صديقة علي - قبيل آخر موت.. قصة قصيرة

بذلت جهدا كبيرا، كي أقنع أمي بواجب التعزية في وفاة أبي، صحيح أنني كنت قد قاطعته منذ مدة قصيرة، لكن أصر عمي على حضورنا، فأنا وريث أبي الوحيد.
سلّمت أمي لمجلس النساء، تجاهلتها جدتي، و احتضتني بنحيب قائلة:
ـ من رائحة المرحوم.
رائحة…رائحة أعادتني لصراخهما الذي أرعبني
..جلست في زاوية الغرفة ..أرقب احمرار وجهيهما ومشاداتهما الكلامية التي انتهت بعويل أمي، وهي تدفع عنها يديه القويتين ..
لا أذكر من معركتهما سوى..
ـأغرب عن وجهي أنت ورائحتك النتة ..
واتهامه لها بتبديد المال الذي يشقى جدا كي يجنيه.
وهي تتهمه بالمبالغة ..فهو يجلس خلف مكتبه، ويتقاضى أجرا، أما هي تجهد بأعباء البيت بالمجان ..حسب تعبيرها ..
ـ بالمجان أفهمت؟ ..أيها البخيل.
وما لم أفهمه حينها، لم ضربني بهذه القسوة، فأنا ما كنت طرفا بشجارهما، وما أردت إلا تخليصها من وحشيته، التي لم أعرفها من قبل، كما لم أعرفه، فأبي دائم الوجوم والصمت.لقد هدأت حياتي بانفصالهما لكنني افتقدته.
جلست بجانب العم مصطفى، استنشق رائحة أبي أخذ يدي بين كفيه وقد بان عليه التأثر بشدة، فهو صديق والدي رغم أن علاقتهما القوية ظلت محل استغرابي، فأبي يحمل شهادة الحقوق، وموظف درجة أولى والعم مصطفى آذن في الشركة . دس بجيبي ورقة مطوية بعناية وكأنها تميمة قائلا:
والدك كان يحبك ولطالما أنتظرك.
وخزت قلبي كلماته،وكانت كافية لبكائي خجلا أم ندما أم حزنا .. رافقني إلى خارج صالة العزاء بعد أن سحب من وراء بابها صرة ثياب بالية محشورة بكيس شفاف ..وأصرّ عليّ أن أستلمه منه. ناولني إياه بكلتا يديه، وكأنه يودع كنزا ثمينا بين يدي.
اعترضت أمي بشدة على إدخال الكيس إلى البيت، ..كنت سأرميه لكن فضولي جعلني أصرّ على موقفي، إذ أقنعتها بأنني سأفضه على الشرفة.
كنت في لهفة لقراءة الورقة التي ما فتئت أتحسسها طوال الطريق.
وكما توقعت كان خط والدي الجميل :
بني
قد لا تصلك رسالتي، لكن لا بد لي وقد دنا موتي هذا …أن أوضح لك بأنه
لم تكن ثورة غضبي، في ذلك اليوم المشؤوم، بسبب أمك فقط ،وقد بدلّت لون شعرها،كما قناعاتها بالحياة بعد زواجنا،وقد طغت بطلباتها ..مع أنني كنت أحب لون شعرها،كما كنت أحب قناعتها، ولم يكن السبب فقط حسم جزءا من مرتبي الشهري، لاكتشاف المدير هروبي اليومي من عملي ..بل كان لإذلاله لي، وأنا أوقع أمامه، في خانة نهاية الدوام …وكنت في كل مرة أرى اشمئزازا واضحا في حركة أنفه، لكن يومها عبر بوقاحة عنها:
ـ نتن … لا تنسى ان تستحم عند وصولك …كيف لزوجتك أن تتحمل رائحة تعرقك هذه .
سكتّ عنه،وذلك لأنني تعودت السكوت …لكن وأن تستقبلني أمك بشعرها الملون بالأحمر والأخضر كالمهرج،والذي دفعت من أجله تعبي على مدار شهر كامل ،وكان إذلالها الهمجي لي كالشعرة التي قصمت ظهر البعير.
وهالني أنك لم تكتشف معنى إهانة الرجولة المستمر.لابد لي أن أشرح لك مرارة أن تعمل بما لا تطيقه من أجل من لا يستحق:
لم أكن استطيع إخفاء عرقي،بسبب ركضي المتواصل، عائدا إلى عملي، قبل أن يكتشف المدير، هروبي من العمل لعدة ساعات.
إذ كان مرتبي لا يكفي مصروف أسبوع ..وكانت ساحة عمال العتالة تبعد كيلومترا واحدا عن مقر عملي، أقف فيها متنكرا بملابس العمل، انتظر زبونا يحتاج عتالا،وقد كنت أعمل خلال دراستي الجامعية في ذات الساحة،كثيرا ما عدت منها راكضا إلى محاضرتي، كما أركض الآن إلى الشركة. كنت أجد في عملي كي أجنبك الوقوف في تلك الساحة، أظن انني وفقت بذلك، أسراري وثيابي أخفيتها عن الجميع عند العم مصطفى.
..اعذرني لأنني كنت سببا في وجودك.
والدك الميت

صديقة علي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى