ميمون حِرش - كانون

كنتُ بينهم في مهمة..
ومن كانت حبيبتي يوما كانت موجودة أيضا...
كيف اتفق أن يحضر الجميع في المكان نفسه؟..
لعلها بركة الأماكن، فهي كفيلة بأن تسع الجميع دائما،(هذا ما تعلمته من أمي التي لم تعرف غير الخيمة، والأرض والبئر، وخدمة أبي التي تعتبرها بركة أخرى..) مسكينة أمي غاب عنها أن بعض الأماكن المخملية،نحو هذا الذي أوجد فيه الآن،لا تمنح بركتها إلا لمن تشرق شموس حساباتهم في البنك، ولا تسع إلا لمن يحمل دعوة في جيبه متأبطا كاعبا حسناء على طريقة مشاهير السينما الذين يحضرون حفل توزيع جوائز الأوسكار..
نقلت نظري في كل زوايا المكان.. فعلت ذلك وأنا أردد كلمة " البركة " رغما عني، لم يكن اسمي موجودا أو مكتوبا على لافتات مكتوبة بعناية، وموضوعة فوق طاولات يجلس حولها رجال ونساء يبدون راضين عن أنفسهم تمام الرضا.. الأنوار في المكان زادتهم رضا وبركة...
أحمل على ظهري آلة تصوير رفيعة من نوع "كانون"، أتمايل بها، عيناي الآن مثل عيني صقر تلتقط عددا لا يحصى من الصور، أرصد بها كل صغيرة، و بالكاميرا كل كبيرة..
نسيت آلتي لبعض الوقت، وتظاهرت بغمض عيني فأرخيت أذني لوشوشات مصحوبة بغمز ولمز.. كنت قريبا من طاولة، ورأيت كيف يحصل كل ذلك بأم عيني، كنت بينهم مثل ضائع يبحث عن أمه رغم كبر سني، ومراسي في حرفة التصوير.. أصبتُ بدوار لِمَا رصدته عيني بين الجمع، رأيت وأنا أبحث عن لقطة أرصدها، وأصورها ما سيعكر صفوي طوال الليل..
كاد أن يغمى علي.. ولم يكترث بي أحد.. الجميع كان مشغولا، وحريصا على رسميات عصية على الخرق.. الأضواء كانت قوية وحمراء..حمراء جدا مثل نفسي حين لا ترضى.. ومثل رأسي حين تدور..
نفسي الآن لم ترضَ أن ترى في المكان حبيبة الأمس..لم أبحث عنها.. ولكن القدر شاء أن نلتقي مرة أخرى بعد عقدين من الزمن..
لا زلت أتذكر كل شيء عنها وعني، ويمكن أن أنسى بعض التفاصيل، لكن تقاسيم وجه أبيها وهو يطردني من بيتهم تتبدى أمامي الآن كما الشيطان إزاء كل منكر.
يا إلهي، كيف لي أن أنسى آخر ما قاله لي يومها حين تقدمت لخطبة " ح".. في نهاية حوار طويل بدأناه بالرسميات بادرني بالقول :
• اسمع يا ابني، ابنتي لن تكون من نصيبك..
وحين ركبتُ رأسي، عفوا رأس حبنا، وألححت في الطلب، قال لي بصرامة في اللقاء الثاني :
• ستفسد نسلي يا بني، أنت مجرد " مصور"، وأنت في عرف عائلتنا مثل طبال في الأعراس،تتأبط أنت آلة، وهو بنديرا، وهذا هو الفرق بينكما..
إهانة لم أستطع نسيانها، و أكثر ما أمضني هو مناداته لي بابني، كان مثل الكلب الهادئ يجعلك تطمئن له أولا ليبدأ في نهش لحمك..
ناداني أولا "ابني"، ثم قال إني سأفسد نسله... الكلب، استصغرني لأني أسود اللون، خشي ربما أن يكون أولادي سود البشرة من ابنته الشقراء..
النجم حين تستصغره الأبصار فالذنب في ذلك للطرف لا للنجم في الصغر كما قال الشاعر..وأبوها الذي كان يرى إلى الأشياء من حوله بجيوبه يكبر، في عينيه، أراذل الناس، لأنهم أغنياء، ويصغــر الشرفاء لأنهم فقراء.. إنه قانون من يملك إزاء من لا يملك..
حين رأيتها في هذا الحفل.. صحت هذه الذكرى في نفسي، وحطت فوق قلبي كصخرة..
بدتْ لي بين ثلة من صُحيباتها مثل حلم وقد اتخذت ملاءتها لون السماء في حال التهيؤ لتشتي بعد محل.. استدارت نحوي وهي تلوي عنقها بطريقة أعرفها جيدا... فعلتْ ذلك وتذكرتُ حديثها وإعجابها بعُنق مريم فخر الدين في فيلم " الحب الصامت" مع يحيى شاهين.. قلت لها يومها ونحن نشاهده :
- أنت أحلى من مريم، و أجمل ما فيك عيناك لا عنقك..
اليوم.. بنفس العنق تزداد طولا الآن..، وبنفس العينين ترمقني، أصبحت تستعمل عنقها في الظهور بالشكل الذي تريده : "زوجة رجل مهم ".. ومثل "ميدوزا " في الأسطورة ترمق الحضور،إنها ولا شك صاحبة الحفل.. تنتقل بين الطاولات، تسلم على هذا، وتهمس في أذن آخرى.. وتلوح بيدها كيفما اتفق..
يا إلهــي، ما أكثر الهمس هنا..
(يكثر الهمس في المناسبات، هو علامة على إيلاء القيمة مضاعفة للمهموس، وقد يكون تفكيرا بالهمس بدل الصمت لطرح جزئيات لا يصح أن تذكر علنا..لطالما همست لي بالطريقة نفسها ونحن نغرق في قبل بريئة في أيام الآحاد..)
كانت ترمقني خلسة، وحين مرت بمحاذاتي تجاهلتني، كنت لا أزال واقفا.. لم أجلس على العموم طوال الحفل.. كان علي أن أقف..أنا مصور، ومكلف من جريدة إلكترونية لأخذ صور عن حفل مخملي حضرته شخصيات وازنة ( " وازنة" صفة جميلة لموصوف يزن كثيرا، ومرد ثقله لخبث طويته، وحساباته في البنك).. أنا الوحيد ربما لم أكن وازنا، فأنا مصور، نحيل، وفوق ذلك أسود اللون، ومجرد "طبال" حسب قول أب من كانت يوما حبيبتي.. أدرتُ لها ظهري، نظرت أمامي، حولي، في كل مكان.. انتبهت كأني أكتشف وجودي بين أناس من طينة أخرى، الجميع كان أنيقا، الرجال حشوا أجسادهم المترهلة في بذلات من ماركات عالمية، ثمن طاقم واحد منها يحل عوز أسرة فقيرة لمدة سنة أو أكثر....والنساء.. كل واحدة منهن تبدو معلقة فوق كعبها العالي مثل شجرة مثمرة،وقد تدلت المجوهرات، والحلي والأساور من كل مكان في الجسد، ليس للزينة طبعا إنما لاستعراض الممتلكات في مثل هذه المناسبات.. لباس، وأناقة، ومساحيق تدل على أن الجميع هنا أصحاء تماما، وراضون عن أنفسهم..أصحاء لكن معطوبون من الداخل..هكذا كنت أراهم..
حين كنت أتأمل هذه المفارقات، أيقظتني لمسة يد طرقت بحنوْ على كتفي..
لم يكن الطارق غيرها ..بادرتني قائلة :
• مرحبا..
• (....)
• ملامح وجهك ذكرتني، من بعيد، بشخص عزيز.. يا الله، كم يتشابه البشر..
قلت :
- لا أحد يشبه أحدا..هذا مجرد وهم سيدتي..
أضفت وأنا أستغرب كيف تغيرت، و كيف أثر الزمن فيها..
- الإنسان ليس منه نسختان..
• هَـــــمْ....
همهمت ثم قالت لي بحدة :
• اتبعني..
تبعتها، وفي زاوية توقفت، وأدارت نحوي و قالت وهي تعدل من وشاح التف حول عنقها مثل أفعى :
• الحفل حضرته شخصيات، لها في الناس قوم وسمعة.. ونشر صورها بدون إذن منها قد يقطع رزقك..
( يا إلهي،..
بالأمس خافوا من أن أفسد نسلهم، واليوم يقلقون من أن أسيء إلى هذا النسل...)
• اطمئني سيدتي،
قلتها وانصرفت وأنا استغرب صلفها..إنه الأسلوب نفسه الذي به أنهتْ آخر لقاء بيننا في منزلهم وقت الإهانة الكبرى..
في بيتي استعرضت أحداث الليل، و فوق سريري آلة "كانون" مكللة ومتوجة كعروس، في ذاكرتها عدد لا يحصى من الصور عن شخصيات الحفل، لكن في جعبتي أنا صورة واحدة لا غير، لن تنفع معها تقنية "الفوتوشوب" الحديثة من أجل تجميلها أو تغييرها... تلك هي صورة البذخ، وما طرحه الضيوف من فضلات بعد انقضاء الحفل..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى