رضا المحمداوي - صراع الهوية العراقية في إنتفاضة تشرين

أفرزتْ الإنتفاضة الشعبية التي إندلعتْ شرارتها الإولى في الاول من تشرين الاول عام 2019 ،هدفاً أو هاجساً وطنياً جديداً بدأ يداعب ذاكرة الفكر السياسي لدى الجيل الجديد الناهض في المجتمع العراقي ، ألا وهو التأكيد على الذات العراقية ومحاولة إبراز أهم ملامحها الوطنية التي طُمسَتْ على مدى سنوات طويلة وخاصة ً في ال16 عاماً الماضية الأخيرة من الحكم الديمقراطي المُشَّوه والفاشل الذي أسَّسَّهُ الإحتلال الأميركي بعد سقوط النظام الصدامي في يوم 9/ 4/ 2003 .
ولقد جاء التأكيد على الذات العراقية بملامحها الوطنية داخل موجات الإحتجاج الجماهيري نتيجة ً للإحساس الشعبي العام بضياع الهوية العراقية في خضم تشابك وتداخل النفوذ الدولي والإقليمي وخاصة َ تداعيات الصراع الإيراني - الأميركي على الأراضي العراقية بواجهتهِ العسكرية وما تبعهُ من أفعال حربية متبادلة بين الجانبين تدخل في مجال تصفية الحسابات مع ما رافق ذلك من تداعيات أمنية وسياسية .
هذا الإندفاع الجماهيري وحماستهُ الواضحة في تأكيد الهوية الوطنية المُهددة بالضياع للوطن العراقي المُغيّب عن الوجدان،أماط اللثام في جانب كبير منه، عن الوجه الدموي بطابعهِ القمعي عن الديمقراطية العراقية المُشوَّهة العرجاء التي حاول الإحتلال الأميركي بعد عام 20003بواسطة قلة سياسية تبنتها أو بالأحرى أعدَّتْها داخل مطبخ الادارة الاميركية ضمن مشروع الشرق الاوسط الجديد ... حاول الإحتلال الأميركي زرعها داخل بنية المجتمع العراقي والذي رضخ ،قبل ذلك وطوال ما يقرب من 25عاما، تحت نير الديكتاتورية الصدامية بطابعها القمعي الدموي،هي الإخرى،ونزوعها نحو الهيمنة والتوسع وبسط النفوذ تحت وهم البطولة القومية وبواسطة غطرسته العسكرية ورعونته الحربية.
غياب مشروع الدولة
---------------------------------------------------------------------------
إنَّ أبرز ما يمثّل ضياع الهوية العراقية وملامحها الوطنية هو غياب مشروع ( الدولة العراقية) الجديدة الذي بدأ بتدشينه بعد عام 2003 مع بدء ما يسمى ب (العملية السياسية)وإتباع النظام الديمقراطي بدوراته الانتخابية ومن ثم إتباع النسخة التوافقية من تلك الديمقراطية التي انتهتْ بنظام المحاصصة ولغة المكونات المجتمعية للشعب العراقي، وما تمخَّض عنها من أزمات ومشكلات وأخطاء وسلبيات وضعت النظام السياسي الراهن أمام طريق مسدود.
ومع غياب المشروع الستراتيجي لبناء ( الدولة العراقية ) الجديدة ودخولنا في متاهة الضياع السياسي وفقداننا للبوصلة السياسية الواضحة ، بدأَ التدهور العام لمستوى حياة المجتمع العراقي وإفتقادنا للمستوى الحضاري الراهن بطبيعته المتنامية ، كما أنَّ الطبيعة التراكمية لذلك التدهور والإنحطاط قد ولَّدَ شرارة الإنفجار الشعبي الناجم عن مشاعر السخط والغضب والفوران الشعبي المناهظ للسياسة العامة للدولة وخططها الفاشلة على مدى سنوات طويلة .
لقد أثبتتْ السنوات الطويلة من المعاناة والفشل التنظيمي الذي قاد الى الفساد الإداري والمالي حتى أصبحتْ المنظومة السياسية بقشرتها الديمقراطية الخارجية الكاذبة والمزيفة قديمة ً ومتهرئة ً بكل وجوهها وواجهاتها ورجالاتها وقادة كتلها وزعماء أحزابها ، ذلك لانهم لايشعرون بمدى المعاناة ولا يدركون حجم المأسآة التي يعيشها المجتمع العراقي ، ومن جانب آخر بدوا لنا ،من خلال سكوتهم وصمتهم المخجل بل والمخزي عن الطابع الدموي للتعامل مع الانتفاضة الشعبية ... بدوا متشبثين بكراسي الفساد والفشل والخراب الذي أشاعوهُ في منظومتهم السياسية . ذلك لإن مكامن الفساد الذي قاد الى هذا الخراب المتفاقم والتدهور المأسآوي في مستوى الحياة العراقية العامة تكمن في طبيعة تعامل الطبقة السياسية مع إدارة الدولة بلغة الإمتيازات والمكاسب وإتّباع سياسية المغانم في التعامل مع مناصب الدولة ومؤسساتها الرسمية ، مع غياب تام وكامل لمفاهيم المسؤولية والواجب الوطني .
إن منظومة أحزاب الإسلام السياسي التي أشاعتْ ووظفتْ الديمقراطية الناشئة الغضة في التجربة العراقية المرتبكة ، لم ترسخْ في أنظمة عملها وأهدافها الايديولوجية أو في السياسة العامة لإدارة الدولة الجديدة أيَّة تصورات أو قيم أو مفاهيم او أفكار عامة عن ( الحياة الحرة الكريمة)التي وضعتها في دستورعام 2005 . وأحسبُ أن مفاهيم مثل ( العدالة الاجتماعية ) و( المواطنة ) أو التأكيد على الحقوق الانسانية في الحياة العامة للمجتمع هي في صلب مفهوم( الحياة الحرة الكريمة)
أسئلة صعبة تطرق الابواب
--------------------------------------------------------------------------
وفي ظل غياب التنظير الآيديولوجي لمشروع الدولة العصرية ، ومن ثم الفشل الذريع في إدارة بناء الدولة العلمية الراهنة وإنتشار شواخص الفشل الإداري والمالي وشيوع حالات الفوضى وإستشراء الفساد وبناء الهيكل التنظيمي للدولة وفق مبدأ المحاصصة العرقية والطائفية وإعتماد لغة (المُكِّونات ) المجتمعية في البناء السياسي للدولة ... كل هذه وغيرها دفعتْ بالأسئلة الصعبة الى البروز والوقوف بوجه التجربة العراقية التي أغلقتْ الأبواب على نفسها ، في حين تصاعدتْ في الإنتفاضة الشعبية وموجاتها المتعاقبة حالات الغضب الشعبي العام الذي قاد مؤخراً الى نزول الشعب المسالم الى الشوارع والساحات والجسور من أجل المطالبة بحقه في الحياة الحرة الكريمة والتأكيد على هويته العراقية بملامحها الوطنية التي باتت مُهددةً بالضياع والمصادرة والإستلاب ، وبالمقابل نزلت السلطة المدججة بالأسلحة والمُعبّأة بالمواجهة الدموية القاتلة في رهان خاسر تراهن عليه المنظومة السياسية الحاكمة دون أن تقرأ أو تتعظ من دروس التأريخ وبالخصوص تاريخ العراق القريب حيث ما زالتْ المنظومة السياسية الحاكمة في قطّاع كبير منها وخاصة ً مَنْ كانوا يتفاخرون ويدعَّون ويتبجحون بعنوان ( المعارضة)... ما زالتْ تتغنى وتحتفي وتحتفل بذكرى الإنتفاضة الشعبية عام 1991 التي إنتفض فيها الشعب العراقي - في محافظات الوسط والجنوب على وجه التحديد - ضد النظام الصدامي المنهار بعد هزيمته النكراء في حرب الخليج الثانية ( عاصفة الصحراء) التي قادتْها أميركا وتحالفها الدولي من أجل إخراج الجيش العراقي من أراضي دولة الكويت الشقيقة التي قام بغزوها بتأريخ 2 آب عام 1990 .
في شهر آذار من عام 1991 وفي ربيع عراقي مُبكّر لما عُرِفَ ب (الربيع العربي) وثوراته الشعبية في بعض الدول العربية التي اندلعتْ عام 2011،كانت هناك إنتفاضة شعبية عراقية ضد النظام الصدامي المنهار وإنتهتْ الى ما إنتهتْ إليهِ من تصفية وفشل وإحباط بفعل التواطؤ الأميركي مع النظام الصدامي الذي واجهها بالقمع العسكري وحرب الابادة الجماعية ضد الجماهير المنتفضة ، وفي 1 / 10 / 2019 إندلعتْ إنتفاضة شعبية ضد نظام سياسي أثبتَ فشلَهُ وفسادَهُ وإنسداد أفقه المستقبلي ، وفي مواجهته لها والتعاطي معها أعلن النظام الديمقراطي بعقليته الإستبدادية عن دمويتهِ التي تفصح عنها الأعداد المتزايدة كل يوم من الشهداء والجرحى والمصابين !؟








* منشورة في جريدة (المدى )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى