محمد عبد الحكم حسن - لحظة سقوط الجسد

شجرة ....​
كيف ارتفعت فى بيت الجيران فجأة .. لتغطى الحوش الوسيع ، وتلامس حائط المسجد القريب ، وتكسو الشارع الأملس ظلا منقوشا .
***​
أخبرنى الطبيب أن حالة ابى متأخرة ، وأن الجلكوما ستطفئ النور من عينيه تماما ، فجدتُ بالدمع وابتل جلبابى المهترئ ، وسمع أبى شهقاتي وعيناه تخوضان فى الظلام السرمدى فبكى بصوت مرتفع .
***​
قال إخصائى التحاليل فى مستشفى المنيا العام إن دمى لا يصلح أن يُضخ فى شرايين بنت أختى المصابة بجفاف حاد ، ولمّا قلت أن فصيلتى نفس فصيلتها ، همس فى أذنى
ـ عندك فيروس ـ c ـ
فتركت لقدمي السير بلا هدف .
***​
فى الصف الأول الاعدادى كنت أعود مسرعا ، أدخل بيتنا الضيق ، أجد أمى كعادتها تجلس داخل عتبة المندرة ، ترمق السقف الجريد بعينين صفراوين ثابتتين ، تشهق فيرتجف صدرها الضعيف ، وعلى مقربة منها يجلس أبى يلقم جلف البطيخ ، ينادينى من خلال المياه الحمراء المنسابة من فمه الواسع :
ـ تعال خد شقة بطيخ .
أضعها فى فمى ، أجد فيها مرارة الدنيا ، أحدق فى أمى التائهة فى غيبوبة ، أيام قلائل وراحت أمى فى غيبوبة سرمدية .
***​
فى الليل ـ وعلى المصطبة القريبة ـ سمعتهم يتحدثون عن شجرة الجيران ، قالوا جازورين ، توت ، نبق .
ولمّا اقتربت أقدام جارنا تسللوا بعيدا كالأشباح وتفرقت أصواتهم .
تنحنح جارنا ذو الوجه الحمر ولعن الأعين الحاسدة وأولاد الحرام .
أطلق البخور حول الشجرة وفى جنبات بيته الوسيع ، فسعل أبى بشدة وراح يتلو على مهل سورة ( يس ) .
***​
على مقهى أبى جلال كان العم سقراط يجلس وحيدا ، يرمق العابرين بميدان المحطة ، لمّا رآني حيَّانى وانحشر جسدى النحيل فى قطار العاشرة .
***​
بائعات الجبن القادمات من أزقة مسطرد سيعبرن من على كوبرى المعاهدة ، يمصمصن شفاههن فى حسرةرعلى جسدى الملقى أشلاء تحت أتوبيس أحد المصانع ، ومن حولى ترتفع مداخن المصانع والورش، أصحابها يطلون من نوافذ سياراتهم ، تمتد أيديهم ، يتناولون أكواب الدم من جسدى ، يرتشفونها فى شرَه ويطلبون المزيد ، ينحنى الشرطى ويعبئ من شريانى المتدفق ، يتخطف عمال المصانع لحمى قطعا يلقمونها ، ويمتطون دراجاتهم النصر.
***​
فى ليلة عيد الأضحى التصق جسدى النحيف بسطح قطار الرابعة ، تقبض يدى على جنيهات قليلة ملتصقة بجيبى المهترئ ، تطقطق حبات الرمل تحت أسنانى وتسحق كلمات المقاول أذنى :
ـ إرفع .
ـ تعبْت .
ـ إرجع الى بلدك .
المنديل الأبيض فى أول القطار يرتفع وينخفض :
ـ كوبرى يا ولااااااااااد .
نلتصق بسطح القطار كالخفافيش ، تمر اللحظة ثقيلة ، يتهشم جسد أحدنا ، يسيل الدم بغزارة على النوافذ ، تطل الأفواه العطشى ، تلحس الدم فى نهم ، تبرز الأنياب من داخل النوافذ ، يخيفنا احمرار العيون ، نرتجف، نلتصق بسطح القطار وتحدق عيوننا فى المنديل البعيد.
لفظتنى محطة قطار (المنيا) فى الميدان الوسيع ، رذاذا الماء المندفع من النافورة يبلل الوجوه المتعبة ، والعم سقراط على مقهى (أبى جلال) تائها بين قراطيسه وريشته وملابسه المتمزقة ، تبحث يده عن قروش للنادل ..... وهيهات ، لقد انحنى النادل وكوّره بذراعين قويتين وألقاه فى نافورة الميدان .
لانبثاق الدم من جسده الضعيف رائحة عتيقة تملأ الأجواء ، يختلط الدم بالماء المتطاير، رذاذات حمراء تنتشر فى جنبات المدينة ، فتلفظ الشوارع كل ما فيها من ناس، تضخهم فى ساحة الميدان، ترتفع الأصوات، تلتصق الأجساد، الميدان استحال كتلة من اللحم لها آلاف الأفواه العيون الأنياب الأظافر الحادة ، حلوق عطشى تتلقف رذاذات الدم المتطايرة ، تتلذذ لملوحتها ، من سيارات (أبى هلال) تمتد الأيدى المدربة ، تمزق الجسد الملقى قطعا، تلوكها الأفواه فى نهم ، يختلط لون الرذاذات الحمراء باحمرار الشفق ، وقدماى المتعبتان تسوقان جسدى المنهك صوب قريتى .
***​
شجرة الجيران كنت أهتدى بها فى زحمة تفكيرى وانشغالى إلى بيتنا ، أمشى تجاهها، أحملق فى فروعها الكثيفة، وهناك أرى بيتنا بجوارها ضئيلا واهياً كبيت العنكبوت .
حدقتُ فى المدى ، كانت الدنيا بلا شجر ، تخبطت فى الشوارع كفأر مذعور ، أسأل المارة عن بيت كبيت العنكبوت ، وأب ابيضت عيناه من الحزن ، وشجرة كنت أهتدى بها إلى بيتنا، حدقوا فى وجهى المصفّر فى غرابة، سحقتنى العيون، الأيدي، الإشارات .
الأصوات من حولى تدوّي:
ـ عُد من حيث أتيت.
إصطكاك الأبواب يملأ الآفاق ، وجارنا ذو الوجه الأحمر حمَّل شجرته مقطعة إلى اسطوانات متفاوتة على سيارة نقل ، وجلس يعد النقود ، لمّا رآنى فتح فمه ليلتهمنى، أسرعت منهكا، إرتمى جسمى المتهالك أمام الجمعية الزراعية، ورأيت على البعد أمى تشهق فى تعب ، وأبى الكفيف يتخبط فى الجدران، وبنتا كنت أعطيتها شبه وعد بأنى .... كانت تمضى بعيدا صوب احمرار الشفق، وفيروس (سي) ذئابا تسْبح فى دمى ، تنهش بأنيابها المدببة كبدى المتليف ، فيشهق صدرى ويعلو زفيرى ، وتخرج روحى كطلقة حمراء فى المدى السرمدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى