د. أحمد الحطاب - من ثنائية "الطبيعة و الإنسان" إلى وباء فيروس كورونا

لا أقول "الإنسان و الطبيعة". لماذا؟ لأن الطبيعة سبقت الإنسان و عمرها يُحسبُ بمئات ملايين السنين بينما هذا الأخير حديث العهد فوق الأرض. حياة الإنسان، شأنه شأن الكائنات الحية الأخرى، مرتبطة بيولوجيا بالطبيعة. بل إنها مرتبطة بها اجتماعيا و اقتصاديا. أكثر من هذا، إنه لما ظهر على وجه الأرض، كانت الطبيعة مهيأةً لاستقباله ليمارس فوقها أنشطته المختلفة.

و هذا يعني أن الإنسان، كسائر الكائنات الحية، لا يمكن أن يستغني عن الطبيعة. منها يستمد كل ما هو في حاجة إليه لضمان استمرارية حياته بجميع تجلياتها. و هذا يجرنا للقول بأن الإنسان مجرد مُكَوِّنٍ من مكونات الطبيعة. لكن مكوِّن عاقل يعي ما يفعل و ما يجب أن لا يفعل. و بعبارة أخرى، يجب على الإنسان أن يكون منسجما مع الطبيعة حتى تضمنَ له، كما هو الشأن للكائنات الحية الأخرى، استمرارية حياته. فعليه أن يشكِّل هو و الطبيعة وحدة متراصة يتبادلان العطاء.
إن كل ما يجري داخل الطبيعة من أنشطة و من تفاعلات بين مكوناتها و من تبادل للمادة و الطاقة، قبل أو بعد مجيء الإنسان إليها، يهدف في نهاية المطاف إلى استمرارية الحياة بجميع أشكالها. كل شيء منظم فيها من أجل تحقيق هذا الهدف. بل إن الطبيعة، بفضل التوازنات القائمة بين مُكوّناتها بما فيها الإنسان، قادرة على امتصاص ما يحدث فيها من اختلالات طبيعية أو بشرية ضمانا لاستمرارية الحياة.
لكن الإنسان، مند أن دخل عصرَ الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، بدأ ينسلخ عن الطبيعة فكريا و عمليا و ذلك باستغلال مواردها بكيفية جنونية لا تعير أي اهتمام لتوازنها و بالأخص لخاصيتها الأساسية : استمرارية الحياة. و مند تلك الفترة و الإنسان يبتعد عن الطبيعة مستسلما أولا لنظرته الفلسفية لها المبنية على الأنانية و ثانيا لنظرته الاقتصادية المبنية على الليبرالية المتوحشة التي أملتها عليه حمة التطور الصناعي و التكنولوجي في نكران قاتل للطبيعة و لدورها الحاسم في استمرار الحياة.
حينها، لم تعد الطبيعة في نظر الإنسان فكريا إلا خزانا لا ينفذ من الموارد. و قد قاده فكره هذا و تفكيره إلى تركيز اقتصاده على ثلاثة أنواع من الموارد الطبيعية الأحفورية التي يشكِّل استعمالُها خطورةً كبيرة على التوازنات الطبيعية و بالتالي، على استمرارية الحياة : الفحم، النفط و الغاز الطبيعي.
لقد نسي الإنسان أو تناسى الطبيعة مستسلما لنظرته الأنانية لها بمعنى أنه لم يعد يعير أي اهتمام لا لهذه الطبيعة كقيمة كونية مشتركة بين جميع الكائنات الحية و لا لتوازناتها و لا لدورها الحاسم في استمرارية الحياة. بل إنه ذهب بعيدا في تفكيره حيث ظن أن الطبيعة وُجِدَتْ من أجله هو وحده بمعنى أنه هو مركزها و بإمكانه السيطرة عليها بواسطة العلم و التكنولوجيا.
في هذا النطاق، راح يسخر كل جهوده للنهوض ببحث علمي يتماشى مع نظرته الأنانية للطبيعة و لنظرته الليبرالية المتوحشة للاقتصاد. بمعنى أن كل ما يقوم به نظريا و عمليا يسير نحو اقتصاد لا يعترف إلا بالأرقام الجافة و النمو و الإنتاج و الاستهلاك و الربح السريع و السيطرة على الأسواق. إنه الإنسان العاقل الذي تحول إلى إنسان عاقل لكن بتفكير اقتصادي و اقتصادوي محض. إنه الإنسان الذي أعطى لكل شيء ثمنا ماليا و لو لقطعة خشب منخور في غياهب غابة كثيفة.
و ما يؤسف له هو أن كل هذا تم و يتم في غياب تام و مخيف للطبيعة كمهد للحياة و ضمانٍ لاستمراريتها و في غياب تام للقيم الإنسانية التي بدونها، لا قيمة للإنسان نفسه و لا لأعماله. لقد أعماه الطمع و الجشع و حب المال و الربح السريع و لو على حساب أنداده و على التوازنات الطبيعية.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن ما جادت عليه به نظرتُه الأنانية للطبيعة و تماشيا مع تفكيره الاقتصادي المادي المحض، هو إخضاعها كُرها لتُنتجَ على نطاق واسع أكثر من ما هي مجبولة عليه طبيعا. فراح يُثْخِنُ التربة بالأسمدة الكيميائية و المبيدات الحشرية و النباتية ضاربا عرض الحائط كل ما يجري داخل هذه التربة من تفاعلات تصب كلها في ضمان استمرارية الحياة.
و هنا، لا بد من الإشارة إلى أن الإنسان، مند القرن التاسع عشرإلى يومنا هذا، صنع أكثر من 60000 مادة كيمائية لأغراض مختلفة كلها خارجة عن السياقات الطبيعية بمعنى أن الطبيعة غير قادرة على امتصاصها لدمجها في الدورات البيوجيمكيميائية. فتبقى عالقة في الأجواء و في التربات و في المياه مُحْدِثَةً اختلالات متفاوتة الشدة في التوازنات الطبيعية.
غير أن الإنسان، دائما تحت وطأة نظرته الأنانية للطبيعة و طموحه للسيطرة عليها، لم يتوقف عند إجبار الطبيعة على إعطاء ما ليس في قدرتها. لا، لقد تفنن الإنسان في إبداع و اختراع و إنتاج تكنولوجيات تُسْدي له خدمات مهمة و في جميع المجالات من فلاحة و صناعة و نقل و تزويد بالطاقة... لكن جل هذه التكنولوجيات عدو للطبيعة بمعنى أنها تسيء للطبيعة جوا، بحرا و برا.
من جهة أخرى، لا أحد يُنكر ما لِما أنتجه الإنسان من علم و تكنولوجيات من نفعٍ على الحياة بصفة عامة و على الحياة اليومية بصفة خاصة. لقد تم فعلا تلطيف ما هو شاق و تقصير المسافات و الوقت...لكن ما أنتجه الإنسان من علم و تكنولوجيات في نطاق نظرته الأنانية للطبيعة سيف ذو حدين أو بالأحرى ميدالية ذات وجهين، وجه لامع و مرئي و وجه خفي أو غامض. و هنا، بيت القصيد.
و هنا، يُطرح السؤال الذي لا مفر منه : فكيف لنا أن نسيطرَ على شيء و نحن لا نعرفه معرفةً دقيقة و كافية بل و ربما معرفةً سطحية؟ و بعبارة أخرى، فكيف للإنسان أن يسيطرَ على الطبيعة و هو منسلخٌ عنها بل و هو لا يُنتج إلا المعارف التي تتلاءم فقط مع نظرته الأنانية لها. و هذا يعني أن الإنسان لم يهتم بمعرفة الطبيعة كوحدة متكاملة، متوازنة و ضامنة لاستمرارية الحياة بل اهتم بها كخزان لمواردَ تستجيب لرغباته الإنمائية اللامحدودة. و الدليل على ذلك أن الإنسان، رغم إنتاجه الغزير للمعارف العلمية و التكنولوجية، لم يتعرف على الطبيعة بما يكفي من المعرفة. فمن ضمن الكائنات الحية المرئية بالعين المجردة و المجهرية بما فيها الجراثيم و الفيروسات، التي تزخر بها الطبيعة و التي تعد بعشرات الملايين، فإن الإنسان لا يعرف إلا نسبةً ضئيلة منها تقل عن 10%. و هنا، لا بد من الإشارة إلى أن كل كائن حي كيفما كان شكله و حجمه و نوعه له دور مباشر أو غير مباشر في استمرارية الحياة من خلال تفاعلات و أنشطة بيولوجية مختلفة.
فلماذا لم يُعر الإنسان لهذا الجانب من الطبيعة ما يكفي من اهتمام رغم صرفه أموالا طائلةً من أجل النهوض بالبحث العلمي؟ الجواب بسيط : كل اهتمامات الإنسان انصبت على بحث علمي يعود عليه بالنفع السريع و استجابةً لطموحه الاقتصادي، المادي و الإنمائي اللامحدود بعيدا عن الطبيعة و سر وجودها المتمثل في ضمان استمرارية الحياة.
و في نهاية المطاف، وضع الإنسان ثقةً عمياءَ في علمه و تكنولوجياته منتظرا أن يسيطر في يوم من الأيام على الطبيعة. فنام كما نقول بالدارجة "عْلَ جْنْب الراحة" إلى أن باغته مخلوق أصله من الطبيعة التي أهمل معرفتَها. مخلوق متناهي الصغر لا يُرى إلا بواسطة المجاهر القوية. مخلوق لا وزن له تقريبا لكنه أقوى من الإنسان و بكثير، أقوى من علمه، من تكنولوجياته، من اقتصاده، من أسلحته... مخلوق لا يعترف لا بجبروت الإنسان ولا بما رسمه من حدود و لا باختراقه للفضاء و أعماق البحار و الأرض.
مخلوق وضع الإنسانَ أمام هشاشته و ضُعفه. مخلوق جمَّدَ الحياة البشرية بجميع مظاهرها و حَرَمَ الإنسانَ من حرياته.
و أخيرا، ما يجدر قوله هو :
يا أيها الإنسان، عد إلى الطبيعة التي أنتَ منها و إليها و عُدْ إلى الصواب. و عِوَض أن تحاول السيطرةَ على الطبيعة، فانسجم و تناغم معها و سَخِّرْ علمَك لمعرفتها و لإدراك أهمية تفاعلك معها. و إن فضَّلك الله على سائر الكائنات الحية بالعقل و الفطنة و الحكمة، فهذا تكليف و ليس تشريف. تكليف بعُمران الأرض بما ينفعك و ينفع الناس جميعا و سائر مُكوِّناتها الحية و غير الحية. تكليف باحترام الفطرة التي أُنْشِئَت عليها الأرضُ. تكليف بإدراك ماهية هذه الفطرة و السير في نهجها.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى