رسالتان من شاكر لعيبي الى منذر مصري

-1
العزيز منذر
تحية
منذ أسبوع كتب لي أحد الأصدقاء أنك تريد أن تقوم بتحقيق مع العراقيين، ( هل ستعود للعراق ومتى ؟)
أظن بأن الوقت مبكر قليلا.
ـ
مع المحبة
شاكر لعيبي / 9-3-2003
ــــــــــــــــــــــــــــــ
2 -:
منذر العزيز
...
تعرف أنني، منذ سنة، قد فارقت جنيف التي أعطتني، خلافاً لكل عاصمة عربية، جواز سفرها الثمين، وأعمل اللحظة في التلفاز الإماراتي في أبو ظبي. إنني بعبارة أخرى أرضع الآن من حلمة الخليج الموصولة شرايينه بشط العرب في البصرة. لكن ما أبعد العراق رغم ذلك.
لا أشعر بالحنين إلى التخلف، بل بصلة قربى ورحم إلى العاطفة الجيّاشة والكرامة المأمولة في بغدادي. لأول مرة منذ 23 سنة أشعر بأن لي وطن. عندما كان أصدقائي التونسيون والمصريون والسوريون والمغاربة يعودون من أوربا في إجازات الصيف إلى أوطانهم كنت أشعر بالقلق الوجودي على مصيري: لا وطن لي مثلهم. إنني ضائع في غبار المجرة. اليوم ينتابني إحساسٌ من القوة الزائفة - أم الحقيقية؟- بأن أسوأ الاحتمالات في المجرة لن تدفعني إلى العدم بل إلى بيت أبي وأمي. أنت تفهم ما أريد إيضاحه؟ أنا من أولئك الكارهين لأي نوع من النوستالجيا المتبذلة. كل نوستالجيا هي انغمار في قوة العادة. وهذا الأمر ضد الحيوية التي يطلع منها أدب الكاتب وشعر الشاعر. الحنين السام إذن كما تقول عن حق. لقد خرجت شاباً وفتياً ومن دون عادات قاهرة، من دون زوجة ولا بيت ولا فرنك واحد لذا لا شيء - الشيء كلمة بليغة عن ارتباط عادي للغاية بموضوع ما- لا شيء ملزم بالنسبة لي. عاداتي هي عادات القمر الدائر مع ذلك في مسار فيزيقي منطقي رغم الأحلام القديمة والقصائد البائدة بشأنه.
اكتشاف الحقيقة، أريد اقتناص لحظة اكتشاف الحقيقة الاجتماعية والإنسانية الحالية في العراق التي منعني من معرفة تفاصيلها الطغاة الصغار. أريد أن اشرب شايا في مقهى حسن عجمي البغدادية مثلما يمكن أن أحتسي كأساً في اللاذقية. أوطاني صارت متنوعة وثرية وسأبقى رغم ذلك وطنيا وعراقيا جدا. هذا هو فعل المنفى.
كل هاجس وطني على طريقة العرب العروبيين جداَ هو نفي للمشترك بين العرب.
أمهاتهم ما زالت تشابه أمي رغم أن بعضهم لم يشعر للحظة بعذاب أمي المتأصل في الجحيم الخاص. يا أخي ألا يشاهد البعض مشاهد المقابر الجماعية في الفضائيات؟
عروبتهم منفى أكثر عراقة من المنافي وضيافاتهم لم تكن كريمة كما يتوجب.
سنعود ليس من باب الحنين لكن أيضا لكي نقول ما عضضنا على شفاهنا لكي لا نقوله لفخري صالح وأمجد ناصر وغيرهم. أورد هذين الاسمين ليس سوى أنني أقرأ لهما هذا اليوم (9-5-2003) مادتين على الانترنيت نقلا عن الصحافة اليومية.
لقد أخرت أما إكراميات أو ألاعيب صدام حسين السياسية واللغوية وعيهم، بحيث أن فخري صالح يكتب اليوم فحسب مقالاً في (الحياة) عن ضرورة الانتباه إلى فعل الاستبداد في تحطيم بُنانا وقرانا قبل فعل الغزاة. ما شاء الله... لقد توصل للحقيقة في وقت جد متأخر. أذكر هنا أن الرجل لم يكتب كلمة واحدة عن أديب عراقي في المنفى، وظل مشغولا بالإمبريالية التي تشغلنا مثله لكن ليس لوحدها.
مثله يكتب (مثله أي بتأخر مقداره على الأقل عشر سنوات) اليوم أيضاً في (القدس العربي) صديقي أمجد ناصر "عن الحقيقة وفق عيون العراقيون"، وينبه إلى ضرورة الانتباه إليها. لقد اكتشفوا عذابنا فجأة بعد أن أشاحوا عنه لفترة طويلة وطالت باسم أفكار ثابتة ميتة. هذا أمر فظيع يشابه الدراما الإغريقية حيث يقتل البطل أباه ويضاجع أمه. أي فعل ثقافي طليعي ينجزه يا ترى أمجد ناصر مساهما في مشروع رجل مثل عبد الباري عطوان طيلة هذا الوقت الطويل؟ رحم الله أيام مجلة الحرية والمجد لشخص مثل ميشيل النمري.
لقد قُذفنا إلى المنفى بشكل مزدوج. وظلم ذوي القربى كما تعلم أشد مضاضة على المرء. من دون وطن أو بوطن يمتلكه الطغاة بطابو - الكلمة تركية وأظنها مستخدمة في سوريا- مختوم بدم الجريمة، فإن قيمتك الشخصية والإبداعية تحتاج إلى براهين. من دون وطن أنت ملقي في الظل. للتو كنت أشاهد برنامج (مبدعون) وفيه أرى أبراهيم نصر الله وهو من جيلي. لا اعرف اليوم القيمة الفعلية لنصه لكنني أعرف أنه موضوع في الضوء خلافي رغم أنني اعمل في المؤسسة نفسها وفيها لا تعرف معدة البرنامج التي تقدمه شيئا عني البتة، لا تعرفني. لقد نفينا بشكل مزدوج بل مثلّث. إنني رجل مجهول بالنسبة لها طالما أتنقل في الظلال الموسوسة. في المنفي ومن دون وطن تصير هلامياً ومن دون ملامح لأنك لا تمثل منفعة لأحد ولا تقدم مثالاً لأمثولة عربية رمزية واستعارية ذات شأن في عيون العرب الذين يرون صدام خلاف ما تراه.
أنه بطل قومي رمزي في عيونهم وهو مجرد قاتل تافه في عيونك.
سنعود ربما إلى العراق كما ستعود جوهرياً إلى مدينتك، لكي نقول ذلك وأشياء أخرى من بيوتنا ومن على منابرنا. العودة هنا فعل ثقافي قبل أن يكون فعلا نوستالجياً. لقد سرق البعض كل المنابر. المثقفون العراقيون من دون منابر مهمة، أو من دون منابر على الإطلاق. لقد كانوا مطرودين من ملذات الصحافة العربية. ولو أنهم حضروا فقد انتزعوا هذا الحضور انتزاعا من مخالب الدببة. لكنهم حاضرون رغم ذلك وفق حسابات دقيقة وبقطرات (قطّارة) العيون كما نقول في الجملة الشعبية العراقية. اسأل عبده وازن الذي لم ينشر لأخيك كاتب هذه السطور، الحائز على الدكتوراه من جامعة لوزان (وليس من الصومال) في علم الاجتماع، على التوالي ثلاث مقالات في الشهر الحالي تتعلق بالشأن الشعري الراهن.
سنعود إلى العراق لكي:
نتكلم بهدوء عن ذلك كله من دون حسابات ساذجة ولا معالجات محسوبة رياضيا. في الساحل السوري وفي الريف العراقي، البشر أكثر كرما وأريحية من حسابات بعض، بل الكثير من الشعراء والمثقفين اللبنانيين. سأستثني بصوت عال عباس بيضون وإلياس خوري وعقل العويط مؤخراً وأخي نوري الجراح. سأسمي أحد شوارع بغداد عندما أعود باسم عباس بيضون حتى وإن لم يتفق معي أحد. بفضل أولئك الشعراء اللبنانيين غير البررة يجرى اليوم الترويج لأسماء ساهمت أو تواطأت مع المشروع العروبي القمعي في العراق مثل الشاعرة أمل الجبوري وشاعر آخر (كمال سبتي) يزعم أنه حُكم بالإعدام رغم انه خرج بتوقيع رسمي من المخابرات الصدامية. هذه ليست أقاويل أو مزحاً أو إشاعات من لا شاغل له. شغلنا أعمق من هؤلاء.
لقد انتبذوا جانباً المشاريع الثقافية العراقية الجادة ذات التاريخ. حياة الشاعرة الحميمية ملك الشاعرة بالطبع، ولا أسمح لنفسي بحال من الأحوال أن أتدخل فيها، لكنها ( أمل الجبوري ) عادت بسرعة فائقة قبلنا جميعاً إلى بغداد، نافية إيانا في مقالتها في الحياة نفسها المنشورة بسرعة فائقة كذلك. لقد ضخّم أدونيس من حجمها لسبب نجهله ويمكن تخمينه بمخيلة شريرة. كل الأذرع التي تمرغت في أحضان الطغاة، من الشعراء والسياسيين والأمريكيين، تقف ضد عودتنا إلى بلدنا. أليس الأمر مثيرًا؟ سنقول (برافو) لعلي عبد الأمير الوحيد الذي ينشر في الحياة مواد صادقة. إنها تقبله لأنها تحتاج إليه فحسب، خاصة وهو يكتب الآن من بغداد.
سنعود إلى العراق لكي لا يكون بعد بيننا دجالون ومرتزقة يحسنون الكلام الناعم، يقبضون رواتبهم من دولة العراق أو المملكة السعودية لكنهم يطردون من جنات الصحافة الثقافة العربية الأدباء السعوديين والعراقيين كما هو حال (الحياة)، وقبلها الصحافة التي كان يدفع لها صدام حسين.
لو أن الدجالين سيكونون حاضرين من جديد تحت تصرف أموال النفط المبيض صحافياً، وشعرياً فيما بعد، فمما لا شك فيه فإن العيش في أمريكا وأستراليا وسويسرا وفرنسا سيكون أجدى وأجمل. سنتعلم اللغات التي لا يريد البعض من الصحفيين العرب أن نتعلمها، و(سنتحارب) معهم بنفس الأسلحة.. على الأقل. الشعر له مستقبل آخر، لا علاقة له بالدجل.
سأكمل هذه الصرخة فيما بعد.
اكتب لي..
ـ
أخوك في الجملة الشعرية
شاكر لعيبي
أبو ظبي 17-3-2003

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى