رسالتان بين الدكتور زكي مبارك و طه الراوي

إلى الأستاذ المفضال، الدكتور الزكي المبارك ، كلأك الله بعين رعايته، وأمدك بفيض من عنايته، وسلام الله ورحمته عليك وبركاته فيك .
أما بعد :
فإني رأيت، أن أبدا الكتاب ، بقصة قصها علي بعض الأشياخ ، قال:
مر أحد الصوفية -ــ وأنت جد طروب بأحاديث القوم -ــ بقرية من قرى ديار الروم ، فعرج على مقبرتها ، فاسترعى نظره ، أرام طويلة مركونة على بعض تلك القبور ، وطفق يقرأ ما كتب عليها فإذا بعضها يقول :
- هذا فلان ساح في الأرض ، وحج البيت الحرام وزار العتبات المقدسة ، وتوفي سنة ..... وكان مجموع عمره خمسة أيام .
وأخذ يستقري القبور ، فوجدها ، كلها على هذا النمط . والأعمار تتراوح بين اليوم الواحد وعشرة الأيام ، فأخذه العجب وقصد كبير القرية ، فسأله عن سر هذه العجيبة فأجاب:
- إن الأمر بسيط جدا ، وهو: أن الواحد منا عندما يبلغ أشده ، يحمل دفترا صغيرا في جيبه ، يسجل فيه أيام السرور والأيام التي يشوبها كدر ، فإذا هو توفي نخرج دفتره ونجمع ما فيه من ايام البهجة وحدها ، ونسجلها على فقبره ، لأنها هي العمر ، وما عداها ، ليس بشيء .
فقال الصوفي: أخشى ان تعاجلني المنية عندكم، فالتمس إليكم أن تكتبوا على قبري هذه العبارة:
- مات قبل أن ولدته أمه ، لأني لم أذق لذة السرور منذ عرفت نفسي. هذه خلاصة القصة . وإذا سألني سائل : أي الساعات تعدها من عمرك؟ اجبه على الفور : هي الساعات التي تجمعني بأديب يفهم عني وأفهم عنه ، أطارحه الحديث وأجول معه في رياض القديم والحديث، وإني لمعجب بقول القائل :
وما بقيت من اللذات إلا = محادثة الرجال ذوي العقول
ولعلك تسألني لم حسبت عمرك بالساعات ولم تحسبه بالأيام؟ والجواب واضح : من أن لي الحظوة بمرافقة أديب ، يوما كاملا ؟
وبعد : فهل تعدون معي الساعات التي كانت تجمعني بكم من العمر؟ أما انا فلا أماري في عدها كذلك.
جاءني اليوم شاب يطلب مني صورتي ليرسلها إليكم ، فأهاج في نفسي بلابل أشواق كثيرة وذكريات طيبة ، وسألته : لماذا لم يطلب الدكتور صورتي مباشرة فإني شديد الشوق إلى قراءة كتبه؟ . فكان الجواب السكوت، وقلت في نفسي ، إن الدكتور معني الآن بالكتابة عن " الصوفية " وللصوفية أحوال تميزهم عن سواهم من الناس ، ومن جملة تلك الأحوال ، أنهم لا يقيمون وزنا للأشباح، بقدر ما يقيمون للأرواح، وعلى حد اعتبارهم هذا فإن صورة الدكتور معي ، أينما كنت وأينما كان ، فلا حاجة لي إلى مطالبته بإرسالها ولكن ظهر أن صورتي لم تكن معه ولذلك ، أرسل يطلبها، ولكن منعه الحياء أن يطلبها مباشرة وطلبها بيد صديق آخر.
وعلى كل فقد أرسلت صورتي الشبحية ، أما صورتي الروحية ، فهي قريبة منه، ويراها متى شاء و أنى شاء .
هذا وأرجو المغفرة عما فرطت من تقصير ، وقبول خالص التحية من الأخ

طه الراوي

***

حضرة صاحب السعادة الأستاذ طه الراوي
سيدي الصديق
تلقيت رسالتك الكريمة ، وصورتك الغالية والله وحده هو القادر على أن يجزيك خير الجزاء ، على تلطفك مع أخيك الذي يحفظ عهدك وعهد االعراق .
واني لأرجع على نفسي بالملام في كل يوم ، على ما قصرت في حقك، يوم كنت في بغداد ، ولكنك تعرف كيف كنت عندكم.
فقد كنت في أوقات الفراغ لا أصلح لمحادثة رجل مثلك، لأني لم أكن اخرج من داري إلا بعد أن تفنى قواي في الدرس والبحث. وقد اعتذرت عندك بذلك ، فهل قبلت عذري ؟
تفقدناك في لجنة المصطلحات الطبية ، فكيف بخلت علينا بالحضور؟
لو انك حضرت لعرفت أن خطبتي بالمؤتمر الطبي ببغداد لم تضع ، فقد استطعت بقوة المثابرة ، أن أحمل كلية الطب بالقاهرة على أن تقرر تدريس الطب باللغة العربية ، وستظهر ثمار ذلك بعد حين ، ولا يفوتني أن أنص على أن العشماوي بك، والجارم بك، كانا ينتظران مقابلتك في المؤتمر الطبي العربي..
ونحن والله مشتاقون إليك ، اشد الاشتياق، فهل نراك في مؤتمر الثقافة العربية؟
أرجو أن نراك في المؤتمر القادم الذي تدعو إليه وزارة المعارف المصرية ، وأرجو أن تعرفوا انه ليس من الكثير أن يحضر عشرة من رجال التعليم بالعراق يكون فيهم الأستاذ طه الراوي ، وإنما نصصت على هذا المعنى ، لأني أحب أن تكون لك يد في توجيه الدراسات العربية ، فهل تقبل مني هذا الرجاء؟
فإنني أن اهدي إليك كتابي " وحي بغداد" وكتاب " التصوف الإسلامي" وكان ذلك لأن شواغلي صدتني عن هذا الواجب الجميل ولأني أعرف انك تجدهما بسهولة في بغداد.
أنا الآن مشغول بطبع كتاب " ليلى المريضة في العراق " وقد امتد نفس الكاتب فوصل الكتاب إلى مجلدين كبيرين ، وقد تعطر الكتاب باسمك في مواضع كثيرة ، حفظك الله ورعاك

هل استطيع أن أسالك عن صحة الأستاذ معروف الرصافي؟
أرجو أن يعرف أني ما نسيته، وسأتحدث عنه قريبا، في الإذاعة المصرية .
وإليكم جميعا تحيتي وثنائي.

المخلص زكي مبارك

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى