عنهُ زجاجًا كثيرًا مُلقً، على السرير، وفي الأرض، وفي أيديهم.. زُجاجٌ شفَّافٌ نقيٌّ كنقاءِ قلبِ كانال ونقاءِ حُبِّه. لطالما أخبرها أنّهُ يُحبُّها كثيرًا، رُغمَ أنفِ القبيلة، وسيتزوَّجُها ويثبِتُ لهم خطأ اعتِقاداتِهم الَّتي تمنعُ أن يتزوَّجُ أحدُ أبناء قريتهم مِن القريةِ الأُخرى خلفَ نهرِ الغضب - حسب الأُسطورة الَّتي تقول أنّه إذا تناكحت القبيلتان سيفيضُ النَّهرُ ويُغرِقهم جميعًا-. هيَ أيضًا بادلتهُ الشُّعور لكنَّها كانت تؤمِنُ بالأساطيرِ أكثرَ مِن الحُبِّ، وتخافُ أباها أكثر.
لم يبقَ أحدٌ من القريتين لم يسمع بِقصَّتِهما، وكيفَ أنَّ كاثيو الأكبر هدَّدَ ابنهُ إنْ عاندهُ بِأنَّهُ سيصلبهُ ويُعلِّقهُ على الشجرةِ الكبيرةِ بِقُربِ النَّهر، حتّى يصيرَ عِظةً وعِبرة، وسيشنُّ حروبًا طاحنةِ على القريةِ الأُخرى ستكونُ أُولى ضحاياها محبوبته، ووالِدهُ لا يكذب؛ فقوانينهُ فوقَ الجميع ولو على أرواحِ أهلهِ.
اعتصرَ الألمُ قلبَ الفتى، وصارَ نهارهُ كليلهِ، وليلهُ بِمئةِ عامٍ. رأى حلمهُ مُستحيلًا، وحزنهُ لن يزول، حبسَ نفسهُ في غُرفتهِ وامتنعَ عن الطَّعامِ والشَّراب.. اتَّهموهُ بالجنون والضَّعف وأنّهُ لا يستحقُّ العيشَ؛ فَشعورٌ فقط قد جعلهُ ضعيفًا كَفتاةٍ ممّا زادَ ألمهُ؛ فهُم لا يُقدِّرونَ المشاعِرَ النَّبيلةَ، وإن لم يستطيعوا المُساعدةَ لا يكتفونَ بالصَّمتِ، بل يضعونَ مِلحًا على جُرحِك، ويستمتعونَ برؤيتك وأنت تتألَّم. لذلكَ كان يجبُ على هذه المشاعِر العظيمة أن تختفي مِن تِلك البُقعةِ القاحلةِ، وحتمًا اعتذاراتُهم بعد فواتِ الأوانِ لا تُعيدُ الزُّجاج كما كان.

# إسراء غاندي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى