رسالة من محمد مهدي الجواهري الى مهدي المخزومي. من براغ اواخر 1962.

قبلاتي حارّة حرارة شوقي اليكم، وبعدُ
فهذا كتاب من نسي الكتابة طيلة عامٍ ونصف العام لقلّة من يكتب اليه فلا تتوقع مني ان اجاريك.
الساعة الآن هي الثانية والثالثة والثلاثين كذا دقيقة بعد منتصف الليل، فأنا منذ عدّة 1 شهور أعيش كالخفّاش ليلُ الناس نهاري، ونهارهُم ليلي. وسأظل من هذه الساعة حتى اختها بعد الظُهر ساهراً ثم انام لأستيقظ في ما بعد المغرب.
عزيزي، لعل من حسن حظي بأكثر مما هو من حسن حظ الاخوان في اتحاد الأدباء انني مزقتُ ستّ كذا نماذج مطوّلة مختلفة جواباً على كذا رسالتكم الاخيرة اليَّ بيد رجاء 2.
ان ذلك وحده بوسعه ان يحيطك علماً بمرارة ما اكتب. ولعلّ شيئاً من هذه المرارة تعتمل في صدوركم.
ان رجاء اعطاني صورةً قاتمة متشائمة لحدّ الإزعاج، ولدرجة انني اتّهمتُه بالمبالغة، ومع هذا - وبصراحة - فقد كنتُ على وشك مغامرة جديدة، مغامرةِ ان يعود المسيح مصلوباً من جديد على جناحي الطائر! لولا أنني فكرتُ في اللحظات الاخيرة، وكان ذلك مني حكمة!!
ان الألف والمائتي عام على وجه التقريب لم تبدل من تأريخ العراق الأسود كثيراً، وان النضر بن شُميل وأعتقد انني جئتُ بدلاً كريماً عن غيره من شيوخنا المُعجزين العظماء لو عاد الى الحياة من جديد في البصرة - وهي المثال الأطيب - لما وجد أكلة الباقلاّء التي طلبها من اربعين ألف مشيِّع له 3 مهاجراً عنهم، وما فيهم الا عالِمٌ أديبٌ او مُتأدبٌ فلم يكن فيهم من يضمنها له.
عزيزي أبا نوال: المسألة منطقية جداً، مسألة واحد وواحد يكونان اثنين، ولن يُزحزح من هذا المنطق بشيء كونُ أكلة الباقلاّء وتوابعها يكلّف دينارين او ثلاثة في اليوم الواحد! ذلك ما فكّرتُ به في اللحظات الاخيرة.
أتريد ان أزيدك علماً بما فكّرتُ وعسى ألاّ يزعجك؟ لقد فكرّتُ لأن مثل هذه الذكرى لم تفُتكم انتم انفسكم، او ان ضمائركم الطاهرة أبت ان تكونوا سبباً في ورطة جديدة لأخكيم وصاحبكم، فان صحّ هذا الحدسُ فسيصح معه أنكم على حق، وعلى هدي أيضاً ف ي ذلك. وبالمناسبة … ففي النماذج الستّة الممزّقة لم يكن حرف واحد من هذا. لقد كانت فيها اشياء أهم، وأكثر ايلاماً.
كان فيها بايجاز محكم واجباتُنا والتزاماتنا نحن الأدباء تجاه ما يخزُ ضمائرنا، وما يصكّ أسماعنا، وما يفقأ عيوننا.
عزيزي المخزومي: كانت رسالتكم الي خلواً من تأريخ انعقاد مؤتمرنا 4، وظللتُ أنشد عبثاً العثور على موعده، وعندما أبرقتُ اليكم باعلامي عنه كنت اريد التعجيل في المساهمة فيه ولو ببرقية، وفوجئت ان الجواب كان اشعاراً بانتهاء المؤتمر، وباعادة ثقتكم من جديد.
ألف شكر لكم، وألف اعتزاز منّي بذلك، ومع هذا - يا خير من اعتزُّ به من الناس - أفلا تشعرون ان في ذلك احراجاً لموقفكم، وتضحية كبيرة؟ ثم الا ترون ان الامور تكون أيسر عندما يتولى رئاسة الاتحاد شخص كريم منكم يلمسُ الأمور عن كثب، ويُعالجها بيُسرٍ اكثر؟
انني لأرجو مخلصاً ان تُفكروا ملياً في ذلك بعد اليوم!
عزيزي المخزومي، اخواني في الاتحاد: ومنكم على يدكم ولسانكم فإلى اخواني من كل شباب العراق وكهوله، وشيوخه، وزعمائه الميامين، وقادة صفوفه المُجلّين.. ان لشاعر العراق بحق - ودعنا من شاعر العرب الاكبر - وان لرئيس اتحاد الادباء - بالطابو - وعلى الغياب ديواناً ضخماً هو عصارة عمر نيف على الستين في مجلّدات اربعة وتزيد. ثمن هذه العصارة دينار واحد، ولكلّ دافع دينار منّةٌ طنطنت بها الصحف، وحدا بها الركبان في دفع كُربة، وفي فشل مؤامرة، وفي شدِّ عضد، وفي اعطاء درس، وفي تنشئة جيل، وفي اعلاء كلمة شعب.
وان صاحب هذا الديوان كان عرضة لغضب الغاضبين من الناطقين باسم الشعب، والجماهير، والنقابات، والاتحادات، وأنت نفسك كنت شاهد مجلسهم في بهو الاتحاد الواسع الجميل - عندما أراد 5 التقليل من عدد المطبوع المقترح من نسخ الديوان الى العشرين ألف نسخة! والى الخمسة عشر الف منها، ومع ذلك فقد قلل العدد الى الثمانية.
عزيزي المخزومي: لقد غادرت العراق وما بيع منه لا يتجاوز الألف والثمنمائة نسخة، كانت تسد - وقد تعوز - نفقات طبع الجزأين المطبوعين منه، وما كان من فضل فهو لخمسمائة نسخة ممتازة. أفليس بوسع الشعب وقادته اليوم - وبعد ان وقعت الواقعة وكانما كان - ان يعملوا شيئاً بهذا الصدد؟ أليس بوسع احد ان تلزموا كذا احداً ان ينتفع بمثل ما ينفع، ان لم يكن بأكثر، ثم اين هي الوصولات المقتطعة - غير المرقمة طبعاً - لقد غادرت العراق وهنالك ألوف منها في جيوب هيئات تحكمية، ولدى اشخاص مسؤولين هم رهن السمع والبصر منكم الآن.
عزيزي المخزومي: لا يكن فضل القوم هنا في براغ علي حجة، ولا سبيلاً للتهرب، ولا مدعاة تنصل من الواجب. ألف شكر على لسان الدهر لهم فيما آووا، وفيما أمنوا من خوف، وحتى فيما أغنوا من جوع، ولكنك وكل من يريد ان يعلم تعلمون 6 ان ذلك شيء، وتكاليف الحياة الكثيرة شيء آخر.
ولا اريد التطويل بأكثر مما طولت بهذا الخصوص، ولكن اخبرك ان اكبر طبيب اختصاصي شهير في العالم هنا قال بالضرورة الملحة ان استريح في جو دافئ، وعلى ساحل بحر ان أمكن دفعاً لخطر انهيار صحي مطبق مطلق، وهذا كما تعلم يحتاج على الاقل ومن ناحية واحدة الى عملة اجنبية غير العملة الجيكية.
عزيزي المخزومي: ان لي رصيداً مادياً لدى الشعب الذي لا يؤمن بغير المادة فهل ترى من غضاضة ان اطلب شيئا من هذا الرصيد لدرء خطر، ولردم هوة، ولو الى حين؟
ان اشتراكات جديدة في ستين او سبعين نسخة من الطبعة الممتازة - ولا اريد ان احلم بمائة نسخة - في طول العراق وعرضه لكافية لتأمين هذا الغرض. انني ارجو منك ان تأخذ محاولة كهذه على عاتقك مستعيناً باخوانك وبخاصة بالأخ الشهم عبدالغني الخليلي أبي فارس وسامر، وأعتقد انكم ستجدون عضداً في شخص اخي العزيز الكريم السيد عبداللطيف الشواف 7 المحافظ المستقيل، ولا سيما في ما يتعلق بالبــصرة، بل وحتى في بـغداد نفســها.
ولكي نستريح من هذه النقطة فلأختمها بأن ارجو منكم مُلِحاً ان ترسلوا بيد 8 حامل رسالتي هذه السيد الفارسي خلاصة بما هو متبقِّ من نسخ الجزأين المطبوعين وبالوصولات 9، وبما صُرف منها، وبما لم يٍقبض حتى الآن من مجموع الوصولات، ورجاء آخر 10، وآخر هو ألا تُصرَف نسخة واحدة بعد الآن بوصل لم يُتسلًَّم ثمنه، والاكتفاء بأن يحال الى الهيئة المسؤولة عن ذلك، والا فما معنى شيء غير هذا؟ ان يُنهب الديوان نهباً … 11.
عزيزي المخزومي: شيءٌ ثان جديد عليكم بالمرّة ان لدي الآن ديواناً جديداً واعجبْ 12 من هذا الاسم بعد تلك المأساة، فاضحك ما شئتَ، ومع هذا وللمرَّة الثانية فان لي ديواناً جديداً قد يكون اسمه بريد الغربة او: ديوانها، وهو يزيد على الألف بيت … وبما يقارب ان ينيف على العشرين قصيدة ومقطوعة، واحدةً منها بل وفي الذروة منها قصيدة يا دجلة الخير 12 التي أرفقتً قسماً منها بكتابي هذا.
ومن جديد ايضــاً، وبعد كلّ ما لقـيتُ فقد عدتُ أبني صرح آمالٍ مشيد كذا. سيطبع منه كذا ألف نسـخة عامة، وكذا ألف نسخة مجلدة أنيقة خاصة، وسيكون الجرحى، وربما القتلى - مع الأسف - في سبيل الحصول على نسخة منه بالعشرات، وستخرج من نفقات الطبع - وما هي بالكثيرة - وسيبقى منه وفر هو اكثر من الكـــثير، وسيــشفع في رواجه ووفرة جناه جواهريّ مغتربٌ، بل وســيعوِّضُ هذا الجـواهري الجــديد مـن خســارة الجــواهري الآخر العــتيق!
ومهما كان الأمر فالحقيقة والجدّ ان الديوان جاهزٌ تقريباً وحتى حجمه المفروض قابل … 13 ليكون غداً السبت صحبة الاخ عصمة الفارسي، ولا يُعوزه الاّ مراجعة … 14 مقوّمُها عزلةٌ خارج براغ وقريباً منها، وسيكون طبعاً بعُهدة شخص اكثر تحكّماً وتصرّفاً، شأنَ ديوان الجواهري السابق.

=============
1 - ما بين المعقوفتين مطموس بلطخة حبر، وقد اجتهدتُ في إثباته، والحالة التي يصفها الجواهري هي التي أوحت اليه برائعته: "أيها الأرق".
2 - المطنون أنّه رجاء جواد الجصّاني، وهو ابن أخت الشاعر.
3 - في بغية الوعاة للسبوطي 2:316 - 317 "… ولمّا أضرَّ به الإبطانُ في البصرة من ضيق المعيشة، شرع في الظعن عنها فتبعه سبعمائة رجل من اصحابه يشيِّعونه فبكوا توجعاً لمفارقته، فقال: لو كان لي كلّ يوم ربعٌ من الباقلاّء أتفوّتُ به لما ظعنتُ عنكم…". والى هذه الحادثة يشير الشاعر ولكنّه بالغ في العدد أو سها عنه لأنه يتحدث من حفظه، وليس من كتابه.
4 - يقصد مؤتمر اتحاد الأدباء العراقيين الذي هو رئيسه.
5 - هكذا كتبها الفقيد، ولعله يريد بها: أرادوا.
6 - ما بين المعقوفتين زيادة يستوجبها السياق.
7 - كان عبداللطيف الشواف وزيراً للتجارة في حكومة الزعيم عبدالكريم قاسم، وقد عرفني به الجواهري فوجدته عليه رحمة الله من أنبل الناس.
8 - ما بين المعقوفتين زيادة يستوجبها السياق.
9 - الكلمة مطموسة في الأصل وقد اجتهدت في قراءتها.
10 - ما بين المعقوفتين مطموس في الأصل وقد اجتهدت في إثباته.
11 - كلمتان مطموستان.
12 - مطموسة في الأصل.
12 - ما زلتُ احتفظ بنسخة من هذه القصيدة على شريط مسموع بصوت الجواهري يوم ألقاها اول مرّة سنة: 1963 في براغ في ذكرى وثبة كانون المجيدة، نسخها لي الصديق المرحوم الطيب الذكر موسى أسد الكريم وكنّا: الجواهري وأنا مدعوّين الى كرم ضيافته في بيته في براغ، وفي التسجيل من أبيات القصيدة ما ليس في الديوان. هذا وقد طبعت لجنة الدفاع عن الشعب العراقي التي كان يرأسها الجواهري هذا الديوان في براغ.
13 - كلمة مطموسة.
14 - كلمة مطموسة.

----------------

* ناشر الرسالة محمد حسين الأعرجي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى