رســالــــتان بين بلند الحيدري و محمد سعيد الصكار

بلند الحيدري
بيروت في 31/12/66

ايها العزيز محمد
الف تحية
ومرة اخرى نسمع اصواتنا ونطرب لسماعها وان كان في بعضها حشرجة ألم وفي اخرى انة قاسية إلا اننا لا نزال نستطيع ان نلتقي لأننا آمنا منذ البدء بأن عالمنا لا يموت هكذا بسهولة وان علينا ان نسير حتى في الظلمة وان نتحدث بصوت عال أحياناً في هذه الصحيفة او تلك ليسمعنا الاصدقاء..

أربع رسائل احملها واخرج بها الى البحر واوقف سيارتي في شاطئ منعزل. اعدت قراءة رسالتك ثانية.. لقد ابكتني يا محمد.. هذه الامكانية على الحب تُبكى يا عزيزي وتوقفت عند هذه الكلمة وتلك وتخيلتك.. الاحاديث الطويلة.. الابتسامة التي تحاول ان تكون ضحكة.. المحاولات وعدم الرضا دائماً.. وبين الرسائل رسالة من رشدي (*) لا تزال رائحة الخمر عالقة بها، واخرى من غانم (**).. هل تذكره؟ يتحدث عن رأس السنة ويتمناها سنة تجمعنا ويختمها بطلب (واذكرونا في ليلة رأس السنة وسنذكركم) أي عزاء مؤلم.. ورابعة من جليل (***) يتحدث فيها عن الغربة في ادبنا الحديث.. ومرة ثالثة أعود لرسالتك..
صحيح كيف يكون بالامكان اختصار كل تلك الايام الطويلة في رسالة.. من اين يجب ان أبدأ..؟ أمن هذا الحطام الملقى على شاطئ بيروت والحالم أبداً بالعودة ام منكم انتم ايها المتشبثون بأعجوبة بكل ما هو خير ونبيل..
صوتي متحشرج ايها العزيز وكان لطفاً منك ان بحثت عنه وسمعته رغم بُعد المسافة، هذه الامكانية تجدد ايماننا بدفء اليد الانسانية المخلصة فليس ما يُشعر الانسان بالهرم كإحساسه بفقدان اصدقائه واحداً تلو الآخر وكثيرون هم الذين فقدنا دفء ايديهم.
إذن لقد تزوجت وكبر لك ولد وسيكبر اكثر فأكثر ما دام الزمن في عينيه نداء لخلق غد أسعد من الامس الذي عرفنا جفافه وقحطه.. أتأمل عُمر احياناً في ذلك الغد..
ماذا تكتب يا سعيد.. لم أقرأ لك أي شيء منذ فترة طويلة لماذا..؟.. اكتب.. انه رجاء.. الصوت العالي الذي يجب ان نسمعه للآخرين الذين ينتظرونه وانا منهم ايها العزيز.
أكتب احياناً في الآداب.. وفي بعض الصحف هنا وقد تسلمت مؤخراً سكرتارية تحرير العلوم.. كما أشرفُ على منشورات المكتبة العصرية التي اصدرت خلال هاتين السنتين قرابة اربعة وعشرين كتاباً لأصدقائنا وبامكاني أن ادبر امر نشر مجموعة لك..
أرجو ان تكون مستقراً في وظيفتك.. حبذا لو تحاول ان تزورنا في لبنان في الصيف.
ومرة اخرى اشد على يديك وسأنتظر رسالتك بكثير من الشوق.

بلند

(*) رشدي: هو الشاعر رشدي العامل
(**) غانم: هو الكاتب غانم حمدون.
(***) الكاتب جليل كمال الدين

***

إلى بلند
البصرة في 11/2/1967
سلاماً يا ابا عمر، وحباً وشوقاً عد الخطى التي تفصل بيني وبينك.
قدرة الحرف على هدم المسافات وبنائها تخيفني عندما احس بأنها أصبحت مهنتي؛ وترهبني عندما أجد نفسي صغيراً امام هذه الطاقة العظيمة؛ واعجب حين يأخذني العناد فأتصدى؟
ولكن مهما بلغ بي العناد تبقى الرهبة أقوى: ولذلك لا سبيل الى القناعة بالظفر.
وهكذا، سواء في قصيدة او رسالة، تبقى الحروف الطائر الاسطوري العجيب الذي أحاول اصطياده.
إنني أجرب سهمي وعنادي في الرد على رسالتك التي نزعتني عن مداري وزرعتني في عالم كانت ذكراه قد تخثرت في عروقي.
تقول: "هذه الامكانية على الحب تُبكي"؛ اجل تُبكي يا أبا عمر، والبكاء هو اقل ما ينتظره منا حضن الصديق.
ترجوني ان اكتب؛ أُتراك مطمئناً الى أن ذلك بمقدوري؟ لو كتبتُ لضربتُ عصفورين بحجر، أن أرضيك، وأن أحقق لذاتي معنىً. إنني أحاول؛ وما كتبتُ لا يبل صدىً ولا يُطفئ حرقة، ويبدو ان استحواذ العمل عليّ ذو أثر لا يُغفل.
شيء آخر؛ الأسلوب الذي أكتب به يغيظني؛ الشكل، طريقة التعبير، كلها خانقة؛ أحلم بالعثور على طريقة للتعبير اكثر عفوية وايصالاً.
الرؤية الشعرية للاشياء هي الأساس عندي، لأنها تحيل كل الحياة شعراً؛ ومشكلتي هي ان صفاء هذه الرؤية يتعكر بمجرد الشروع في الكتابة، مهزوماً امام ضغط الاطار العام للشكل والتعبير الشعري الذي درجتُ عليه، والذين ألتقي به لدى العديد من شعرائنا الذين أقرأ لهم وقد حاولتُ كثيراً ان أتسلل من هذا (المنطق) فكتبتُ مستخدماً الصورة السريعة للانطباعات الاولى، وتوكأتُ احياناً على الرمز لاثارة احساسات معينة، ولم آبه لما قد يثيره الرمز من احساسات مغايرة؛ وفي احيان اخرى استسلمتُ للاوعي. وكان من نتيجة ذلك أن اكتسبتُ مراناً حسناً في السيطرة على وعيي عند الكتابة. فقد كان من جملة مشاكلي حضور الوعي التام الذي يفترض نوعاً خبيثاً من المنطق يقتل براءة الانفعالات.
التأمل والاستغراق ليس حلماً حراً، ولا وعياً تاماً، ولكنه الجو الصالح لنمو اطراف القصيدة وتبلورها لوقوعه بين بين. وانا احاول ان اكتب في حالة تأمل واستغراق صوفيين؛ يكون الوعي فيهما حاضراً بشكل ما، ولكن دون سلطة متعسفة.
كل ذلك من اجل البراءة العجيبة التي ابصرها في الاشياء، وتهزني هزاً، حتى الكلمات، احياناً، تبدو محملة بعذرية صميمية؛ ولا املك ان اخفف عن نفسي احساساً بكوني الفارس الاسطوري؛ هكذا، بلا ادنى تواضع!
على هذا المنوال تمضي بي الحال، وقد عدتُ الى الكتابة بعد صمت جاوز سنة وبضعة شهور، واحس بأنني سأواصل الكتابة. وقد بعثتُ الى (الآداب) بآخر قصيدة كتبتها، وهي باسم "محنة المدن التأريخية" ولست ادري ما اذا كانت ستُنشر، فقد تأخرت لديها قصيدة كنت قد بعثت بها منذ عام والسؤال هو: أليس غير (الآداب)؟ ألم يحن النظر بعد في مشكلة النشر بالنسبة لنا؟ أليس من نافذة اخرى نطل بها على الناس؟ إن (الآداب) لم تعد تفي بالحاجة، وحدها، ومشكلة (حوار) وما شاكلها، مشكلة ليس من السهل القطع بموقف إزاءها.
إنه الحب مرةً اخرى، الذي يحملك على عرض إمكانيتك في طبع مجموعة لي. وماذا عساي ان اقول لك؟ إن مجموعتي مُعدة وجاهزة قبل شهر من وصول رسالتك، وكنت في سبيل استشارتك عن طريقة طبعها في بيروت، ولكنك فاجأتني بهدية محب، فشكراً لك. وفي مثل هذا الوضع، لابد من الوقوف على اجابة عن الاسئلة التالية التي تتبادر الى الذهن:
1-على أية اسس مالية سيتم طبع المجموعة؟
2-ما هي التزاماتي والتزامات دار النشر الادبية والمادية بهذا الصدد؟
3-أيترتب عليّ استحصال موافقة وزارة الارشاد لضمان توزيع المجموعة في العراق سلفاً؟ وما هو الموقف في حالة عدم حصولي على الموافقة؟
4-كيف يتسنى لي الحصول على 100 نسخة شخصية على الاقل؟
كنتُ بصدد إضافة سؤال آخر عن الاخراج الفني للمجموعة، ولكنني احذفه ثقةًً واحتراماً لذوقك الفني باعتبارك مشرفاً على منشورات المكتبة. ولكن لابد من التنويه برغبتي في أن يكون ورق المجموعة شبيهاً بورق ديوانك (خطوات في الغربة).
وبعد؛ فسأبعث اليك بالمجموعة بعد أن أتلقى جوابك لتطلع عليها اولاً، وسأضمنها بعضاً من قصائد (امطار) لأنها لم تتخط حدود العراق، ولأنها تكمل الجو العام للمجموعة؛ وسأطمع برأي منك يتصدرها كمقدمة إذا راق لك ذلك.
وبانتظار جوابك ومقترحاتك، أبعث اليك بشكري ومحبتي.

محمد سعيد الصكار
البصرة في 11/2/1967

*المجموعة الشعرية موضع الكلام هي مجموعتي الشعرية الثانية (برتقالة في سورة الماء) التي صدرت فيما بعد عن دار الآداب عام 1968.
* (أمطار) هي مجموعتي الشعرية الأولى التي صدرت في بغداد عام 1962.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى