حاميد اليوسفي - اللوحة المائية.. قصة قصيرة

مُعدّ البرنامج
ارتدى غانم هندامه ، ورشّ قليلا من العطر على صدر القميص ، وأغلق أزرار البذلة . قبل أن يدلف مع الباب ، طبع قبلة على الخدّ الأيمن لزوجته . تابعته بعينيها ، وهو يفتح باب السيارة ، ويُلقي الهاتف بجانبه ، ثم يربطه بالميكروفون . يُطلّ من النافذة ، ويَعدها بالعودة إلى البيت مبكرا . انطلقت (الرونج روفر) تنساب مثل ماء النهر .
رنّ الهاتف :
ـ مساء الخير حبيبي ؟
هذه اللعينة لا بد أنها ساحرة ، أو على علم بطقوس السحر . تعرف متى أخرج من البيت ؟ وإلى أين أتجه ؟ تتنبأ بكل خطواتي ، كأنها تسير خلفي :
ـ أهلا غزالي . أنا في الطريق إلى التلفزيون ، كوني جاهزة سأمرّ عليك بعد الخروج من الأستوديو .
لا أحد يعرف كم هي ميزانية البرنامج الترفيهي الذي يُشرف على إعداده . سعر الضيوف يختلف . قيل بأن مغنيا مشهورا طلب مبلغا عاليا وصل إلى ثلاث مئة ألف درهم ، وأن مواطنا مقهورا ، لمع نجمه مع فيضانات إحدى المدن ، لم يتجاوز المبلغ الذي حصل عليه خمسمائة درهم ، وبذلة جديدة حضر بها البرنامج .
أما غانم فلا أحد يعلم كم يتقاضى عن الحلقة الواحدة . كرم وسخاء القناة في صرف ميزانيتها الضخمة ، جعل البعض يُخمّن بأن المبلغ لن يقل عن خمسة ملايين سنتيم . يهيئ الأسئلة التي يُلقيها على الضيوف . بعضها يتعلق بالجانب الشخصي ، وبعضها يرتبط بمجال العمل . قد يبحث عن بعض الثغرات التي تُحرج الضيف ، وإذا لم يجدها استعاض عنها ب(تويشيات)* مُصوّرة لبعض الأغاني ، وطلب منه تحديد أسماء المطربين . وإذا نسي الجمهور أن يُصفّق ، دعاه إلى ذلك .
كل مساء جمعة يتابع الحلقة جمهور مُتشوّق للروتين والكسل والبلادة ، بعد أن تعب من الشغل والتفكير والصلاة والكذب طيلة أيام الأسبوع .
في المساء لم يف غانم بوعده ، ويعود إلى زوجته وأبنائه ، بعد الانتهاء من البرنامج . سرقته غزاله ، ولم يستيقظ من غفلته حتى أذّن الفجر .
المعلم
طاهر يعمل بقرية نائية . ركب الحافلة لمدة ست ساعات . أنزل أمتعته ، وانتظر حوالي ساعة ونصف حتى تمتلئ سيارة النقل السري بالركاب ، وينطلق نحو القرية القريبة من مقر عمله . وصل بعد ساعة ، ولم يعد بإمكانه البحث عن وسيلة نقل . الآن عليه أن يتحول إلى دابّة ، ويحمل الحقيبة فوق رأسه ، ويربط الكيس على ظهره ، ويقطع أكثر من عشر كيلومترات بين الجبال على الأقدام . ويجب أن يحذر من أن تنزلق رجلاه ، ويتدحرج مثل قطعة حجر إلى الأسفل ، وإذا بقيت أنفاسه تعلو وتهبط ، فلن يجد من يُنقذه . وعليه أن يصل إلى الدوار الذي تتواجد به المدرسة قبل غروب الشمس . في الحقيقة ليست مدرسة ، السكان أطلقوا عليها ذلك الاسم من باب المبالغة ، والفخر على الدواوير المجاورة . فهي مجرد قسم بجانبه غرفة صغيرة ، يضع فيها السرير والطاولة والفرن وأواني المطبخ وحقيبة الملابس ، ويغلقها عندما يسافر بقُفل صنعه بنفسه ، يمكن لأي شخص أن يفتحه بسهولة . لم تفكر الجهات الوصية في أن تبني له مرحاضا . لذلك فرضت عليه الضرورة ، أن يبتعد بضعة أمتار خلف الأشجار ، ويقضي حاجته . أما الماء فهو ينزل إلى الوادي ، ويملأ سطلين من البلاستيك ، يكفيانه ليومين أو ثلاثة . وعندما تراه بنات القرية ، يتغامزن عليه ، ويمتن من الضحك .
يستقبله الأطفال بابتسامات بريئة ، فهو يحكي لهم أحيانا عن عالم بعيد ، يبدو كأنه ضرب من الخيال . سيتعلمون مثله ، أو أحسن منه ، وسيقيمون في هذا العالم الحالم الذي قدم منه طاهر .
أثناء تساقط الثلوج يهرب من المنطقة ، وينقطع عن العمل حوالي أسبوعين أو ثلاثة ، خوفا من انقطاع وصول المواد الغذائية إلى الدوار ، فيتحول إلى شحاذ يمدّ يده للناس من أجل أن يحصل على لقمة الطعام . يتقاضى أجرا زهيدا لا يتعدى خمسة آلاف درهم في الشهر . يُرسل منها ألفي درهم لوالديه .
ابن عمه غالي يعرف من أين تُؤكل الكتف . والده يقول عنه دائما بأنه شاطر. يعمل مثله في التعليم ، لكنه يختلف عنه . كل وقت فراغه يقضيه في العمل . يعمل في مدرسة خصوصية أكثر من عشر ساعات. ويعمل في البيوت أيضا . وعندما تتوقف الدراسة يشتغل بالسمسرة في السيارات المستعملة . لا أحد يعلم كم يربح في الشهر . يُخفي ذلك حتى عن زوجته . عندما يزور والديه ، فهو دائما يشكو حاجته إلى المال . وقد يقضي عندهم يومين أو ثلاثة بمصروف أقلّ ممّا لو بقي في منزله . يكاد يكون نسخة طبق الأصل للحكاية المسلية التي تصف تقشف معلم في الثمانينات من القرن الماضي ، وهو يضع برنامجا لوجبات الأسبوع . فيتناول يوم الاثنين العدس ، ويوم الثلاثاء ما بقي من العدس . ويصوم يومي الأربعاء والخميس ، ويتناول طعام الكسكس مع الأسرة يوم الجمعة ، ويقضي معهم عطلة نهاية الأسبوع .
أخته عائشة بمجرد ما حصلت على الوظيفة ، طار بها الخطيب ، وكتب العقد ، حتى لا تستفيد منها الأسرة ، وتعيش سنتين أو ثلاث في خيرها .
ولأنها خصصت خمسمائة درهم لأمها ، فلا بد أن تتشاجر مع زوجها في نهاية كل شهر ، حول أقساط قرض السكن ، ومصروف البيت ، ودراسة الأبناء .
الراقصة (الشيخة)
فاطمة تعتقد بأن الله أنعم عليها ، ووضع سدا منيعا بينها وبين الفقر . تظهر في فيديو ، مُمدّدة بمايو السباحة فوق سرير ، تأخذ حمّام شمس بالقُرب من مسبح داخل الفيلاّ . على يمينها طاولة ، فوقها كأس ليمون ، وباقة ورد أرسلها هذا الصباح تاجر مُعجب بمُؤخّرتها . تلعب في الهاتف ، تفتح الكاميرا ، وتتوجه بالخطاب إلى أصدقائها وصديقاتها ، تنصح وتشكو من الملل . كورونا أغلق في وجهها كل المرافق التي ألفت أن تُنفق فيها المال ، لتنشط وتنسى .
تعود إلى ذاكرة الهاتف ، وتختار فيديو تظهر فيه بفُستان ، لا ينزل ثوبه وخياطته عن ثلاثة ملايين سنتيم ، ناهيك عن الحزام الذهبي والعقد والدمالج المحيطة بمعصمي اليدين . السيدة تلبس ثروة تضاهي ثمن شُقّة سكنية في حي متوسط الحال .
ترقص وتُغني . كل العيون مشدودة إلى حركاتها . بعض النساء يحسدنها على الفستان أو الذهب ، وبعضهن يحسدنها على تناسق ردفيها ، ومدى إثارتهما للرجال . عيون كل الرجال تتسمّر حول النصف الأسفل من جسدها . تعرف جيدا من أين تُؤكل الكتف .
قيل والعهدة على الرواة ، أن أجرها لا ينزل عن عشرين مليون سنتيم لتنشيط عرس لمدة أربع ساعات . خمسة ملايين لساعة غناء ورقص أغلى بكثير من تأطير عشرة بحوث علمية لفترة سنة كاملة . لذلك ستظل بعض البلدان تسير وتسير في طريق النمو ، ولن تصل أبدا .
السياسي
عندما انخرط أحمد في الحزب ، كان يود أن يترشح للبرلمان . يطمح في أن يضمن في البداية الحصول على أربعة ملايين كدخل قار في الشهر . ويمكن أن يُضيف إليها حسب شطارته ، أربعة أخرى أو أكثر. يحلم بأن يُرسل أبناءه للدراسة في الخارج . هناك يمكن أن يحصلوا على كل شيء : الدبلوم والعمل والجنسية والمال ، بدل من أن يدخلوا أوروبا مثل الفئران في قوارب الموت .
لكن القطط السمينة في الحزب خيّبت ظنه ، عندما قالت له ، بأنه يجب أن يأخذ الصف ، وينتظر حتى يتمرّس على العمل الحزبي . الترشيح يبدأ بالتدرُّج . في الأول سيقتصر دوره على إكمال اللائحة في الانتخابات الجماعية ، وحفظ البرنامج ، وتوزيع المناشير والملصقات .
وإذا أظهر تقدُّما ونباهة ، يمكن أن يحتل في المرحلة الثانية ، وسط اللائحة ، بعد أن يتملك آليات الشيطنة و(تحرميات)* التي (تدوخ) المواطن ، حتى يفقد القدرة على التمييز بين الحقيقة والكذب ، ويجعله يضع الثقة في اللائحة ، ويصوت لصالحها .
وفي المرحلة الثالثة يمكن أن تصل نوبته إلى احتلال أحد المراكز الخمس الأولى حسب الولاء ، ونوع الخدمة التي يُمكن أن يقدّمها ، بعد أن يتطور من ذُبابة إلى نحلة .
سعد سيسلك طريقا قصيرا ، يوصله مباشرة إلى رأس اللائحة الجماعية ، أو اللائحة البرلمانية ، فهو يتوفر على وضع اقتصادي مريح ، يكسب من ورائه الملايين . سيشتري المركز الأول في اللائحة ، وسيصرف الملايين من ماله الخاص على الحملة ، وسيتنازل للقطط السمينة عن الدعم الذي تُقدّمه الدولة . وحدها العين التي لا تنام ، تعرف حظوظ من سينجح أو سيسقط . في جميع الأحوال لا بد من صرف المال لتسخين (الطعارج) .
إذا حدث ونجح ، فهو يعتقد بأن الحزب لا فضل له عليه . لقد دفع دم قلبه للحصول على المقعد . على الحزب أن يتبع توجيهاته وسياسته وتكتيكه وإستراتيجيته ، وإلا فإن المؤسسة الحزبية تعرف دار والدها .
المعطي
منذ شهرين حرث حقلين من القمح . لكنه ظل كل هذه الفترة يتطلع إلى السماء ويتوجع ، ويطلب من الله أن يُنقذ الزرع ، وقطيع الغنم المكون من عشرة رؤوس والبقرتين والبغل . ضيّق عليه الوباء الخناق ، كل رزقه يتوقف على السماء .
كلما أمطرت السماء ، أحس المعطي بسعادة لا حد لها . الزرع سينمو ، ويُعطي خيرا كثيرا ، والكلأ سيُسمن البهائم ، ويُغنيه عن بيع بعضها من أجل اقتناء العلف لبعضها الآخر . والدجاج سيمُده بالبيض واللحم ، وحليب البقرتين يمكن أن يسدّ ثمن علفهما ، وجزءا من مصروف السكر والشاي .
كاد يُجنّ عندما ماتت نعجة الأسبوع الفارط ، وحزن عليها كأنها قطعة من كبده . وزاد من همومه ، خوفه أن تكون مصابة بمرض ، وتنقل العدوى إلى باقي البهائم . لا يملك ما يدعو به البيطري إلى فحص قطيعه . بقي معه قدر ضئيل من المال للذهاب إلى السوق الأسبوع المقبل .
في هذه الفترة من العام يشتد به القلق والخوف من القادم من الأيام . مطلع العام يعد بموسم جيد ، لكن لا أحد يضمن نهايته بنفس الفأل .
لقد عمل كل ما بوسعه ، صام وصلى وتضرع لله ، وبقي على السماء أن تعمل ما بوسعها لتُكافئه على قدر عمله وثوابه وتقواه .
التجار ورجال الدين
لا يعلم كيف حلل التجار الكذب على الزبائن ، ونسبوه إلى الدين من غير دليل ، وصدّقهم العامة . ولم يتدخل رجال الدين لمنع ذلك ، واكتفوا بالحديث عن مضار ترك الحجاب ، وشُرب الخمر ، والرقص في الملاهي ، وتقليد النصارى في الاحتفال بأعيادهم . تقبلوا الهدايا ، واختلفوا حول وضع الأيادي على الصدور أو إسدالها أثناء الصلاة .
الرسام
أضاف الألوان ، وانتهى من رسم اللوحة . بعد أقل من ساعة يبست الصباغة . وضع اللوحة داخل الإطار ، وعلقها على الجدار . تأمل فيها قليلا ، كل الشخوص في أماكنها . غانم في البلاتو . طاهر يتحدث إلى الأطفال . فاطمة تغني وترقص في العرس . أحمد وسعد يشاركان في الحملة . المعطي يقف بجانب الأغنام ويتطلع إلى السماء . التجار يكذبون . رجال الدين يتقبلون الهدايا ويتخاصمون .
لاحظ بأن الواجهة الأمامية للوحة تحتاج إلى تعديل بسيط في الضوء ، داهمه الوقت ، فأنزلها فوق الطاولة . أخذ إناء الماء ، وحاول أن يضعه بجانبه ، لكن الماء تدفق وسقط في وسطها ، وتسرب إلى جوانبها ، فتداخلت بعض الألوان والخطوط !
وقف جميع الشخوص أمام المرآة ، تعرف المعطي وطاهر وفاطمة على ملامح وجوههم . ضحك الأول باستغراب ، وابتسم الثاني ، ولم تصدق الثالثة نفسها ، وتملكها الخوف من انهيار الجدار ، لكنها لمست مجوهراتها ودندنت بالغناء .
الباقي تنكر لوجهه . غانم ركب سيارته غاضبا . أحمد رمى البرنامج الانتخابي في بداية الطريق . سعد مزق صورته وانسحب من الحزب . التجار تغامزوا في السر على أن الله حلل الكذب بين البائع والمشتري ، وأنكروا ذلك أمام المرآة . رجال الدين تخلفوا عن الحضور ، ورأوا فيه مروقا وخروجا عن الأصول .


المعجم :
ـ التويشيات : لفظ عامي يطلق على مظاهر تُغري المشاهد وتخدعه .
ـ تحرميات : لفظ عامي يطلق على أساليب الغش والخداع

مراكش 18 فبراير 2021




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى