محمد المسلاتي - في حضرة الرئيس.. قصّة قصيرة

لم أعرف كيف جئت إلى هنا ؟ أو متى ؟ لم أحضر وحدي، أربعة من أصدقائي كانوا يتساءلون مثلي عندما التقينا في هذا المكان . غموض يحيط بنا، أعداد غفيرة من البشر جاءوا، ثمة مدخل مخصص للنساء على مسافة من صفّنا نحن الرجال، حرّاس يقفون عند البوابة، يفتشون العابرين بدقة، اقتربت منهم، رهبة مخيفة ، يمررون أيديهم على جسدي، يستبيحون كل مساحاته، يأمرونني تسليمهم كل ما بحوزتي ، علبة السجائر، القدّاحة، الهاتف النقال، القلم، الأوراق ، المحفظة . أحد الحرّاس ينبّه الجميع :
- اتركوا كل ما بحوزتكم في الخارج ، السيّد الرئيس يريدكم كما أنتم . لا يحاول أحد منكم إخفاء أيّ شيء -خاصة لفافات التبغ - هو يشمئز من رائحته الكريهة .
يتلقفني جهاز الكتروني للفحص، يا للهول ! جسدي ينعكس عاريًا على شاشةالمراقبين ، هيكلي العظمي بمفاصله يتضح، بهت، من أين للرئيس كل هذه التقنية ؟ انتهت مرحلة التفتيش، يستقبلني حارسان أنيقان ، ملابسهما تختلف عن ملابس حرّاس البوابة ، كل شيء مرتب بتنسيق ملحوظ، يقودانني إلى حديقة ذات أشجار وارفة، يبدو أن كل الذين سبقوني بالمجيء دخلوا هنا، أعداد غفيرة تجلس على العشب في أماكن متفرقة تحت أشجار الفاكهة المتنوعة بثمارهاالملوّنة المتدلية باشتهاء، اختارا لي مكانًا لأجلس فيه، أدهشني أنهما لم يغادرا، يجلس أحدهما إلى يميني، والآخر إلى يساري، أتفحص وجوه الجالسين مثلي المبعثرين وسط الحديقة، رأيت حارسين حول كل واحد، أدركت أن النظام هنا يفترض هذه الترتيبات الأمنية، لم أستطع رؤية رفاقي الذين جاؤا معي، لعلّهم ذابوا وسط الحشود ، أردت جّر الحارسين إلى الحديث :
- لماذا نحن هنا ؟
يجيبني أحدهما باقتضاب :
- بناءً على أوامر الرئيس، أصدر تعليماته بجلب الجميع إلى هنا .
- متى يحضر الرئيس ؟
يقول لي الآخر بهدوء :
- لا أحد يعلم .
- إلى متى سنمكث هنا ؟
يتابع بنبرة جافة :
- الرئيس من يملك تقرير ذلك، اسمع، أنت تُكثر من الأسئلة، هذاغير مسموح .
وأدتُ تساؤلاتي في أعماقي منكمشًا داخل جسمي المرتعش، أسندتُ ظهري إلى جذع شجرة رمّان .الزمن توقف، طال الانتظار ، حرّاس أو خدم يشقون تجمعات الموجودين ، يقدمون أطعمة مختلفة ما لذّ وطاب ، أكلتُ أكثر من مرة أشعر بالتخمة، تذوقتُ أصنافًا لم أذقها في حياتي، قال لي أحد الحارسين :
- إذ أردت فاكهة أقطف ما شئت من أشجار الحديقة .
لم أعد أرغب في أيّ شئ من الطعام ، أو الفاكهة، يتسرب الملل إلى نفسي ،
أنا بحاجة إلى جهاز كمبيوتر، صفحات التواصل الاجتماعي، هاتفي النقال ، الاستماع إلى شئ من الموسيقا، مشاهدة عرض لأحد الأفلام، قراءة كتاب، الاستمتاع بقصيدة شعر ، الغوص في أحداث رواية ، مشاهدات لوحات تشكيلية، السباحة في البحر، مصافحة أصدقائي، الجلوس مع عائلتي، اختراع شئ ولو كان قاربًا من ورق، كتابة أية كلمات وإن اتسمت بالجنون ، التعبير عن ذاتي، والصيّاح حتى مع نفسي . أصحو من أفكاري على صوت الحارس الذي إلى يساري يقول لي :
- فيمٓ تفكر ؟
ارتبكت، خشيت أن يكون قد قرأ ما يجول في خاطريي . . تمتمت :
- لا شئ .
يحذرني ناصحًا:
- لا تسرح مع نفسك طويلًا قد يقودك ذلك إلى التفكير بأمور محظورة، الرئيس لا يسمح بذلك .
تساءلت بيني وبين نفسي، أيمكن أن يكون الحارسان اكتشفا ما جال في رأسي ؟ تثاءبتُ قبل المبادرة بمعرفة إلى أيّ مدى يفتشان رأسي ، ويسجلان أفكاري :
- هل من الممكن أن أحصل على كتاب ، أو استمع إلى بعض الموسيقا؟
ينتفض الحارسان دفعة واحدة كأن تيارًا كهربائيًا مسّهما ، يقبضان على يديّ، ضغطهما كاد يصل إلى العظم، ألم لم أحتمله، عيناهما تطلقان شررًا، يقول الذي إلى يميني :
- لا تكرر ذلك، الرئيس يمنع مثل هذه الأمور منعًا باتًا ، لا أحد يجىء إلى حديقته وبساتينه يشغل نفسه بمثل هذه الأشياء التي يراها فخامته تافهة .
يضيف الحارس الآخر :
- أيّة متعة تضاهي وجودكم هنا في حدائقه ، وبساتينه، تأكلون طعامًا شهيًّا كرمًا منه، تقطفون فاكهة ناضجة . أنتم محظوظون بمجيئكم هنا. وتكونون في حضرة فخامته، أنبهك لا تذكر الكتب، والموسيقا مرة أخرى، ستعرض نفسك لعقاب لا يحمد عقباه، سنتغاضى عما قلته، لن نخبر سعادته هذه المرة، كما نجزم لك أن الكتب، وآلات الموسيقا، والأجهزة الاكترونية، والاختراعات بجميع أنواعها أمر سيادته بمصادرتها، وتخزينها في مخزن بحديقته لا أحد يطلع عليها سواه، فعل ذلك من أجل مصلحتكم ، حتى لا تفسد عقولكم ، وتشوش على أفكاركم، وتجنح بخيالكم بعيدًا.
لم يترك الحارسان فرصة لي، يوصدان أمامي جميع الأبواب، بالرغم من ذلك يزداد الملل اتساعًا في نفسي، لا وظيفة لي مع كل هذه الجموع إلا الأكل وانتظار مجيء الرئيس الذي لم يأت، الوقت المتباطئ ثقيل، والحديقة بأشجار فاكهتها تدفع فيّ شعورًا بالسأم ، مع أنني أكلت كثيرًا إلا أن جوعًا هائلًا يلتهمني، تجيئني أصوات قادمة من وادٍ سحيق :
- يبدو مغمى عليه، أو ربما يحتضر، إعياء تام ،لعلّه لم يذق طعامًا لفترة طويلة !
قطرات ماء تبلل شفتيّ المتيبستين ، شرعت أفتح عينيّ بصعوبة، رائحة بصل نفاذة، أحدهم يقرب يده من أنفي بشريحة بصل، أصواتهم تعود من جديد :
- ها هو يفتح عينيه أخيرًا ، الحمد لله أنّه لم يمت، فوجئتُ بسقوطه إلى جانبي ونحن نفتش أكوام القمامة .
- سمعته يهذي خلال غيبوبته ، يتمتم بكلمات غير واضحة، الرئيس، الحديقة، الكتب ، الموسيقا، الفاكهة .الحرّاس . الطعام .
- هذيان فقر الدم، الجوع كافر ! يجعل الواحد يلاحق السراب .
أفتح عينيّ على اتساعهما، أسند ظهري إلى برميل قمامة صدئ، أتذكر ...حضرتُ إلى مكب القمامة بحثًا عن بقايا طعام بينما توجهت زوجتي إلى مكب آخر يخص النساء، أطفالى الثلاثة يتضورون جوعًا لأكثر من أسبوع ،البلاد تعاني من حالة مجاعة، وجدت أن أعدادًا غفيرة من الجياع قد سبقوني، للأسف القمامة أيضًا ليس بها أيّة فضلات من طعام ، المكبات شحت بقاياها ،قابلت أصدقائي الأربعة المقربين، لكنهم سرعان ما اختفوا عبر الباحثين عن الطعام . تفحصت وجوه من حولي، الوجوه نفسها التي لمحتها عند بوابة حدائق الرئيس،الحرّاس فقط اختفوا ، نوبة الهذيان تعود إليّ من جديد ، تمالكت نفسي ، ماذا أصابني ؟ أيّ جنون هذا؟ مكب للنفايات ، حديقة وبساتين، أكوام من القمامة، أشجار فاكهة، أيادٍ متسخة تفتش التراب، أخرى منعّمة تمتد إلى أصناف من طعام ، جوع قاهر، تخمة مؤلمة، لم أعد أفهم، يخيّل إليّ أنني أجري مترنحًا صارخًا بجنون مجتازًا حواجز أكياس وصناديق القمامة مارًا عبر صفوف مئات الجّياع الذين يحملقون في وجهي بدهشة ،بعضهم يمسك بي لكبح جماح جنوني، بالرغم من شعوري بحالة الركض ظللت في مكاني نفسه متسمرًا إعياءً وضعفًا في الوقت الذي يعلو هدير محركات سيارات ضخمة، وآلات تحميل، وجرّافات تتقدم نحونا. وسط المكب، تتوقف الواحدة تلو الأخرى، ليترجل منها عدد من الرجال يتصايحون وهم يهشوننا لنبتعد عن المكان :
- انصرفوا ،ابتعدوا لئلا تتعرضون للجرف .
بدأ الرجال الذين حولي في الانصراف. يتناثرون ببطء في كل الاتجاهات، فجأة طالعتُ حروف الكلمات الملصقة على أبواب الشاحنات مع العلامة التجارية { الشركة العالمية الوطنية لتصدير وإعادة تدويرالنفايات }
على بعد مسافة ليست ببعيدة يلوح لعينيّ المخدرتين قصر فخامة الرئيس بحرّاسه وأسواره، و حدائقه، وأشجاره المثمرة . لا أعلم ما إذا كنت ما أزال في حضرة الرئيس ، أو أنه يراني من شرفات قصره الكبير، أو لا يراني ومن معي، أو أنني مازلت تائهًا في مكان مجهول.#محمد_المسلاتي

* من واحة القصة القصيرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى