رسالة من الصادق النيهوم إلى محمد الفيتوري

* اخي محمد..
* دعني أحدثك، لقد كنت الآن مع ولد سوري طفل، وجهه مثل كمثرى حقيقية، ويملك كثيراً من الحزن، وكان يبكي لأن بلاده بعيدة جدا، ولأنه وحيد هنا في ألمانيا «المرعبة»، وكنت أنا أنظر إليه طول الوقت، أنظر في عينيه مباشرة وأفكر.
لقد أرهقني ذلك الولد.. جعلني ألهث مثل جرو جبان، وهو يحدثني عن الحزن.. وعن بلاده.. أعادني إليك، إلى الشارع الموحل.. ذاته، وعبرت المنحنى وطرقت باب النافذة، وكان الضوء يملأ الشقوق وسمعتك تقول: من.. ثم غاب كل شيء، وبقي المطر وحده في الشارع.. وعدت أنا عبر البحر والثلج ولدا نصف ميت.. وفي أذنيه «من»، مثل قرط حقيقي.
وعدت أقول له: ألف مساء من الخير، أنا ذاهب الآن.. ليس ثمة شيء أحب أن أسمعه عن بلادك وليس بينكم واحد مثل صديقي محمد.. أخي الوديع الرقيق القلق الحزين أبداً، وقلت له: لا تعد تحدثني عن الحزن وتبكي.. فذلك عمل منافق ووغد.. إن الحزن لا يبكي.. إنه لا يثير فيّ أي رغبة في البكاء.. ولكنه يظل يملأ قلبي.. وعيني بظل داكن ثقيل أسود، ويظل يغمرني بشيء بارد مخدر.. ويحملني في ذراعيه أبداً حتى يجعلني أفقد صوت الأرض وقدمي.. أما أن أبكي، أن تسيل دموعي مثل عاهرة مفلسة، فهذا أمر لا يحدثه الحزن.. وأنا لا أحبه.
وقلت له: صديقي محمد مثلي أيضاً لا يحبه، أنت لا تعرف (محمداً)، لأنه من دنيا أخرى، وطفقت أحدثه، قلت له إنني أملك صديقاً في بلادي اسمه محمد، رجل أسمر مثل ترابنا، له شارب أنيق، وقبعة صوف، وقامة فارعة مثل عملاق حقيقي من أطلال بعلبك وهو يملك قلباً مثل بلادكم كلها.. قلت له إن صديقي صناعته الحزن.. وهو يدخن لفافات سوداء وينفث الدخان دائما قبل أن يصل إلى صدره.. وإنه ينظر إلى الدنيا كلها بهزء حقيقي، ويظل يضحك في وجه الأقزام حتى يحسوا بالموت.. وإنه يسكر كثيراً ويدخن.. ويضحك.. وتظل أحزانه مثل دبب صغيرة تدس أنوفها السوداء في صدره وهو يلاعبها ويطعمها بيديه.. وهو يحبها كثيراً.
وقلت له: محمد يسكن في شارع موحل، ولكنه يحب المطر أيضاً، ويحب بنتاً هناك إلى حد ما.. حب صغير لذيذ لأنها فتاة جميلة إلى حد ما، لكنه لا يحب اسمها ولا يحب أن يراها بلا ذوق، وهو يتحدث إليها في أحلامه، ويظل يطهو لها لحم الغزال الذي حمله لها من قاع الصحراء.. ويصلح سيارتهم ببدلة ونجوم.. ويظل يحلم حتى يمتلئ قلبه بالكبرياء.
وخارج قلبه.. تدور ألف يد من المتاعب: وكثير من الحزن وهو يحلم في الداخل ببساطة وعمق مثل أمير حقيقي.. ويحمل أحزانه ببطولة، ويظل أبداً يدخن ويسكر ويحلم ويظل كبيراً..
وقلت له:
لقد تركت صديقي وجئت هنا.. إلى بلد غبي مزعج مثل الغولة، ولم أودعه.. لم أقل له كلمة واحدة.. لأنني لا أحتمل، وأنا أحبه جداً، وظل الولد السوري ينظر إليّ بوجهه الكمثري مشدوهاً.. ثم طفق يقول أشياء لطيفة عنك.. ويتلعثم مثل الجحش.. ويهز رأسه، وقلت له: إن صديقي لم يأت إلى هنا لأن هذا العالم لا يشعره بالحماس.
وفجأة.. التقطت كتبي وخرجت من غرفته، كنت أحس بالموت يتسلل إلى قلبي.. وكنت أحس بالأصابع المرعبة قد بدأت عملية الحفر المؤلمة فيه.. وهرعت إلى داري الصغيرة الحافلة بالأغاني والهدوء والدفء، وجلست أكتب إليك كلماتي.. أبثك حزني كما اعتدت أن أفعل.. وأغمضت عيني، ورحلت إليك.. إلى الدار والشارع الموحل.. عبر المنحنى.. وطرقت النافذة.. والضوء يملأ الشقوق.. ورائحة الشاي.. والحكايات.. ولفافاتك السوداء.. والمنضدة وأنت تملك نجوماً وبدلة عسكرية.. وتقول لي: «من..».
ليس ثمة خمسة آلاف ميل.. ليس ثمة قدم واحد بيننا فأنت معي الآن.. وراء الباب مباشرة تلبس قبعة صوفية وتدخن سيجاراً.. وتنظر إلي.. ليس ثمة خمسة الاف ميل.. كيف يمكن أن يتم ذلك يا صديقي.. كيف توافق على بعدك هكذا.

وعدت احدثك..
وأصبحت يا أخي قريباً مني.. قريبا إلى حد مذهل، ومددت لك يدي.. كنت تنظر إليّ وتضحك، ثم حدثتني كثيراً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى