عبير إسبر - بحثا عن وجه أمي.. أو ما يشبه..

لطالما فتشت عن وجه لأمي في الصور العتيقة، وجه لم أستطع تذكره، رسمه، تحديده! فقد غادرتني إلى مكان بعيد وأنا في الخامسة، ظل الفضول يحوطني مثل غيمة مخدرة، يحرض فيّ أفعال البحث والتقصي عنها، عن صورة لها، في الألبومات المخبأة برغبة والديي، رغبته بالتحكم بذكرياتنا، التحكم بآلامنا، والخوف من تجدد أحاسيس الفقد، ووجع الرحيل القسري..

في ألبوماته الكثيرة كانت الاحتمالات لا نهائية، احتمالات مليئة بالفرح، احتمالات تحمل الوعد! كل امرأة مرت في حياتنا، وحبسها أبي في عدسة كاميراته الزينت، كانت وجها محتملاً لأمي !! كل لقطة لامرأة أعجبتني كانت تضاعف من حماستي ، وفرحي بلقيى كنزي المفقود.. كنت أفرح بوجه أمي المتجدد كل ليلة حتى يأتي النفي من مكان ما، من حادثة تقصها العمات بالمصادفة.. يقصّن الحكاية فلا تنطبق الصورة مع صاحبتها، وخوفاً من انكشاف فضولي ، ووصول خبره لأبي المرتعد من الذكرى، كنت أبحث بسرية عنصر أمن، بعيد عن فضوله،

مع كل ليلة واحتمال خائب كانت الصور تتقلص، حتى ضاقت الاحتمالات، وانحصرت داخل وجوه جميلة، مقننة العدد، مقننة الألوان.. تلك الصور المخبأة في درج والدي المطبق عليه بمفتاح، كانوا لعبة للتلهي، لعبة لتحريض الخيال كنت أمارسها كل يوم من أيام طفولتي البطيئة.. كل يوم يحمل جديده! يمر عليّ لينهي احتمالاً ويفتح آخر!!

بعد نوم الجميع، كنت أزحف إلى غرفة الأب وجاروره، افتحه وأبحث في أرشيفه عن وجه لأمي ، أطابق كل الوجوه على شكلها المرسوم في مخيلتي، أجمّع كل التفاصيل، اختزلها في نتف، وملاحظات ممزقة، ألصقها بغراء التمني، أدعو أن أجدها، بوحي من الذاكرة.. هكذا كانت أمكِ، تلبس ألوان الخريف، ألوان الفجر، تحب الأحمر الناري، والأزرق العميق!! تضع أظافر صناعية، وشعرا مستعاراً، طويلاً خرنوبياً في عرس نهلة ابنة العم.. أشقر في خطبة سيمون ومارلا.. مجعدا قصيراً في اللاذقية، على البحر بالقرب من شاليه فاخر!! كثيرة،غريبة، مفرحة كانت الاحتمالات.. لكن الوجه ظل غائبا، ولم يبق من الأم سوى ذكرى شعر غزير، إلى أن أتت المفاجأة كاسحة كل الاحتمالات.. بفضولنا المتقد، نحن فأريه الصغيرين، التقطنا والدي في لحظة نسي فيها تحفظه، نسي فيها ما حصل، نسي فيها لوهلة، أن أمي ماتت، نسي أننا كنا طفلين يتيمين برعايته نعيش، وبحضنه نحتفي.. فتح درجا سرياً غاب عن يدي الباحثة، أشار إلى صورة، وقال مبتسما لزمن بعيد، زمن منقضٍ: “هي أمكم.. وهي إنت عبورة واقفة جنبها، كنا في الكفرون، وأنا صّورتكم.. بتتذكري بابا؟؟”

طبعاً لم أتذكر..!

لطالما بحثت عن حكاية الغائبة، وسر ارتحالها المبكر، في تفاصيل استطعت لملمتها بصعوبة، احتفظ بها والدي كمن يحتفظ بجرم، جرم موجود في عمق وجدانه، مؤلم، مدمر، غير مصرح عنه، كره والدي الحكي.. كره الرواية والرواة، لم يشأ أن يُسأل، خاف من الماضي، أطبق على الحاضر حتى لا ينسرب عمره منه، غابت أمي باكرا عن وجه الكون.. غابت باكرا عن عائلتها الصغيرة، ولم يبق لنا منها إلا ذكرى نافية للصفة، نافية للزمن ومروره، ذكرى ثبتت في صورة وحيدة، أنقذناها أنا وأخي من انتقام والدي.. انتقامه من الدنيا، ونقمته على التذكر، والذكريات، نقمته على الصور، وقسوة المنعكس في الوجدان، وهناءنا في صور بقيت طويلا في الوجدان! وجدانه..

هي صورة يتيمة كما هو حالنا، هي صورة حكت حكايتنا.. ثبتت الخيال، كبحت فعله المتعثر، الرجراج، الزلق المتأرجح، اللانهائي.. صورة واحدة أصدرت حقائق، حكمت على كل فكرة تخالفها بالفناء.. مع الصور لا مجال للديمقراطية، ولا مجال للتأويل، ليس هناك من لغة ومستويات متعددة للغة، ليس هناك من صفات، وأشباه صفات.. لا مجال للحقائق ووجوهها، هناك حقيقة واحدة.. هناك احتمال وحيد.. هناك منعكس لا ثاني له.. هناك صورة واحدة لأمي.. هناك وجه واحد لها.. حقق هذا الوجه باعتراف نثره الأب على حياتنا مثل ثلج أبيض، احتفالي، ضوئي، يحمل طعم الفرح.. فرح اللقاء.. فقد وجدت ما أبحث عنه.. ما بحثت عنه طويلا.. أخيرا وبلحظة اعتراف.. وجدت وجهاً لامي..

بشعرها الحالك وخطوط جسدها الكاملة، بجلال طلتها، تموضعت الجميلة بغنجها، وجسدها الملتوي..

في لحظة مسروقة من زمن مضى.. وقفت الحلوة أمام كاميرا “الزينت”..!! وقفت لإبراهيم، وأمام إبراهيم زوجها! بقصدية رمت ذراعها حولي، أنا طفلتها الصغرى.. بملكية غير مستترة، أعربت بفصاحة غير منطوقة عن أمومتها لي، جسدها حكى الحديث كله، أسس للغة غير مكتوبة ،ومفاهيم رسخها الجسد ببلاغة، وترجمها النور، ترجم بإخلاص، تحدث بصدق، رسخ اليقين.. بانحجاب الضوء وسطوعه ومفردات الكيمياء وسحرها، انتصرت صورة على سنوات من التخيل!

لم أكن قد تجاوزت الخامسة عندما صعدت أمي إلى السماء، حكت عماتي الحنونات.. حكين للصغار: مثل الملائكة تصعد الأمهات الجميلات، الصبايا إلى سماوات زرقاء بلون الحزن.. شفافة كالحنين! رحيمة كوجه الله !! هكذا عرجت أمي مع الجمال كله نحو السماء!! ومع هذا لم أعرف كيف هي؟ كيف كانت؟ لم أتذكر رائحة جسدها، ملمس بشرتها، شعرها أكان خشنا، أم حريريا.. كثيفاً ، سهل التسريح، غجرياً، ساكناً، أم عابثاً، مطيعاً، منطلقاً..؟

سَألتُ دوما عن شعرها، حالته، كثافته، فقره، قوته..؟ فهو من كان مهيمناً في الصورة الوحيدة المتبقية!

به سورت جسدي الضئيل، انسدل على قامتي القزمة، طويلا حالكاً.. فلشعر أمي قصص في البال.. قصص الحب والغزو، ومضارب الحي المتكسرة، المنهدمة، ومواقد بجمرات مرمّدة هجرها الأحباب ارتحالاً نحو الأفق، والخيول الراكضة بلا قيد في صحراء الفارس محمود سعيد والغجرية سميرة توفيق! فقد كانت تشبهها!!

في صورتها الوحيدة بدت أمي آمنة.. بسكينة، باطمئنان أحاطت بشقاوتي، ويدي الناحلة، التي رفعت شورتي الساحل عن قامتي الضئيلة، باللحظة الأخيرة قبل انقباض العدسة واحتجاز الضوء، والقبض على انعكاس للحياة لن يتكرر.. في ثانية، أو أجزائها ظلت أمي شابة، احتفظنا بشبابها حاضراً بقوة في مخيلتنا، التي أبت أن تتذكرها إلا بسنينها السهلة العد..

صورة جمعت تضاد الألوان، ونفور الأبيض والأسود.. واندغام الظل والنور.. وانبثاق الرمادي من خيال المتفرج، صورة لمّت حكايتنا، أمي هنا، هي معي للحظة، وأنا مع أبي مرة، هناك على الضفة الأخرى..

لم نجتمع كلنا في صورة واحدة.. مزقنا الوقت، مقص الزمن عبرنا، وبقينا كل منا على طرف، على حافة أخرى، على ضفة أخرى، أبي وعبير في لقطة، أمي وعبير في لقطة، لسنا شركاء باللحظة، لسنا شركاء بقصاصة ورق تشبه مرايا الساحرات، تحضر الصور من زمن آخر.. تعكس في مراياها لحظات السحر والهناء.. عندما كنا مرة أنا وهي تتموضعان لأب أحبنا.. أنا وهو نتوقان لنصل يدها الدافئة بعيداً عن عدسة وقفت بيننا.. لكن الشراكة فقدت.. غابت.. لم نجتمع ولا مرة في قصاصة ورق كرتوني عكس عمرنا.. عكس صورة من زمن مضى.. زمن غدرنا وغادر..!!


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى