أمل الكردفاني- لقاء مع زوجتي السابقة- قصة

لقاء مع زوجتي السابقة - قصة

أمل الكردفاني

اليوم الأول:

إن التغير المناخي بعد السفر يوترني قليلاً، من بلد حار إلى بلد بارد، تختلف الصورة تماماً، من صفراء بلون الشمس إلى زرقاء بلون الصقع. استيقظ مبكراً ، وأطلب كوب قهوة، متحركا نحو النافذة الزجاجية الكبيرة، فأزيح الستار لأرى عالماً جديداً، جديداً عليَّ تماماً، أرى بنايات شاهقة بطراز مختلف، فتيات من نوع مختلف، المرأة دائماً هي التي تصنع الإختلاف، أما الرجل فيظل رجلاً في كل مكان. في الأسفل؛ أرى شوارع واسعة وأزقة ضيقة رطبة، بعض كتل الثلج، وشجيرات سوداء قصيرة متشابكة الأغصان بلا أوراق تقريباً..كم هو مشهد مختلف عنه قبل بضع ساعات من الآن..أغوص في كرسي اسفنجي وأشعل سجارة..لأشعر بالغربة تتكثف في قلبي.. لم يفدني الهروب أبداً..ولم ينزع عني ذلك الإحساس بالحاجة إلى وطن آخر، وطن لم أعرف ملامحه يوماً ما. غرفتي دافئة، فيتملكني الخوف من الخروج، غير أني أدفع بإرادتي إلى أقصاها واعتمر قبعة الصوف والمعطف السميك وأخرج مغلقاً الغرفة بتردد، ثم أجرجر أقدامي في الممر الذي تفوح منه رائحة الطعام والخمر؛ الممر ذو الإضاءة المعتمة، والبساط الأحمر والسقف القصير والمصابيح الصغيرة النجمية المغروسة في سقفه، الممر الصامت دوما. وحين أقف أمام المصعد، ينفتح الباب بصوت رتيب، فأدخل محاولاً عدم النظر في المرايا التي تحيط بي. أريد أن أكون خفياً.
...
أصوات المعالق والهمهمات تتطور لصخب في صالة الطعام الواسعة بالفندق، يتجرأ النزلاء رويداً رويداً في إثارة الصخب والانفتاح للاستمتاع بالطعام، بدلاً عن تحفظهم الأول. وحين ينقلب الوضع إلى هرج؛ أخرج من الفندق تماماً لأجد نفسي حراً، لا أحد يشبهني هنا، الأشخاص يبدون غرباء جداً، أصوات لغاتهم الأجنبية تزيدني رعباً، فأشعل سجارة وأنا أسير.
"إنك لن تتمكن أبداً من الهرب من ذاتك"..
هذا التمحور حول الذات يقتلها..والسفر يستدعي التحرر منها. غير أن دماغي لا يستجيب بسرعة للحكمة.
وتذكرتها في هذه اللحظة، حيث يتكثف الشعور باللا انتماء، رأيتها تقفز إلى مخيلتي، زوجتي السابقة، كانت امرأة قوية، صلبة كالفولاذ، لا تشعر أبداً بالغربة في أي بلد نسافر إليه، بل تتعامل فيه كما لو كانت وزيرة دفاع. كان ذلك يطمئنني كثيراً، وتمنيت لو كانت معي الآن؛ كنت سألقي عليها عبء حفظ طريق العودة إلى الفندق، وعبء اختيار مطعم لتناول الغداء، وعبء تحديد لحظة تناول القهوة في مقهى معين، والمحلات التجارية التي سندخلها ونخرج ولا نشتري منها شيئاً، وعبء تحديد لحظة الإياب..الخ. أما بدونها فأنا ضائع تماماً. بدأت في التحديق في وجوه النساء، علها تكون من بينهن، كان ذلك تصوراً ساذجاً، لأنها الآن في وطنها. ثم ماذا لو كانت برفقة زوجها، زوجها الذي يبدو رجلاً حقيقياً وليس باهتاً مثلي. ماذا لو التقيت بها وهي تتأبط ذراعه، في حين أكون أنا وحيداً وأعزلاً ولا زلت أحمل ملامح الخوف القديمة في وجهي وحركاتي البطيئة. سأبدو مهرجاً مثيراً للضحك. لكنني رغم كل ذلك كنت أتمنى أن أراها هنا، وأتخيل موقفاً أكثر إيجابية، بأن تكون وحدها، تقود ابنتنا الصغيرة من يدها، وتتطلع كعادتها إلى المحال التجارية وهي مقطبة الوجه كما لو كانت تلك المحال عدواً لها..تسير بسرعة متوسطة، وتراقب بعيني صقر، وتلاحظ الخفايا كجاسوس مدرَّب. تجرني وتجر الطفلة فنستسلم نحن الإثنان لها، وندخل إلى محل تجاري، ومهما كانت لغة البائع فإنها تقنعه، بل وتستقطبه إلى جانبها، وتجعله يسعد بخدمتها حتى حين تغادر غاضبة من رفعه للأسعار دون أن تشتري شيئاً. وهي غالباً لا تشتري شيئاً.
منذ طلاقها وأنا أرتدي ذات ملابسي، ولم أحاول أبداً تغيير حذائي، كانت تفعل كل شيء، ولكن يبدو أنها سئمت من ذلك الدور الأموي، حين وجدت رجلاً يضعها في خانتي ليمسك بزمام المبادرة. ويبدو أن علاقتها به كانت قبل الطلاق، فهي لم تكمل بضعة أشهر بعد الطلاق حتى تزوجته.
شعرت بأقدامي ترتجف، فبحثت بتوتر عن أقرب مقهى، ومضيت نحوه. كان دافئاً قليلاً، ويعج بأصوات اللغات الغريبة، الأصوات التي تخرج من الصدر والأنف كفرقعة رعد. أصوات مزعجة تعمق شعوري بعدم الانتماء. فأفكر في العودة قبل أن أكمل يوماً واحداً من رحلتي. هكذا أناْ..كالقملة التي تقطن مؤخرة كلب ولا تحب مغادرتها. فأكره نفسي وأكره هذا الجبن في أعماقي..كنت أتمنى لو كنت مغامراً، أتسلق الجبال، أو أقوم بتوثيق رحلاتي بالفيديو وأنا أجري لقاءات مع الجماهير، أقتحم الحانات كسكير مزعج، أتشاجر مع أحدهم فأسدد له لكمة قوية، أشياء وأشياء، تمنحني إحساسا بأنني رجل لا يخاف. لكن لا شيء من هذا يحدث. إنني لم اختر شخصيتي هذه، لم أختر أن أكون نصف رجل ونصف أرنب. وهنا تنتهي أحلامي، فأرفع هاتفي لألعب بعض الألعاب الطفولية، وأهمها لعبة الثعبان الأكول. أبتسم وأحرك ثعباني بمهارة ليأكل الصناديق الصغيرة التي تنبثق فجأة في زوايا المربع، يبتلعها ويتضخم حجمه، وتزداد اللعبة صعوبة، إذ يجب ألا يلمس جسدٌ الثعبان جزءً آخر من بقية جسده ولا حواف المساحة التي يتحرك فيها. "يا لعظمتي" إنني ماهر حقاً هنا، الثعبان يمثل أحلام القوة الذكورية داخلي، الصناديق تحوي أمنياتي، حركة الثعبان تمثل إرادتي القوية، ابتلاعه يمثل تحقيق تلك الإرادة للأمنيات بالفعل"؛ لذلك كنت ماهراً في هذه اللعبة، ولا أنهزم أبداً، يملأ الثعبان الشاشة ولا يبقى إلا ملمترات قليلة، حيث لا فكاك من الخسارة. لكنها خسارة بطعم الفوز، كالموت تماماً بعد أن تنجز ما عليك من مسؤوليات. كاستشهاد الجندي في ساحة الحرب، لتحصل ذكراه على وسام البطولة. وفي هذه اللحظة أشعر بعينين تراقبني، فالتفت لأرى تلك الفتاة، سمراء نحيلة، شعرها خنفسي مجعد مقسوم بطوق أسود.
"أنت لاعب ماهر"
تقول بابتسامة لطيفة.
فأشعر بالخجل ولا أجيب ألا بعد برهة وبصوت متقطع: "نعم.."
تصمت هي قليلاً ثم تقول: "وأنا كذلك"..
هي تجلس خلفي ضمن مجموعة شبابية، ولا يمكنني في نفس الوقت أن أطلب منها الحضور..فيتعقد الموقف قليلاً.."جيد..". أجيبها. وأعود للنظر إلى هاتفي. وهنا أتذكر أن لغتها هي لغتي، فأدور نحوها قائلاً بدهشة "لم ألحظ ذلك؟"
تضحك وتقول "يبدو أن شيئاً ما يشغل عقلك؟"..فأهز رأسي ككلب ينفض الماء عنه "أبداً..هل بإمكانك الإنضمام لي".. تحمل حقيبتها الصغيرة وأرى قدميها داخل حذاء وردي طويل العقب.."إنها لا تجيد اختيار ملابسها..قد تكون نسوية".. أقول في نفسي، وحين تجلس أمامي يفوح عطر من صدرها. "يبدو أنك جديد هنا؟".. "هذا صحيح..وصلت ليلة أمس" .. تطلق آهة وهي تحدق في الأفق "لي قرابة عشرة أعوام هنا.." ولا اعرف بماذا أجيب، فتواصل هي "لقد جئت مع البعثة الأوليمبية ضمن فريق الماراثون" ثم تضحك "ولكنني قررت الهرب منهم وتقديم لجوء سياسي"..وقد حياني الجميع على ذلك الخيار حتى وزير الرياضة الذي اتصل بي وقال بغضب مفتعل: لقد أحرجت الحكومة أمام العالم..ثم صمت قليلاً وأضاف: ولكنه خيار صائب على أي حال.. فضحكنا..".. أضحكتني قصتها، ورأيت في عينيها قليلاً من الجنون. عينان واسعتان جميلتان، وصافيتان. برموش طبيعية كثيفة.. أخرجَت علبة سجائرها وتناولت منها واحدة ثم مدت لي بأخرى فأخذتها "منحوني الجنسية بعض بضع سنوات لأنني كنت ماهرة في الجري..كبرت الآن على المسابقات الدولية.." تأملتها حين قالت ذلك لأقدر عمرها، لكنني فشلت. أطفأت سجارتها بعصبية وقالت "إنك لست ماهراً مع النساء"... وكانت جملتها هذه منعطفاً ما بالنسبة لي. أضافت: "إنك تفكر كثيراً ولا تطلق لنفسك العنان وهذا خطأ".. قلت "هذا صحيح.. ربما لست رفيقاً جيداً لامرأة".. نظرت إلى وجهي وقالت "بحسب المرأة.. إنك حتى الآن رفيق جيد لي".. وكانت تلك إشارة منها تخالف المنعطف السابق. قلت "لا يمكن لأحد أن يحكم على آخر بمثل هذه السرعة..ربما أكون مجرماً.. قاتلاً محترفاً..مضطرباً عقلياً..". تأملت وجهي وقالت وهي تحرك الجانب الأيمن من شفتيها لأعلى "لا.. لا أعتقد ذلك...".. شعرت بأنها تسحبني إلى داخل أعماقي بتلك الكلمات..شيء ما أزعجني منها، ربما كانت جريئة أكثر مما أحتمل؟ لا أدري غير أنني قلت "يجب أن أغادر الآن..هل يمكنني رؤيتك مرة أخرى؟".. هزت رأسها ببطء وقالت"لا.. لا أعتقد ذلك".. قلت "حسنٌ.. إلى اللقاء".. ابتسمَت ونهضَت فجأة معي وطبعت على خدي الأيسر قبلة خفيفة.
عليَّ أن لا ألتقي بها مجدداً ولو من باب المصادفة.
سلمت بطاقة باب الغرفة لموظفة استقبال الفندق ودفعت عجلات حقيبتي الصغيرة أمامي مرتحلاً لبلدية أخرى داخل نفس المقاطعة. كل ذلك حتى لا أراها مجدداً...
...
اليوم الثاني:

هنا في المنطقة الجنوبية الغربية تزدان الارض بالخضرة، لقد خرجتُ من الحداثة، وولجت إلى القرون الوسطى. بعض القلاع، قليل من البشر، قليل من السيارات، كثير من صوت العصافير، فجلست أمام ترعة صناعية صغيرة تقطعها قنطرات خشبية حمراء اللون كل مائة متر.
في نفس المقاطعة يتبدل المناخ بين بلديتين متجاورتين، كمعجزة رسولية. غير أن الأغرب هو أن البشر أنفسهم يتبدلون. إذ تدفع الحداثة بالإنسان إلى الفردانية والسقوط في اللا معنى. أما هنا، جنوباً، فكل شيء مختلف. ما كانت زوجتي السابقة لتقبل بغير ذلك بغير الحداثة، كانت تجيد اختيار ملابسها، كانت "شياكة" وكنت افتخر بذوقها العالي عندما نزور حفلاً عائلياً. لم تهتم أبداً بالثوب الغالي، بل بالثوب اللافت جمالياً. وكانت تملك مهارة قنص التصاميم رفيعة الطراز. إرتداء نظارات الشمس التي تناسب وجهها متناسق القسمات، والفستان الذي يناسب قوامها ولون بشرتها، ذلك الذي يدفع بها جمالياً إلى الأمام، ويجعلها محط اهتمام الجميع دائماً. وباعتباري الواجهة الحتمية، كانت تختار لي ملابسي بدقة، البدل وربطات العنق، والجوارب والأحذية، بألوان مختلفة ومتناسقة، تجعلني أقرب لرجل أعمال لا كصحفي وكاتب حر. ولم تهتم أبداً بما أكتب، وكان ذلك أكبر نعمة تلقيتها. فليس أسوأ من أن تقرأ زوجتك ما تكتب فترى الأوهام التي تحلق في رأسك. "ستحاكمك يوما ما عليها".

اليوم الخامس:
مرت أربعة ايام وأنا هنا، مسلماً نفسي للخضرة والهدوء، ورغم ما تلومني به نفسي وأنا أضيع أيام رحلتي في مكان واحد؛ إلا أنني فضلت البقاء هنا، في النُزل الصغير، انزل إلى صالة التلفاز مع عجوزين، وتاجر يتناول النشوق بكثرة، أخرج علبته الذهبية وحدثني عنه، نشوقاً مُهدىً له من ملياردير باكستاني. ومنذ أن جربه لم يعد باستطاعته البقاء بدونه، قال بأنه بات ينفق على استيراده الكثير من المال كما لو كان هيرويناً. هناك شاب وشابة هما درَّاجان محليان، قطعا مسافات شاسعة بدراجتيهما في رحلة خيرية. كانا بصحة جيدة خلافاً لباقي النزلاء بما فيهم أنا. أما العجوزان فهما توأمان ذكران لم يفترقا منذ ولادتهما، حتى أنهما لم يتحملا الزواج لمدة طويلة، فطلق كل منهما زوجته وقررا السفر لتأليف كتاب موسوعي عن القلاع القديمة..قالا بأنهما تعبا جداً عندما حاولا تعلم الكتابة على الحاسوب، فدونا أجزاء كتابهما على الورق. الأسرة مالكة الحانة من زوجين خمسينين وفتاة في الثانية والعشرين من عمرها تقريباً، دميمة الوجه، وذات نظرات حقودة عكس والديها تماماً؛ فهما وسيمان إلى حد جعلني أشك أنها ابنتهما بالتبني. لقد تشاجرت مع أمها لأنها تناولت وجبة ما؛ قالت الأم:
- لا تأكليها باردة..
فسألتها بلؤم:
- ولماذا لا آكلها باردة؟
أجابتها:
- لأتها لا تؤكل باردة بل ساخنة؟
فأصرت الفتاة:
- ما الضير من أكلها باردة؟
حارت الام وأجابت متلجلجة:
- لا أعرف..لكنها لا تؤكل باردة؟
فقالت الفتاة:
- وأنا أريد أن أعرف السبب..هل لأنهاتسبب مرضاً ما؟
قالت الأم:
- لا ولكن لأن طعمها لن يكون لطيفاً..
قالت الفتاة:
- من قال ذلك؟
قالت الام:
- هكذا يقول الناس؟
فواصلت الفتاة:
- هل سيحدد لي الناس طعم الأشياء؟
فخلعت الأم مريلة الطبخ ومضت، وببرود شديد نظرت الفتاة لي وأنا ساهم في متابعة نقاشهما، ثم قالت:
- مساء الخير؟
ارتبكت وهززت رأسي، فأضافت:
- هل كان حديثنا شيقاً؟
سمعت أمها تقول من المطبخ الداخلي تصيح:
- لا تزعجي النزلاء..
غير أن الفتاة تجاهلتها وأقبلت نحوي فدق قلبي من الخوف، ثم تاه ذهني في توقع ما تريد قوله.
- مرحباً هل أزعجك شجارنا؟..
قلت وأنا أنفض راسي بذعر:
- أبداً أبداً..
سألتني مباشرة:
- تبدو خائفاً..هل أنا محقة؟
هززت رأسي فقط فقالت:
- هل تظن أنني لئيمة؟
وحينها فكرت في مغادرة النزل فوراً..، أما هي فقد وقفت تتأمل في الأفق ثم تأوهَت ومضت بسلام فألغيت فكرة المغادرة..
...
اليوم التاسع:

الطريق من النزل حتى المتحف الطبيعي يقتضي قطع نصف ساعة مشياً، لقد اعتدت على المشي وسط الطبيعة كل تلك المسافة، محاذياً الترعة الصناعية، وعلى يساري حقول اللافندر الأرجوانية. ثم تنحرف الترعة إنحرافة حادة سريعة مفسحة لطريق معبد، يقودني حتى المتحف الطبيعي، وحتى هناك؛ فإن بعض البيوت الصغيرة ومبنى البلدية ذو الساعة الكبيرة والبقالات تتراص على جانبيه، في بعض الأحيان أدخل إلى مطعم روزماري الصغير، والذي تشرح صاحبته الفوائد الصحية لإكليل الجبل عند إضافة بعض منه للشاي والأطعمة، وهي لا تمل من الشرح للجالسين بصبر شديد، وتخرج موسوعات من الكتب:
- ليس فقط للشعر والبشر فإكليل الجبل يخفف من أعراض الاكتآب ويقوي الأعصاب الواهنة ويحسِّن من سريان الدم في الشرايين وو..
مع ذلك لم يعجبني طعمه، لذلك كنت أرفض وضعه لي في الشاي أو الطعام، وتذكرت حديث الفتاة مع أمها عن ذائقة الطعام، ثم رفعتُ عينيَّ فرأيتها هي بذاتها تدخل إلى المطعم. حاولت تحاشي النظر إليها غير أن عينيها ذات النظرات الخبيثة لمحتني ولم تتوانَ عن التقدم نحوي بل والجلوس معي قائلة:
- صباح الخير..
حاولت ان أكون هادئاً، فطلبت من النادلة شراباً عليه روزماري.
قالت الفتاة:
- نحن قرويون.. ءأبدو لك كفتاة قروية؟..
قلت بسرعة:
- أبداً أبداً..
ضحكت بخبث وأضافت:
-أن نكون قرويين ليس شيئاً سيئاً..
فنفضت رأسي:
- أبداً أبداً..
كتمت ضحكة داخل رئتيها وقالت:
- لماذا تكرر هذه الكلمة؟
قلت:
- أبداً أبداً..
قالت:
- بل تكررها..
ثم قالت مجارية صوتي أثناء ردي:
- أبداً أبداً..
فبدوت عالقاً وتبين لي أنني بالفعل أكرر هذه الكلمة أثناء الخوف، منذ طفولتي كنت أقولها، ولم أنتبه إلا الآن..قلت لنفسي "ماذا تريد مني هذه الخبيثة؟" قالت كما لو سمعت حديثي:
- أريد فقط أن أعتذر عن إقلاقي لكم كنزلاء بسبب شجاري مع أمي..
شعرت بالإرتياح قليلاً لكنها باغتتني:
- هل أنت متزوج؟
قلت:
- مطلق..
قالت بصوت مغلف بالإحباط:
- ألم تكن تحبها؟
وشعرت بدماغي خالٍ تماماً في هذه اللحظة، فوجهت لها نظرة مكفهرة ولكنها سددت لي بدورها نظرة باردة تنم عن إصرار، فأجبت:
-.. لا.. لا أعرف..
لا أعرف ماذا حدث بعد ذلك..فقد استغرقت في محاولة إجابة ذلك السؤال طوال رحلة عودتي مع الفتاة إلى النزل دون أن أزور المتحف الطبيعي.
وحين وصولنا سمعت الفتاة تهمس بصوت كفحيح الأفعى:
- يجب أن تعرف..
قلت:
- وكيف لي أن أعرف؟
قربت وجهها من وجهي وقالت:
- لو كنت أحببتها لعرفت كيف..
ثم تراجعت وضحكت وهي تفتح الباب وتغادر بخطوات رشيقة مرحة.
وفي هذه اللحظة بالذات..لم أعد أتذكر وجه طليقتي..لقد تبخرت من ذاكرتي..تبخرت تماماً وانفتح أفق السماء الزرقاء بشمس صغيرة كصفار البيض.
.....

اليوم العاشر:

تشاجرت الفتاة كعادتها مع الأم..
الصباح كان يسوعياً، برائحة قرنفل، خرجت الفتاة من النزل، ولحقت بي وأنا في بداية الطريق، كانت ترتدي ملابس الرياضة.حاذتني وهي تسير بخطوات سريعة وقالت:
- لماذا أنت بطيء هكذا..يبدو أنك قروي مثلنا..لذلك كرهت هذه القرى الصغيرة..كل شيء فيها بطيء..
نظرت إليها ولاحظت ان جسدها متناسق، فيه شيء من الأنوثة وشيء من الذكورة فقلت:
- تبدين جميلة هذا الصباح..
قالت بغير اكتراث:
- أنت لا تعرف مخاطبة النساء يا سيد...لا تقل لامرأة: (وقلدتني وهي تغير وجهها لوجه ابله) أنتِ جميلة هذا الصباح.. قل أنت جميلةمثل هذا الصباح..لو كنتُ جميلة حقاً لكنت جميلة دائماً..
قلت:
- ربما كان يجب أن اقول: أنتِ أجمل هذا الصباح..
لوت شفتيها وقالت:
- ااااا..ربما..لا بأس على اي حال.. مع ذلك..دعني أخيب ظنك..فأنا لدي صديق..
قلت:
- حسنٌ..لم أرك معه خلال الأيام الماضية..
قالت ضاحكة:
- إنك تراقبني جيداً..
قلت:
- هذا صحيح..فأنت مثيرة للإهتمام..
قالت:
- نلتقي مساء فهو لا ينبح إلا مساء..
قلت:
- هو كلب إذاً؟
قالت:
- ليس تماماً..إنه إنسان ولكنه كلب أيضاً..
قلت بحيرة:
- هذا لغز محير..
ضحكت بصوت عالٍ فرأيت أسنانها الصفراء بين شفتين حمراوين..
- ليس محيراً.. ألم تسمع بالرجل الكلب؟
سألتني فصمت.
- حسنٌ...ستراه مساءً.. سنزوره سوياً إذا أحببت..
تركتني وواصلت هرولتها الرياضية حتى اختفت واستمررت أنا في المشي إلى أن بلغت المتحف الطبيعي لكنني فضلت مواصلة المشي، فالمناخ صحو وفاتر البرودة. كانت سيارة معطلة تقف على الجانب الأيمن من طريق ترابي صغير، وأمامها يقف شخصان يرتديان ملابس سيرك..سمعتهما يتحدثان بلكنة غريبة..
- هيا هيا..تحركي..
- علينا ضربها كبومبا..
- الفيلة بومبا تتحمل ولكن هذه السيارة مجرد خردة..
- لا اسمح لك أن تصف سيارة أبي بهذا الوصف..
- ولكن يا أبي..
- إنها تاريخ يا ولد..ما الذي يربطنا بالحياة لولا امتلاكنا لتاريخ..خاصة نحن الرحَّالة..
- لكن قطرها معنا في كل مكان يؤخرنا..
- عن أي شيء يؤخرنا.. نحن مخلوقون للترحال..إن كانت حياة السيرك المتنقل لا تعجبك يمكنك الرحيل..
- إنها لا تعجبني بالفعل..ولكنني..
وضعف صوت الحوار شيئاً فشيئاً حتى اختفى ورائي تماماً..
في الساعة الثانية عشر ظهراً قررت العودة بسيارة أجرة ولم يتسنَّ لي إيجاد سيارة إلا بعد أن قطعت ثلث طريق العودة فوصلت مرهقاً.. ونمت حتى المساء..
قادتني الفتاة بسيارتها إلى منزل خشبي صغير، رأيت على مدخل بابه شاباً طويلاً ونحيل الجسد. ابتسم لنا واحتضن الفتاة ثم جثى على ركبته فقالت:
- لماذا خلعت طوقك دون إذني؟
بدا مرتبكاً حين أجاب:
- لم أقصد الخروج عن طوعك سيدتي..
- هل لا زلت الكلب الوفيَّ لي؟
- بالتأكيد سيدتي..
- انبح..
أخذ ينبح كجرو خائف..ولاحظت أنهما لا يمثلان دوراً مسرحياً فأصابني الرعب. ثم دخلت مع الفتاة والرجل يحبو على أربع، قبل أن تبحث هي عن الطوق فتلبسه إياه وهي تقبض على السلسلطة الملحومة فيه. وفي مساء شديد السواد، شاهدت لأول مرة ..الرجل الكلب..
كانت تذله وتقوده بالسلسلة، وتضربه، تبصق في وجهه..ثم تنظر لي وتقول:
- هل تريد من كلبي أن يفعل لك شيئاً..
صحت:
- يا إلهي..ماهذا..هذا مرعب..مرعب حقاً..
كانت تضحك بوجه شيطان، وتضرب صديقها بالسوط ضربات تخترق الجلد..وتصيح كوحش:
- من أنت؟
فيجيبها وهو يبكي:
- أنا كلبك المطيع..
حينها لم أتحمل فهرولت إلى الخارج وركضت عائداً إلى النزل وأنفاسي تلاحق خطواتي..تحممت غير أن الماء البارد فشل في أن يمحوا من ذاكرتي تلك المشاهد الوحشية ووجه الشاب الذي بدا كما لو تحول لوجه كلب بالفعل...فحاولت النوم...دون جدوى.. وكان صباح جديد..
.......

اليوم الخامس عشر:

تجنبت النظر إليها طيلة الأيام الأربعة الماضية، كنت قد جهزت نفسي للرحيل بعد بضعة أيام..، تناولت العشاء وأدخلت جسدي داخل لحاف لطيف الملمس. كنت أكره دائماً ملمس البطانيات الناعمة، إذ يقشعر منه جسدي، أما الالحفة القماشية فهي التي تمنحني الدفء وإحساساً آخرَ خفياً. إحساس بالحب تقريياً. سمعت طرقات خفيفة وببطء فتحت الباب، فوجدتها أمامي..كان نور الغرفة لا يزال مطفئاً لكنها دخلت كما يتسرب الهواء من بين الستار.
- لماذا تتحاشاني؟
بقيت صامتاً..، كان إحتمالان يحاصران إرادتي تماماً، غير أنها انهارت حينما لمسَت الفتاة يدي وهمست:
- لست متوحشة كما تصورت...كان هو يريد ذلك...
قلت بصوت خفيض بارد:
- لقد أحببتك..
رأيت بريق عينيها من وراء سديم الظلام..، وأحسست بأنفاسها تقترب..وبيننا صمت مطبق كقعر المحيطات..
......

كان الأطفال وآباؤهم يحاصرون خيمة السيرك الملونة من الخارج.
قالت:
- هل ندخل؟
قلت:
- يبدو أنه سيرك أطفال؟ لكن لا بأس من التجربة..
جلسنا وسط زحام مفرط..وضجيج كثيف.. ثم صمت الجميع حينما دخل المهرج الذي بدأ في اللعب مع الأطفال لعبة الكراسي، ثم قام ببعض الحركات البهلوانية الخفيفة..فشعرت بالسأم لكنني حين نظرت إليها وجدت وجهها مشرقاً بابتسامة واسعة..لقد وضعَت بعض مساحيق التجميل بشكل قروي، كانت تلك أول مرة تفعل فيها ذلك كما أخبرتني ولذلك فلم تكن بالخبرة الكافية.. كانت كفها داخل كفي..كفها دافئة بعض الشيء، وكفي باردة قليلاً..
قربتُ فمي من أذنها طالباً المغادرة، فقبلت، وهكذا تحركنا بصعوبة وسط الزحام حتى تنفسنا الصعداء في الخارج.
- ما رأيك لو ارتحلنا إلى العاصمة؟
قالت بقلق:
- أخاف من العاصمة..
قلت بشجاعة:
- ستكونين معي.. وأنا لا أخاف البتة...
نظرت نحوي نظرة متشككة ثم ابتسمت وأحاطت رقبتي بذراعيها:
- يبدو عليك الخوف منذ الآن..
قلت:
- ربما.. نحن نخاف من أحداث لم تقع لنا بعد..وليس من تلك التي حدثت بالفعل.. مخاوفنا تعيقنا وعلينا أن نتمرد عليها..
وضعَت رأسها على صدري وغمرها سكون ما..
- تدركين أن شيئا ما يكون مفقوداً في هذه الحياة..ذلك الشبح الذي نطارده طوال حياتنا دون أن نعرف ملامحه...
همست:
- ما هو يا ترى..؟
قلت وذراعاي تحيطان بها:
- إنه بالنسبة لي هذه اللحظة التي وضعتِ رأسك فيها على صدري..
أحسست بأصابعها تتشبث بي اكثر فاكثر حين همست:
- وأنا كنت يائسة من أن أجد الصدر الذي سأضع عليه رأسي..أعتقد .. لا شيء يمكنه أن يمنحنا الشجاعة أكثر من ذلك..أليس كذلك؟..
نظرتُ إلى السماء وتذكرت ذلك اليوم..اليوم الأول..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى