جعفر الديري - دعوة الشيخ الجليل.. قصة قصيرة

قصة قصيرة - جعفر الديري:

العيدان الطويلة شاهدة على الأمس، كما هي اليوم. لم يتغيّر في الكوخ شيء؛ سوى أنّ المكان الذي كان يشغره أباه، يحتلّه شقيقه الساعة. وكان أمرا متوقّعا أن يجده كما خلّفه، وإن اكتست ملامحه بتجهّم لم يعهده فيه.

أنهى صلالته، فوجده أمامه. إبتسم بهدوء، ثمّ عانقه بحبّ خالص...

- عدت من سفرك؟

- أنا عائد للتوّ

- عساك وفّقت فيما طلبت؟

- أنا والحمد لله في أحسن حال، غير أني محتاج إلى مزيد من بركاتك.

أخذت حبّات المسبحة تتحرّك بهدوء بين أصابع شقيقه، واستغرق في التفكير فلم يشأ أن يقطع عليه تأمّلاته...

- بعد أن ذهبت؛ اختار شقيقنا طريقك أيضا

- إذن فقراري لم يكن خاطئا

- كان له رأيك نفسه

- لقد ترك شيئا لك في تلك الخزانة

وفتح الخزانه فوجد فيها ورقة أخذ بقراءتها، وتبيّن له أنها رسالة يدعوه فيها لزيارته في بيته الكبير. لقد تزوج امرأة فائقة الحسن فاحشة الثراء، وهو يمتلك اليوم من المال والجاه فوق ما كان يحلم.

- لقد حقق حلمه أخيرا

- وأضاع نفسه أيضا

- ماذا تعني؟

قال في نفاذ صبر...

- إذهب إليه، إنه في الناحية المقابلة...

لم يجد صعوبة تذكر في الوصول إلى بيت شقيقه، فجميع من قابلهم يذكرون اسمه بإجلال وإكبار، وكم كانت دهشته عظيمة عندما وجد البيت قصرا ضخما، تحيط به حديقة متّسعة الأرجاء، وعشرات الفلاحين يعملون في الحقل، إنه أشبه بحلم قرّر أن يتجسّد على أرض الواقع.

وهناك قابله أخوه بصياح وهرج ومرج، وبعناق طويل، كما في الأيام الخوالي، وأدخله إلى ايوان فخم، ذي رياش وثيرة، وخدم وحشم، وروائح عطرة، وكل ما تشتهيه النفس.

وتناول كوب الشاي من يد شقيقه، إنه آية أخرى من آيات الجمال...

- أخبرني كيف فزت بكلّ هذا النعيم؟

- إنها دعوة أبيك الرجل الصالح.

وخطرت في ذهنه ذكرى عذبة لأبيه الشيخ الجليل، الغريب في إيمانه وصبره...

- فقد حقق الله دعوته إذن؟

- ما إن خرجت من داره، حتى لقيت امرأة تستغيث من ذئاب ثلاثة، أنقذتها منهم، فخاطبتني في الزواج، أمّا والدها فأكرمني إذ اعتبرني ولده، وها أنا أعيش في بحبوبة من العيش لا ينالها إلا ذو حظ عظيم.

- وكيف حالك أنت؟

- في أحسن حال.. لقد نمت تجارتي بشكل أشبه بالمعجزة

- الحمد لله...

- ثمّ علاه الوجوم دفعة واحدة...

- قابلت أخانا طبعا؟!

- بلى...

- وهل سرّك حاله؟!

قال في أسف...

- الحق أني وجدت رجلا هزيل الجسم عصبي المزاج؟

- ليت الأمر وقف عند هذا الحد!

- فماذا إذن؟

- لقد انقطع إلى العبادة عن الناس والكسب؟

- ومن أين يأكل؟ هل تساعده؟

- إنه يرفض ذلك مكتفيا برطب النخلة الوحيدة

- إنك تبالغ لا شك!

- كلّما دعوته للعيش معي، والتمتّع بما أحلّ الله من الطيبات، كرّر علي كلماته الجافة "لن أشتر دنياي بآخرتي"...

- فالنحاول معا هذه المرّة...

وانطلقا مجدّدا عبر غابات كثيفة وأحراش، حتى وصلا الكوخ، ووجداه واضعا رأسه على الجدار، يده اليمنى تمسك بالمسبحة، فيما يده اليسرى تمسح على بطنه! فهو مريض وجائع!..

ألقيا السلام، فانتبه إليهما بعينين أمضّهما الجوع والتعب...

- ماذا تريدان؟

- نريدك أن تعيش معنا

صاح مهتاجا...

- أنا لم أسلم من أخيك حتى يبتليني الله بك؟

- لماذا تفعل ذلك بنفسك؟

- لقد طلبتما الدنيا وطلبت الآخرة فاتركاني لشأني!

وحاولا أن يحملاه على رغمه، لكنها تصلّب كجذع نخلة...

- لن أذهب معكما، لقد طلبت من أبيكما أن يدعو لي أن يوفّقني الله لجنّته وليس لدنياكم، فاتركاني لوحدي! أرجوكما.

وندّت عنهما آهة امتزجت بصوت بكائه وهي يرفع صوته بالأذان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى