رسائل انسي الحاج الى غادة السمان.. نماذج

غادة
الوضوح الذي أنا بحاجة إليه لم أقدمه. كنتُ أعرف أنني سأفشل في تقديمه. لكنني أردت أن أجرب. أردت، لأنني أطمع بمشاركتك. أطمع بها إلى حد بعيد جداً. لكن رغم هذا أعتقد أنني سأقول لك شيئاً واضحاً. وقبل كل شيء، هذا: إنني بحاجة إليك. (إذا ضحكت الآن بينك وبين نفسك سخرية من هذه العبارة، فسيكون معناه أنك لا تحترمين مأساتي. ولن أغتفر لك ذلك أبداً). تتذكرين دون ريب أنك ضحكت مرة بمرارة، وانتقام دفين، وشك وسخرية، حيث قلت لك إنني بحاجة إليك. وربما فكرت: كيف يعرف أنه بحاجة إلي، أنا بالذات، شخص لا يعرف عني شيئاً، ولا أعرف عنه شيئاً، ولا يعرف إذا كنت، أنا، (أي أنتِ) بحاجة إلى أن يكون أحد بحاجة إلي... وربما فكرت (وأنا لو كنتُ مكانك لجاءتني الأفكار نفسها) أيضاً، إنني، في تسرعي للقبض على الفرصة السانحة (السانحة في الظاهر) نسيتُ حتى أن أكون لبقاً، أو أن أذهب بمراوغتي مذهباً ذكياً على الأقل، فلا أصوغ «حاجتي» بتلك العبارات المسلوقة، المبتذلة، المبريّة حتى الاهتراء على بلاط النفاق البشري والتعاملات العابرة والزَيف والخبث والتدجيل. وربما، أخيراً، (ولو كنت مكانكِ لفعلت) وربما فكّتِ: أإلى هذه الدرجة يظنني وطيئة المستوى، فلا يكلف نفسه، معي، مشقّة الارتفاع بالنفاق إلى حد أكثر جاذبية، على الأقل؟

ولا أستبعد أن تكون هذه الأفكار، وغيرها أمرّ، قد راودتك في مناسبات أخرى. فقد كانت معظم مواقفي الظاهرية معك مواقف ناقصة تحمل كثيراً على الشك وأحياناً على الاستخفاف والألم والرغبة في تأكيد الذات بنوع من القسوة حتى لا أقول الظلم. لكن، يا عزيزتي (يا لهذه اللفظة السخيفة!) دعيني أوضح مرة أخرى، وأرجو أن لا تضجري.

قبل أن أتصل بك للمرة الأولى كنت أعلم، لكن ربما أقل من الآن، أنني بحاجة إلى إنسان. بحاجة إلى إنسان يتناسب، في ذكائه وإحساسه وطاقاته جميعاً، الإيجابية منها والسلبية، مع ما أنا فيه، وما سأصير فيه. وفكرت طويلاً. ورفضتُ، شيئاً بعد شيء، كل الحلول التي مرّت بفكري. ورفضت كل الأشخاص، ممّن أعرفهم وممّن لا أعرفهم، الذين استعرضتهم. وعندما اتصلت بك للمرة الأولى كنتِ ما تزالين مجرد إمكانية غامضة، لكن قوية. وظلّت هذه الإمكانية غامضة عندما قابلتك للمرة الأولى. وظلّت غامضة أيضاً عندما قابلتك في المرة الثانية، لكنها ازدادت قوة. وفي ما بعد، أصبحتِ أنت التجسيد للإنسان الذي أنا بحاجة مصيرية ملحّة وعميقة وعظيمة ورهيبة إليه. أصبحتِ أنتِ هذا الإنسان لا لأنني أنا صنعتُه منكِ، فحسب، بل لأنك كنتِ أهلاً لذلك. كنتِ أهلاً لذلك رغم أنّك ما تزالين، بالنسبة لي، منغلقة على نفسك ترفضين الخروج إليّ بالعري الذي أشتهيه وأريد أن أتحمّل وزره.

هل حدث هذا التجسيد بسرعة؟ أتتّهمينه بأنه مسلوق سلقاً؟ بأنه من تصوير خيال مريض؟ بأنه إسقاط نفسي؟ بأنه انتهازي ووصولي؟ لا يا غادة. السرعة التي تتصورينها ليست في الحقيقة، سرعة. ربما كانت كذلك بالنسبة لمتفرّج من الخارج لا يعرف شيئاً عن الدوافع البعيدة والمخفية واللامباشرة. أؤكد لكِ أن العملية تمّت، على العكس، ببطء. نعم ببطء. وأعتقد أنني بذلتُ حتى الآن جهوداً جبارة لكي أستطيع الصمود أمام عدم تصديقك وأمام تريّثك وأمام انغلاقك وأمام رفضك وصمتك وابتساماتك التي تظنين أنني لا أدرك مغزاها العميق. بذلتُ جهوداً عنيفة لكي لا أنهار ولكي أحتفظ أمامك بشيء من الاستمرار والقناعة. ولو نفذتِ إلى اعماقي لهالك المنظر: منظر القتل والتقتيل والموت.

بحاجة، إذن، إليكِ.

لا، لستِ مجرد خشبة إنقاذ بالنسبة لي. عندما أقول أنا بحاجة عظيمة إليكِ فمعناه أنني، كذلك، بحاجة إلى من يكون بحاجة، عظيمة، وربما أعظم بكثير من حاجتي، إليّ... إن لجوئي إليكِ ليس لجوء إنسان إلى شيء، بل لجوء إنسان إلى إنسان آخر. إنه رغبة في الارتباط. وإذا كنتُ أريد أن أتخطى وضعي فيكِ فإنني أريد، كذلك، أن تتخطّي وضعكِ فيّ. ليس مثلي من يدرك معنى الكلمات يا غادة: معناها العميق، الحقيقي، الثقيل، المُلزِم، والمحرِّر أيضاً. ليس مثلي من يدرك معنى صرخة: أحبك.

لقد ذكرتُ لكِ، فوق، كلمة جريمة. لماذا؟ لا أعرف. أريدك أن تساعديني على تحديد هذا الشعور، وعلى معرفة أمور كثيرة غيره. أريدك أن تكوني معي. أن تكوني لي. أريد، أكثر من ذلك، أن أكون لكِ.

سأتوقف الآن عن الحكي. الساعة الرابعة والربع صباحاً. لا أعرف إذا كان الخط سيكون سيئاً اليوم أيضاً وأُخطئك. الويل لي إذا لم أستطع أن أراك اليوم. هل تنامين؟ هل تحلمين بشيء جميل؟ الويل لي إذا لم أرك. ماذا سأفعل الآن؟ أنام؟ مستحيل. بلى. يجب. قليل من الشجاعة أيها الجبان.

***

2/12/1963

غادة

أظن أنني كنتُ أحس بأنك منذورة لي. وكلما كنت أطالع خبراً عنك كان يتولاني شعور واضح بالغيرة والضيق والخوف. كنتُ أغار عليك من العالم. إنني أذكرك بلهجتي عندما كلمتك للمرة الأولى بالهاتف وكنتِ في دمشق. ألم تشعري بنبرات صوتي المليئة باللهفة؟ أم أنك نسبتها إلى المجاملة، أو إلى عادة كل رجل في التودد؟ على كل حال لم يكن هناك لديك أي سبب معقول لتفكري في أي شيء.

وحين رأيتُك للمرة الأولى ألم تلاحظي أنني لم أكن أقابل امرأة غريبة لا أعرفها وإنما امرأة كأنني عرفتها من عهد بعيد؟ ربما لم تلاحظي. أو لعلك لاحظتِ ولم تفكري في شيء.

(أفكر الآن أنك قد تكونين مريضة اليوم فلا أراك. أمس أيضاً لم أرك. أفكر ماذا سأفعل. هل ستكونين مريضة اليوم؟ هناك شيء رهيب يتآمر علي في الخفاء. إنني مصاب بسرطان الزمن والخيبة).

أين كنت؟ كفى... يخيّل إلي أنني سأخسر معركتي الأخيرة. ومهما قلتُ فلك أقول شيئاً مما أريد. اخرس إذن. اخرس أيها المسكين. لقد أُعطيتَ أن تتعلم دروساً كثيرة لكنك لم تتعلم شيئاً. إلى أين ما تزال تمشي؟ إلى أين ما تزال تأمل؟ إنك تنتفض كالديك المذبوح. هذا هو كل شيء. انزف بقية دمك وأنتهِ.

أحقاً؟ رغم كل شيء ما تزال عندي القوة التي تمكّنني من المطالبة بأملي الأخير. إنني أرفض أن أستسلم قبل الدخول في هذا القَدَر. أريد أن أعرف للمرة الأخيرة، وبكل قواي، مَنْ مِن الاثنين أشدّ ظلماً وقسوة ولا معقولية: أنا أم العالم؟

أريد أن أنتزع الجواب، أن أنتزع الجواب بأسناني. لن أذهب قبل أن أعرف.

ليتك تعلمين كم أنتِ أساسية وخطيرة وحساسة. ليتك تعلمين كم أنتِ حيوية ولا غنى عنك. ليتك تعلمين كم أنتِ كل شيء في صيرورتي. ليتك تعلمين كم أنتِ مسؤولة الآن؟

لو تعلمين إلى أي درجة أنتِ مسؤولة عن مصيري الآن لارتجفتِ من الرعب. لقد اخترتكِ. وأنتِ مسؤولة عني شئتِ أم أبيتِ. لقد وضعتُ لعنتي الحرة عليك.

هل يجب أن أعتذر إليكِ عن هذا الاختيار؟ لا أعتقد. في النهاية، لن تعرفي أجمل من حبي. قد لا أكون واثقاً من شيء ثقتي بهذا الشيء. لا يمكن أن تعرفي أجمل من حبي.

وأنتِ؟ هل أظل أتحدّث إليك دون حوار؟

لا. لا. لا يمكن أن يكون العالم قد أقفر إلى هذا الحد من الحنان. لا يمكن أن يكون العالم قد خلا هكذا دفعة واحدة من الحب.

يمكن؟

فليخلُ. فلينتهِ الحب من الأرض وليذهب الناس إلى الجحيم. سأبقى وحدي أطبع حبّي على الحجارة. سأحب وحدي الموت والأشباح. وسأحب النهار أيضاً. وسأحب انقراض نفسي العاشقة في هذا العالم القبر. وسأحبك. ولن أقول شيئاً غير هذا.

***

3-4-12-1963

غادة

مر النهار؟ إنما العبرة في الليل. لكن الحقيقة أنني طماع، فلو كان الليل قد مر لكنتُ قلت: مر الليل؟ إنما العبرة في النهار. وإذا كان من حقيقة أخرى (والحقائق تُخترع لتغذية الحديث) فهي أن لا ليل هناك ولا نهار وإنما وقت للمجابهة ووقت للهرب. والمرتاحون هم الذين نظموا هذه المناصفة وجعلوا التعاقب مرتباً. بالنسبة لي، مثلاً، اختلط وقت المجابهة بوقت الهرب فصرتُ أجابه وأهرب في وقت واحد وتفرّع هذا الوقت نفسه إلى أجزاء كل جزء منها يتنازعه الهرب والمجابهة إلخ... وليس صحيحاً أنني أخاف الليل أكثر من النهار وإنما أنا أخاف أن أكون وحدي، معزولاً عما يهمني، عما أهجس به وأحبه ولا أصدقه، مقطوعاً عن العالم الذي أتهمه بأنه يخدعني دائماً وخصوصاً في غيابي. فكم أشتهي أن أُباغت العالم وأفضحه وهو يخدعني، هذا الذي يدعي الإخلاص لي، ويدعي العذاب من أجلي، ويدعي العزلة والوحشة والوفاء!

أهلاً بك يا غادة. الساعة الآن شيء ما بعد نصف الليل، لعلك نائمة.

تُرى ماذا يشغل فكرك الآخر؟ أقصد فكرك المخفي وراء الوجه الآخر للقمر؟ كم أحب أن أعرف ماذا دار وماذا يدور في رأسك! وكم تخطئين في وصف هذه الرغبة بالفضول! لأنها ليست أكثر من شهوة عارمة عظيمة إلى تصفيتك من غربتكِ وضمك إلى قلبي وأفكاري وحياتي. أريد، ولا شيء أكثر الآن، أن أتّحد بك.

هل أمضيتِ نهاراً حلواً أمس؟ وسهرة السبت؟ والدروس، كيف الدروس؟ والكتابة؟ ماذا كتبتِ هذه الأيام؟ لم تُقرئيني شيئاً بعد. كأنك تعتبرين ذلك مُستهلكاً سلفاً، أو سراً بينك وبين نفسك وحدها، أو فضيحة للكتمان.

الكتمان! هذه هي الكلمة. أريد أن أمزق الكتمان عنكِ. لماذا يخيّل إلي أنك تخافين مني؟ أقصد تخافين مني خوف عَدَم الثقة لا خوف الجبن. لماذا؟ هل تعتقدين حقاً أنني شرير ومغامر وممثل أو طالب قصة عابرة؟

هل ضايقك هذا الكلام؟ يجب أن لا تتضايقي. لا أعرف شخصاً سواكِ أتحدث إليه. صرتِ كل شيء. أعرفُكِ وتعرفينني منذ البداية. أنتِ أُختي وحبيبتي. بلى، بلى. محوتُ عن شفتيكِ جلاد الابتسامة الهازئة ونفختُ فيكِ إيماني بكِ. ولا أريد أن أعترف بشيء آخر عدا أنكِ هنا، وأنني هنا، وأننا سنبقى معاً، وأنك ستبكين وتضحكين من قلبك وقلبي، وأن مجهولك أضاء في خلايا كياني وانتشر كماء العشق في أحلامي وبدّد جسورك وجسوري وصرنا نهراً واحداً. ولن أدعكِ تتراجعين. ولن أدعك تتركينني أتراجع. لن أدعك تقترفين الجريمة...

... ثم، لماذا يخيّل إلي أنني، في كل ما أقوله لك، أصرخ في واد؟ وأن حواري معك حوار طرشان؟ وأنك لا تقدرين أهميتك بالنسبة لي؟

هل صحيح هذا؟ يا إلهي! ماذا أفعل!...

* * *

غادة

صدري امتلأ بالدخان. أشعر بحاجة لا توصف، لا يصدقها العقل، إليكِ. أشعر بجوع إلى صدرك. بنهم إلى وجهك ويديكِ ودفئك وفمك وعنقك، إلى عينيك. بنَهَم إليك. أشعر بجوع وحشي إلى أخذك. إلى احتضانك واعتصارك وإعطائك كل ما فيّ من حاجة إلى أخذ الرعشة الإلهية وإعطائها. كياني كله تحفز إليك. إنك تُخيّلين على أفكاري وتلتهمينني. هل أكمل يا غادة؟ هل أكمل محاولة وصف ما بي؟ أم أنك لا تبالين؟ أم أنك ستقولين لي أنك معتادة على هذا الهذيان؟ وأنه هذيان مؤقت؟ وأن الصحو الذي يعقبه يفضحه؟ أم أنك ستظلين تتسلحين بالهدوء والحكمة والصبر والتصبر والانتظار والدرس؟ ألا يكفيك؟ ألا ترين؟ ألا ترين؟ هل صُنعَت عيناك الرائعتان لتكونا رائعتين فقط لمن ينظر إليهما؟

* * *

لا شيء يبرّر عذابي الآن إلا صدقي، إذا سلّمنا أن الصدق لا بد أن يكون دائماً شهيداً.

أنتِ تعتقدين أن التجارب التي مرت بك تضطرك إلى التزام موقف الحَذَر الشديد والحيطة والتنبُّه والشك والرفض والسخرية الذي التزمتِه معي حتى الآن. أنا أفهم تفكيرك جيداً...

ولماذا، لماذا يخيّل إلي أنك تعرفين أنني صادق، ولكنك ترفضين أن تنساقي مع هذه المعرفة؟ ولماذا لماذا لماذا قلتِ لي ذلك المساء أننا لن نلتقي أبداً ولن نفترق أبداً؟ هل تدركين معنى هذا الجزم؟ هل تدركين مدى تأثيره عليّ لو تيقنتُ نهائياً أنه صحيح؟ ألا تعلمين أنني... ألا تعلمين أنكِ، بهذا الحكم الذي يعني أننا كالخطّين المتوازيين كل منا بجانب الآخر وليس لواحد منا أن يصبّ في الآخر - إنك بهذا الحكم تصدرين بحقي حكم الإعدام؟ ألا تعلمين أنني شحنتُ كل قواي من أجل هذا اللقاء؟ وأن عدم تحقّقه سيقتلني؟ أم أنك واثقة من أنه لن يتم؟ لا يا غادة! لستِ واثقة. كنتِ تتكلمين بمعاني الماضي وأنا لستُ ماضيك. إنني أرد ماضيك على أعقابه. أنا لستُ مثل أحد. لا شيء أفعله مثلما يفعلونه. لا أحد يحب مثلي. لا أحد يحب بقوة ما أحب، بجمال ما أحب، بروعة حبّي وعظمته ونقائه. لم يعد غيري من يحب في العالم. كل ما في هذا العصر من رجال، آلات وجلود وأشباه بهائم. وقد يعرفون كل شيء، إلا الحب. وقد يفهمون كل شيء، إلا المرأة. وقد يميتهم ويحييهم أي شيء إلا الحب وامرأة. لستُ مثل أحد. إنني آتٍ من حيث لا وقت إلا للحب، وها أنا أعيش عصري باحتقاره وضربه على نافوخه، فهو عصرُ المعلّبات والخدع الرهيبة، إنه عصرُ زوال الحب. أعيشه؟ بل أعلّقه على الحائط. إنه نملة شاسعة أدوسها كل لحظة لأقطع منها جزءاً. إنني أجملُ وأفضلُ وأعلى من عصري. إن عصري هو عاري. إنه عاهتي ولحمي الميت، وأنا أخجل به وأكرهه وأفلّت عليه أفكاري القاتلة. وأكثر ما يقتل هذا العصر السافل أنني أعرف كيف أحب، وأنني أحب، وأنني لا أكف عن الحب، وأنني لن أكف عن الحب. إنني أعظم مجرم معاصر. صدقيني. ولا أعرف كيف سيكون أو هل سيكون العصر المقبل؟ غير أنني لا أرى سبباً واحداً للتفاؤل. والواقع أن ذلك لا يهمني. إنني أحب لا نكايةً بالعصر وإنما لأنني عاجز عن العكس. إنني أتحمل حبي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى