رسالة من طه حسين إلى نجيب بك الهلالي

«أخي العزيز نجيب بك الهلالي
أكتب إليك بعد أن منعت نفسي من ذلك أياماً، فلو قد طاوعتها لوصلت إليك مني كتب يقفو بعضها إثر بعض، ولكنك رجل مشغول بالتحقيق، معني بأثقاله ومتاعبه، والحر في مصر شديد، وأخشى إن كتبت لك أن أضيف أثقالاً إلى أثقال وأن يحمل كتابي لفحة من لفحات هذا القيظ المحرق، فيمسك منه أذى لا أحبه، وأنا ضيق النفس إلى أقصى غايات الضيق فإذا كتبت إليك لم تحمل كتبي إلى نجيب ما أحب دائماً أن تحمله إليه عن هذا الحديث الصفو الذي تجري فيه الدعابة الهادئة الحلوة.
لذلك منعت نفسي من الكتابة إليك أياماً طوالا، ثم أصبحت اليوم لا أستطيع عن ذلك صبراً، وأظنك لا تكره من صديقك أن يكون أثراً من حين إلى حين، وأن يشفق على نفسه حين تثقل عليه أعباء الحياة فيتخفف منها بعض الشيء بالتحدث إلى صديقه، وإن كان هذا الصديق عنه في شغل، فإذا عرفت أن صديقك في القاهرة وحيد أو كالوحيد قد هجره أقرب الناس إليه وألصقهم به وأزورّ عنه من كان يتهالك عليه، وفر منه من لم يكن يطيق له فراقاً، وأصبح يستقبل الحزن مع ضوء الشمس ويعاشره طوال النهار، ثم يستقبل الهم مع ظلمة الليل ويقضي معه ساعة الأحلام لم تلمني حين أكتب إليك لأذكرك بأني لم أزل حياً في القاهرة أضطرب بين بيتي حزيناً ودار العمل، يظهر أن اليأس يريد أن يتخذها مسكناً ومستقلاً، فهذا العمل بدأته نشيطاً له مبتهجاً به لم يفلح إلى الآن، لأنه بدأ على غير هدى وفي غير نصح ولا إخلاص، ومضى في طريقه يخبط كمن أصابه مس من الشيطان، وقد كلفني والحمد لله نفقات ما كان ينبغي أن أتحملها ومشقة في النفس والجسم ما كان ينبغي أن أتعرض لبعضها، وكيد الخصوم مع ذلك متصل، ومكرهم يزيد من يوم إلى يوم، كأنهم يجدون لذة لا تعدلها لذة حين يضطرونني لا أقول إلى العجز، بل أقول إلى الفناء، وأنا مع ذلك أجاهد جهاداً عنيفاً لا ضير فيه ولا نفع، وأسأل نفسي كيف يكون المخرج من هذه الطريقة الملتوية التي لا علم فيها يهتدى به، ولا ظل فيها يطمئن إليه المسافر، إذا أخذه الجهد والإعياء، أرأيت أني لم أكن أستطيع أن أمنع نفسي عن الكتابة إليك أكثر مما منعتها، وأنه لا ينبغي لك أن تمضي في نسياني أو في الإعراض عني إلى أبعد مما مضيت، وإن كتاباً منك ولو قصيراً إن وصل إليّ خليق أن يحمل إليّ بعض الراحة، ويرفه عليّ بعض الشيء، وما أظنك تبخل بذلك على صديق آثرته دائماً بأصفى الود وأنقاه. وأما بعد، فإني أهدي إليك تحية يملؤها حب صادق لا تغيره الأحداث ولا تضعفه الخطوب».
طه حسين
28 يونيو 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى