24 رسائل من غيثة الخياط الى عبد الكبير الخطيبي

  • صديقي،

بعشوائية محني، انصرف، شاغلة الدنيا، منشغلة، دون انقطاع، بالتفكير، تفكيرا في الرد على هذه الرسالة؛ التي تسببت لي في مكابدات جمة: أعيد قراءتها إلى أبعد حد، دون أن أفهم أشكال الحروف والكلمات ثم الجمل. مقاساة لا تحتمل، ناجمة عن صعوبة فك رموز ما تخطه، وهو يتأرجح، بين الكتابات الإنسانية الأولى والسبرنتيكا la cybérnétique.
ومقاساتي متمسكة، مثيرة للشفقة، بهذا المشكل العويص في التواصل، إمكانية لا تصدق، في الالتقاء بين الكائنات. مقاساتي لها زمن بعيد في نفسي، أقدم مني أيضا، ومن الأرجح أن لها صلة باليأس، وبلامنتهى ضفافه. لا يمكننا أبدا في الواقع، أساسا التواصل مع أحدهم مثل خط التقارب، نستعمله. لكنه فخ قاس ومفجع. إنه أقرب إلى المستحيل. أو نصبح أيضا في انصهار أو في انشطار، وهما سيرورتان، للوهلة الأولى، تبعثان على التدمير، الانحباس أو الانفجار، قبل تكوين شكل آخر من جديد، كائن آخر، ومحدد آخر.
تصور أن كتابتك وحدها، يمكن تحملني إلى ضفة العنف الأصم: لا أستطيع أن أقرأ، أتبين، إعطاء معنى وأخذه. سيميولوجيا للإيجاد، وفك الشفرات في أفق الاكتمال والكلية. أجدني مثل الأمية تمسك الصفحة معكوسة، وكطفل يقرأ، في الحقيقة، أشياء يختلقها ويعبر عنها…سأعيد هذه الرسالة، مائة مرة، إلى أن تتآكل خيوطها الشعرية، التي تحتوي عليها، على الأغلب، إلى أن ينطمس قوامها، وإلى أن تجف مادتها.
…أدركت جيدا، بعلامة مائية لهذا النص المعتم، لأنه غير مقروء الأقوال في فصل قائظ، في العطلة، في التحاب، وكثير من الاستحالة، من الراجح أنها غير مفهومة، لهذا التحاب الشاق، الذي لم يتحقق أبدا في الواقع، والمؤجل دائما إلى الإحساس الآتي، مستوطنات من سحاب، على القلب أقفال، هذا العضو الرئيس للحب. قبل العودة إلى القلب، أود أن أتوسع في عبارة «زينوفون» Xénophon التي أوردتها، والتي بسبب كلمة، تأخذ دلالات أكثر جنونا! غير أن هذه الكلمة لا يمكن أن تكون منطقيا، سوى «أعداء» نستخرجها في ثلاثة مقاطع، في نهاية وبداية السطر: « من خصال الرجل الحكيم أن يستفيد من أعدائه». هذا القول يحدث في صدمة صارخة. الاستفادة أو الإفادة من العدو، هو قبول بمعرفة وجوده، إنه «لمس النظرة»، كما تقول. وهذا غير مقبول، وبدون أخلاق Morale. العدو عليه الاختفاء من وعينا، من مجال بصرنا وتقصينا، حتى نتلافى «أن يصرعنا». العدو أقوى علينا من الصديق. يفتننا، وهذا «الافتتان» وعد مؤذ، وخطر وانجذاب…وهو قريب بعض الشيء، من الثعبان حين يصرع الحمامة، من صميم النظرة إلى صميم القلب، في التفاف جنائزي يبيد الرقة، في آخر هديل صادر عن الحلق.
دائما وأبدا، الحب أو نقيضه، والذي ما هو سوى حب، هذه الكراهية بأصابعها المعقوفة، هذا العنف اقوى من الحب، في واقع الأمر، إلى حد أن القوة السلبية، هي عارمة أكثر من الإمكانات الكامنة، في الأحاسيس الطيبة (والجميلة): انظر إلى الأوضاع في العالم!
هل القلب أيضا هو مستقر الكراهية؟ حب وكراهية، أيقيمان في نفس المكان؟ يا لها من مأساة! إذا فكل حب بالإمكان، أن يتحول إلى كراهية، وكل كراهية ما هي سوى حب مستحيل.
أحب القلب»!» بوصفه عضوا- لا يكل- ورمزا رسمه يأسرني. الخيال الإنساني لا ينضب معينه، وثمة كم لا يحصى، من الرسومات مصممة على القلب. أملك كتابا دنماركيا: «كتاب القلب»، ما إن أفتحه حتى يغمرني، ببهجة متكررة، وكم آخر من القلوب «الصغيرة» جمعتها ابنتي طيلة طفولتها: نعشق القلوب، وكنت أناديها أحيانا «قلبي الصغير»، وكثيرا جدا « corazon « (قلبي) خلال إقامتنا بإسبانيا، وبالأندلس تحديدا. استرجعت الأندلس، منذ سنوات طويلة، غير أن هذا حب آخر للأصول، جذور Roots السود الأمريكيين.
وهكذا إذا أحببتها من قلبي، في حين أقاربي أحبوها من أكبادهم، كجزء منهم وأعز ما يملكون، الكبد الصغيرة «لكبيدة». على أية حال فنحن نحب بأحشائنا ودواخلنا، ينبغي الاعتقاد، رغم أن مراكز الحب تختلف من جيل إلى جيل، ومن حضارة إلى أخرى. أظل مهتمة بموضعة الحب داخل عضويتنا organicité، طبعا بوصفي طبيبة، لكن بواجهة المحللة النفسانية. فيما مضى، شرحت جثامين، وكوكبتي الإنسانية هي شرط الاكتمال: لمس الميت، تلقي رأس الطفل عند ولادته-لزمت الصمت، لأكثر من ساعتين، عند أول عملية توليد قمت بها: ساهمت في النظام السماوي للكون-، لمسة مريض باليد تماثل للشفاء. أمست أيادينا عالماّ، وعينا المريض ذارفتين أدمعا…وقلبي على ضفاف مقلتي!
لا أعرف الأمازيغية لكن أهلها يقولون «تاسانو»، حبي! و»تاسانو» يقصد به «كبدي» ونجد هذا الارتباط البدني بالحب، في حين أن كل ما هو حضاري يسعي إلى الفصل بينهما. للأمازيغ تعبير «رائق» للدلالة على الحب، يقولون «عيني»، ونظرة الحب هذه، و»لمس النظرة» هذا يساوي كل أشعار التحاب.
من فضلك، اكتب لي بخط مقروء. وكن متأكدا أني سأسايرك في أي تجريد أو حذف.
أحييك وأتمنى لك صيفا ممتعا.
غيثة ا.خ.

****


  • صديقتي،

مع فجر هذه السنة الجديدة، أتمنى لك: أولا الصحة، الصحة مستلهمة إلى حد ما، وهي تصاحب الزمن في إيقاعه، من فصل لآخر. تأتي السنة وتعود، وتلك التي تعود إلينا، تحمل في طياتها بعض الوعد والعهد.
بصدد كلمة «تحاب «Aimance، يلزمني أن أقول لك، إنني لست من ابتدعها، كما ذهب إلى ذلك بعض الكتاب في فرنسا. إنها كلمة قديمة، تنتمي إلى تقاليد الشعر العفيف (سأرسل لك مقالا حول الموضوع كنت كتبته ذات مرة). كلمة تعرضت للنسيان. وإذا كان من استحقاق، فإن تحديدي هو وضعها متاحة للتداول.
إن كلمة مثلها مثل الخيط الأول لزربية، وحبكتها. نستطيع أن نحلم، وأن نفكر، وأن نهذي انطلاقا من أصدائنا وهي متعددة. تجمع داخلها تلك المتعلقة بكلمة أحب، والحب، والصداقة. ضمنها، تقفية assonanceجميلة وترابطية، وتشبيه ملائم للانفعالات التي تمنحه نفسا. يعرض المعجم الكلمات مثل تماثيل وإشارات رامزة، والحال أن الأمر يتعلق بتأصيلها في الحياة. تطعيمها بالحياة المادية واللامادية، في صميم القلب الصامت لكل كلمة التي هي ملاذ-لا أقل ولا أكثر- لحركتنا الخاصة في الحياة.
تتحدثين في رسالتك عن «صحار مأهولة بالكراهية». أجل. لا أعرف ما إذا القول المأثور للحكيم الذي يريد الإفادة من مشاعر أعدائه، يضعنا على الطريق. تحويل التدمير هو آلية جيدة لمعرفة الذات. عدونا هو أيضا بداخلنا مثل شبح، جزء متجذر في نزوعاتنا ونزواتنا. سنفيق يوما مغتاظين من سذاجتنا وأوهامنا. الفن هنا، عنيد لا ينقاد. يمنحنا سرا: يشكل تشابكاتنا مع الحياة، وانفعالاتنا، وأهواءنا. أؤمن بالفن بوصفه غاية في ذاته. غاية لا متناهية.
نحن عندنا، الصمت، وضع صليب، النار، الشعلة -كل سراء أو ضراء- كل هذه الأشياء تعرضنا للدوار. فليس ثمة حكمة ولا حمق للاحتفاء هنا. يظل كل شيء مرجأ في الممكن؟ أتساءل هل نهرب من هذه اللحظات، حيث تـأخذ الأشياء مكانها: قوة الواقع، وهشاشتنا الأصلية، والحقيقة العارية التي تصفعنا. نهرب ونلعب بهذا الهروب، بهذا الافتراق، والتلاقيات الجديدة المؤثرة.


****


  • صديقتي،
أفكر بمصطلح اللاتناظر في كل هذه الأوضاع، وسوء الفهومات الإجبارية إلى حد ما، بين الرجال والنساء. قبل أن أكون مغربيا فأنا كائن، شبيه، يسير في الحياة مقنعا؛ لأن الأقنعة والأدوار يؤسسها المجتمع، وينظمها القانون. يلزم التعامل معها، في كل الأوقات. أنا لا أتساءل الآن كيف أحيا، وأحب، وأموت متصالحا مع كل العالم، لكن ماذا يعني شغفي بالعلامة؟ اسمعي هذه الكلمة كما تريدينها، امنحيها صوتا وإيقاعا.
هل هذا المشروع التراسلي («فكرة غريبة وإشكالية» أليس كذلك!) أكثر من مجرد تعويذةexorcisme؟ أسيكون خطوا؟ لكن ما هو بالضبط؟ أنا مثلك أفكر فيه بوصفه رهانا. إنه رهان جميل.
أحييك.
عبد الكبير


* ملحوظة: ستكون لي عودة إلى كتابك «الحدائق السبع» يوما ما، لما أقرأه كاملا.

الرباط، في 6 يناير 1996



1635987016664.png




****

  • صديقتي،
أجل، لقد قرأت كتابك بكامله. ما أثارني فيه هو التنوع في النصوص: القصة القصيرة، والحكاية أو مضاعفها، والمحكيات، والدراسات، والارتجال الحر والمباشر، في كثير من خطوط الكتابة، وكثير من الجبهات. ومشدود أيضا إلى إجراء غير مألوف في التوليفmontage. وبهذا فأنت تنخرطين في السرد الحكائي؛ لتستهزئي به بعد ذلك، ولتتنصلي منه، أو أحيانا لتخضعيه للتحليل. لم لا؟ بعد كل شيء، الأجناس الأدبية هي مواثيق ومواضعات. وهي كذلك قوانين وإكراهات.
في النص المعنون ب: الحاضر Le présent، تحضر السخرية بقوة، تبدد الأوهام، بطريقتها، عن تعويذات sortilèges الحكاية المشرقية. تتفجر السخرية، عند نهاية حكاية أخرى المرآة le Miroir، تطور غير متوقع للهرم، الذي ينعكس عليها.
الحكاية آمنة في آخر لحظة. خيبة الأمل تتحول إلى ضحك. تروقني هذه الازدواجية، رغم أنني شخصيا، أميل إلى تثمين سخرية تكون عجائبية fantastique أو غرائبية féerique. كتابة كل شيء غير ممكنة/ كتابة كل شيء ممكنة. على هذا التخم، تنكشف قدرات الصمت، والعنف، والشغف، والغيظ، ولحظات نهاية العالم، ووميض التوهج، والفكر عائدا بخطى خافتة لتليين، وتدوير، وتأطير، وتشكيل كل ما يرتج في حساسيتنا، ومباهجنا الحميمية. نحلم منتبهين بقصة، وأخرى تأتى لتقدم لنا يد العون.
على كل حال، في الحدائق السبع، النبرة حاضرة، وكذلك الصوت، والبصمة والإيقاع.
غيثة،
عن الهبة والحرف، وبلا شك في كل الكلام البشري، ثمة مناجاة ذاتية، وحوار ثنائي ومتعدد ومحادثة. فما بين الصمت والترديد، هناك حيز لكلام معطى، محبوك على حرف حقيقي. ما الهبة؟ تبادل للعلامات والخدمات؟ عطية وحيدة، عنيدة، لا تعوض؟ هل هي فن معرفة التوجه إلى الغير، كما هو لذاته، حدثا في حياته الخاصة؟ ولذا، فإذا أجبنا بالإثبات عن هذا السؤال الأخير، عبر رسالة «حقيقية»، فإننا نتوجه إلى الحياة، التي يبنيها كل واحد بمودة، وصداقة، وحب، وتحاب Aimance. حياتنا جانبا، هي قوة خفية.
منذ زمن طويل، لم ألتفت سوى إلى انبثاق الحياة، وطاقتها في التحرير. عندما تتحدثين عن الشعر، لا أصغي إلى جزيرة فردوسية، بل إلى كلام معطى، بحيث أن الشاعر، وكل كاتب، ينقل تطعيما للحياة، إلى القارئ الذي يبدعه ويخلقه. إبداع القارئ، والقارئة، ذلك هو الأمنية الشغوفة لكل الذين واللواتي يكتبون. القارئ: مضاعف وآخر، حي أو قادم من الأجيال المقبلة. ما ينقله إليه الكاتب هو إيقاع، ونبرة الصوت، ورسم لطريق، هو شيء ثمين جدا، أن أعترض دائما، على الأحكام الاجتماعية المسبقة إزاء هؤلاء الناقلين المرسلين للحياة المادية واللامادية. الكاتب ليس تمثالا ولا منبوذا، لكنه موجه إلى فن العيش. مفارقته أنه يضحي بحياته الشخصية؛ لإنجاز مهمته على أحسن وجه. مراعاة الحياة، والموت، وتناسخهما المتعدد، ليل نهار. تتحدثين كثيرا عن العرب. العربي أو العربية، من يقال له أو لها هكذا. لذا فإنني إذا قلت أنا عربي، فكلامي موصول ومعقود ومنفك، وفق صيرورة هويتيle devenir. أنشد امرؤ القيس تبعا لأسلوبه. كلامه ليس هو كلامنا، فهو بالأحرى أثر، وذكرى، ولون للماضي. ربما نحن إزاء الماضي، هاربون لم يسبق لهم مثيل. فما لم يسبق له مثيل هو الميثاق، الذي يتحدث عن حقيقة الكائن وعدم اكتماله.
تؤثر في رسائلك وتثريني. فما أتلقاه هو هبة؛ لأن اليوم هو عيد ميلادي. فقبل أيام، وأنا أتمم دراسة حول الحضارة المغربية، كتبت:» … نتشابه، نحن البشر، من القدمين إلى الرأس، منذ ظهور الإنسان العاقل Homo Sapiensعلى الأرض، لمدة طويلة، طويلة جدا، أكثر من 200000سنة! يا إلهي، كم يمر الزمن سريعا!»
إلى اللقاء، أحييك.
عبد الكبير
الرباط، في 11 فبراير 1960


******

  • غيثة،
توصلت برسالتك من باريس. من الضفة الأخرى، كما تقولين. تعلمين أني تابعت دراستي في السوسيولوجيا ما بين 1958 و1964. منذ ذلك الحين، أضحت باريس بمثابة مدينتي الثانية. أعرف بضعة أحياءـ عن ظهر قلب: المقاطعة الرابعة عشرة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، والثامنة. وجزءا من المقاطعات الخامسة عشرة، والسادسة عشر، والحادية عشر، في النهاية، كثيرا من المسارات، التي كنت أنسجها في ذكرياتي، كلما أتيح لي عبور باريس راجلا، وكان الطقس جميلا، وخاصة في الصيف. لا أكيل المديح لباريس، فبإمكانها أن تقوم هي بذلك، منذ قرون خلت. إنها ظاهرة فريدة من نوعها، كما قال «بول فاليري» في نص رائع عن باريس.
عاهدت نفسي على كتابة رواية يوما ما، تجري أحداثها في هذه المدينة. مثلا في «فلور» Flore، هذا المكان الذي تتحدثين عنه، حيث كانت لي فيه صديقات رشيقات، مثل عارضات أزياء، يجتمعن بانتظام هناك. أو أيضا في أمكنة أخرى، هي الآن شبه أسطورية. مشيا، وتسكعا في هذه المدينة، فهذا من شأنه أن يقودك إلى اكتشافها أحسن، وتودعك أسرار وخبايا. تلك كانت تقنية بودلير وهو يمارس فن العيش بباريس، يوما عن يوم، مبتكرا مبدعا أفكارا جميلة عن الحداثة. أعمال بودلير مثل باريس لم تشخ، بل نضجت مع هذا القرن، مساوية دائما لذاتها عينها، ولموسيقاها المتعددة الأصوات polyphonique.


*****

صديقي،
ألم متكرر في الظهر، يا له من ألم شديد! منعني من الكتابة إليك إلى حدود الآن، إنه دلالة على أنني منكسرة إلى نصفين: نصف علوي ونصف سفلي، فقدا كل علاقة بينهما عدا الألم وما يصاحبه من وخز. شيء لا يصدق، أن يستطيع الجسد التعبير عن النفس إلى هذ الحد، لكن، وفي المقابل، فهذه الأخيرة تظل عاجزة جدا عن ذلك. تقويمنا وتركيبنا، في الواقع، هذا الجسد شديد الاحتقار والخسة، هو أكثر سلامة وصحة وصدقا لنفسنا مع ذواتنا عينها. الروح كلا، فليس الجسد هو ما ينبغي استبعاده، بل الجسد النشيط الحركي الدينامي، في خدمة هذه الروح (الأنيما) التي لا تعمل على تنشيط شيء، وتقف وراء المعاناة وهذا كل شيء…
جاءت رسالتك الأخيرة ممهورة بالوداعة والسكينة معلنة دخولك في فصل الصيف، داخل دورة الفصول والحياة معربا عن دهشتك من كل هذا ومبادر إلى المشاركة رغم كل شيء. بالقليل من الاحتياط الذي تبديه. لا يمكن إلا أن تحظى بتقديري الكبير. لم تسخط ولم تعي ولم تهزم ! فأنا كل هذا.

سعدت كثيرا لحصولك على جائزة الأطلس: وإذا لم أقل هذا فإني أقوله لك مرة ثانية. في واحة قصيرة من السلم، يضع دقائق قضيتها معك، رفقة الخطاط الصيني رونيه. ر.، وزوجته وبضعة أشخاص يعطونك الإحساس بالقرب الجميل، ونوع من الرقة.
سيكون بإمكاني أن أقول لك، إذا استطعت سماع ذلك ! ما تضعني فيه الحياة من تدمير جامح. كلا فأنت مثقف رزين بخلاف الكثيرين غيرك، فهو أمر غريب يدفعني إلى محادثتك ومكاتبتك. غرابة تحملني أيضا على مكاتبتك-طويلا- في الوقت الذي لا أقدر إلا على تحبير بطاقة بريدية، لقول كل شيء وللجميع وفي كل أنحاء العالم. تخيل بطاقة بئيسة مبعوثة إلى «واليس» و «فوتونا» قصد «التراسل» مع أحدهم، يضع كلمات، لمجرد أن يقول له: «نعم ! تعلمون، أنني ما زلت حيا ! « خبر لا فائدة منه ويتطلب عملا بشريا للنملة: موضعة «و» و«ف» هو سفر عبر الخريطة طيلة خمسة عشر يوما، شهرا حتى تصل إلى وسط المحيط الهادئ وحمل رسالة من «إقامتي» على الأرض ! يا للإبتذال !
لكنني عبر رسائلك، أحس جيدا أنك، القريب والحاضر، الحالم والواقعي، وأن «شيء الحياة» متأصل فيك !
«حاجتي إلى العزاء مستحيل إشباعها» (ستيك داغرمان). كان انفجارا حين عرفت هذا المؤلف. أقرأه دفعة واحدة وأعيد قراءته؛ لأن كلمة من النص خدشتني، لأن جملة خدشتني، لأن كل ما نخشاه في كل النص يحدث. (1954).
أنا بصدد ترجمة لفائدتي، ترجمة المعنى الإلهي من اللغة العربية إلى حدود إدراكي لسورة الرحمان. عبرني المعنى والجوهر. كل ما يختزنه لاوعيي العربي والإسلامي يطفو عند قراءة هذه الآية. هذه الكلمة كانت دائما قرآنية حيث لا نتصور لها أي تحديد آخر. الآية القرآنية.
لا أكتب في جو من الهدوء والدعة بل داخل آلم الظهر ومن ثم فبين الخصر lombes وعالم النسيان limbes هو مسألة أيام !
محبتي

***

  • 4 مارس
غيثة،
كان علي أن أتوقف عن كتابة رسالتي. عملي يفرض علي ذلك. إنها إذا، رسالة أخرى أبعثها إليك، هي الرسالة نفسها وأخرى.
تتساءلين ما «المودة». أو بالأحرى تقولين إنها كلمة تنسج زربية، أو مثال لمفردة «عصية عن الترجمة» intraduisible أجل. يكتب بعضنا للآخر بالفرنسية، وأنت تعرفين أن هذه اللغة تقوم على معجم لاتيني، وقواعد اللغة الفرنسية، فرنسية بشكل خاص، متحدث بها في الأصل. مزدوجة اللسان في أحد المعاني. رجعت إلى لسان العرب؛ للتحقق من كلمة المودة واشتقاقاتها. فكرة الحب بين الناس، بين الكائنات البشرية، بين الإنسان والله. الودود أحد أسماء الله الحسنى؛ المودة: الكتاب؛ إنها أيضا اسم امرأة تغزل بها أحد الشعراء. «ود»: صنم. فأمام هذه الفروقات أمامنا ما نشتغل عليه، أليس كذلك؟
حاليا، أشتغل على «الفن العربي المعاصر». عكفت على هذا الموضوع لفترة طويلة، أحاول تجلية بعض براديغمات الفكر (النماذج الإرشادية) paradigmes بين الصورة والعلامة، علما أن الحضارة الإسلامية هي حضارة العلامة، هيكلها هو الكتاب. الكشف عن النظرة، إعادة اكتشاف الصورة؛ قصد إثراء كتاباتي، حصولا على الإمتاع والفكر.
نقول إننا نريد زمنا، بيد أن الزمن هو الذي يضعنا دائما في منظورperspective. سأعود إلى مسألة المرئي في الفن العربي المعاصر. سلكت طريقة جديدة: أحلل هذا الفن انطلاقا من براديغماته الحضارية، وهي براديغمات الفن: صفاء الخطوط، وإضفاء الطابع الهندسي المطلق، وقوة الفن التزييني، واستقلالية اللون… كثير من الخصائص على الفن الأوروبي المعاصر إعادة اكتشافها بطريقته. لكن لم تعد لنا نفس الطريقة لمعالجة التجريدي non-figuratif . على سبيل المثال، عملية الرسم هي لعبة بين الحركة واللون، أو ببساطة، هي ارتجال حركي، مثلما هو الأمر تقريبا، في موسيقى الجاز الحرةLe free-jazz . ومختلف كثيرا عن الخط العربي الكلاسيكي (وهو فن مشفر جدا يخضع للقياس واحترام القواعد). باستثناء بضعة فنانين، من بينهم «بريون جيسن»Brion Gyssen الذي أقام في طنجة إبان فترة حركة « beat generation «فإن الرسامين الأوروبيين والأمريكيين اعتمدوا الخط الياباني مرجعا لهم.
مشاهدة الفن العربي المعاصر، انطلاقا من براديغماته الحضارية، ثم تركيز الاهتمام على التقاءاته واحتكاكاته، وتحولاته مع الفن الأوروبي، هذه هي منهجيتي.
الفن(التشكيلي): فضاء عالمي. هو جزء من موروثنا، وهو عينه في صيرورة en devenir.
بمناسبة «اليوم العالمي للمرأة»، فكرت أن ظهور المرأة في الرسم هائل، وهذا مكسب، مثل الشعر ينظمه الرجال وينشدونه دائما، متوجهين به إلى المرأة، والنساء، وامرأة معينة تحديدا. هذا ما أنقد العلاقة الرمزية للتحاب (L’Aimance) هذه الهبة الواعية أو اللاواعية، إلى النساء، هل يلزم تبديدها؟ تجميلها وتجاهلها، بوصفها مظهرا خارجيا لوجود المرأة؟ لا ينتمي الفن إلى أحد من حيث كونه ملكية-. فهو للا أحد. هبة للا أحد. فإذا، على المبدعات اقتراح أشكال جديدة للقاء، والهبة، والموروث، علامات وصور مجتمعة. سأكلمك يوما ما، عن شواعر كثيرات، يشكلن جزءا من مرجعياتي الشعرية. كتبن لنا نحن الأحياء، وللذين سيأتون من بعدنا.


*******

  • دائما في 11 مارس
طبعا، غيثة، من الملائم الاستمرار في هذا التراسل. إنها وعد. وعد إحراج. فات الأوان لفقدان هذا أو ذاك.
في هذه الأيام يتبدى الربيع مترددا في الحلول. يخيل إلينا أن الهواء يرقص، والمطر يعمل على كشف نعمته الخاصة. يعطي بلا حساب. هنا تنعكس كل استعارة مائية أو أوقيانوسية océanique تحكيك الجسد بملاذه الشعري. فن العيش، في كل يوم، أمر مستحيل. لكن من حين لآخر، في التنفس، والإيقاع، والوميض أو الذكرى ذات الثنايا، تحت ردائه الرحب.
أحييك.
عبد الكبير

الرباط، في 27 فبراير 1995



************


  • غيثة،
توصلت بالرسالة-العدد، كتابك المرقم مع صوره، وحتى أصواته؛ لأننا نكتب دوما بصوت مائل. نعم، إلى أين؟ نبرة الصوت تترك صداها في موقع ما بين الكلمات. مشكلة الإيقاع، والنفس، والشهيق، والتقطيع. أتذكر أن دفاتري المدرسية خلت من أي خطأ إملائي، لكن يا لها من ممسحة! كانت تقول المعلمة. مسوغ إضافي يؤكد اهتمامي بالرسم peinture: يستخدم الرسم مادة أكثر مقاومة ومناعة، واللون، ونزوعه الأكثر توحشا أحيانا، أية قوة داخلية وخارجية، تلزم للحفاظ على حساسيته المرهفة، على مستوى اللوحة. ربما نحن لا يستهوينا في الفن سوى ما يثير ذهولنا ويبهرنا. على الأقل في لحظة أولى. فبعد، الوقوف أمام لوحة مثلا، تجابه النظرة قوى الصمت وطاقاته.
أعتقد، أن كل هذا، له علاقة بشكل التخطيط la forme graphique لكتابتك. جمال الخط له قيمته الأصيلة، وتخطيطاته zébrures في صميم الحساسية. طبعا، وأنا أكتب إليك، فأنا أبدع قارئا أو قارئة. مثلك. دون تماثل أو تناظر. هبة. وعد وعهد. طبعا، ينبغي أن تقرأ aporie إحراج، وليس agonie احتضار. فبين الاثنين، تجرب الظاهرة حظها. مثل الهفوات البصرية، والأخطاء المطبعية هي لقيات ومصادفات.
أمام نص، تارة أجد فيه نفسي، وتارة أخرى أحلم أو أتيه. الزمن والانتكاس البندوليcontretemps .
آه نعم، بصدد الفن العربي المعصر، لا أعرف إذا ما كنت مجحفة (كثيرا)، لكن أنت من يتكلم عن نظرتك، ولا أستطيع الاعتراض على الكثافة. غير أنه يبدو لي، بل أنا متأكد، أن أعمالا كبرى تأتينا من هذا الفن. خذي مثلا منجز الشرقاوي (غير أن ثمة آخرون) فهو يتيح لك إعادة النظر، ليس فقط في تراث العلامة عندناla tradition du signe ، بل أيضا في توليف متفرد ذاتي وشخصي، كثيف، في بعض الأحياز من متخيلنا. دعوة للزيارة من جديد بالمناسبة. يهيئ خلال شهر أكتوبر المقبل، بمعهد العالم العربي، بباريس، أول معرض استرجاعي rétrospective كبير لهذا التشكيلي الذي لا ينسى: لوحات، رسومات، دفاتر، بالإضافة إلى وثائق أخرى (أفلام، صور، كتب مصورة). لعل هذا أمر مقصود، أن تتواجدي بباريس، تحت وميض هذه الألوان، وهذه التقسيمات المتدرجة، لهذا المنجز. سأحكي لك يوما ما، في ماذا وكيف حفزتني لقاءتي مع مختلف الفنانين، على الاشتغال على نظرت(ي) «mon» regard . بفتحه على عالم الناظرين. من هنا انبثقت فكرة مؤلفاتي المصورة: «إهداء إلى السنة القادمة» وغيره.
علمت عبر الصحافة، أنه صدر لك حديثا، نص حول الأسماء الشخصية العربية. حسنا، لتسميتي ابنتي شامة، تحدثت طويلا مع أستاذي السابق في اللغة العربية بمراكش، حينما كنت تلميذا بالثانوي. طلبت منه أن يقدم لي لائحة بالأسماء الشخصية العربية القديمة. وفي النهاية، تبين لي أن اسم شامة أكثر ملاءمة: بساطة أنيقة، رجع صدى صوتي مع كلمات أخرى. هكذا هو اسمها الأصلي من جانب الأب، مع مشاركة الأم.
أحييك في هذا اليوم الربيعي.
عبد الكبير


ملحوظة: سأسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية يوم 23 من هذا الشهر. ربما سأخبرك من هناك. بلسان عبر أطلسي.



*********


  • صديقتي،
أنا هنا في هذه المدينة، حيث أقضي بضعة أيام من عطلة مجدة، بعد ندوة منظمة ب: Princeton University حول «المجتمع المدني بالمغرب». فأثناء هذه الندوة الجادة والزاخرة، بأسئلة مقلقة، حول الجزائر والمغرب العربي، صادفت مواطنين لي، لكن أيضا، زملاء مثقفين آخرين من تونس، والجزائر أو يعيشون بفرنسا. كانت الجزائر في صلب النقاش الدائر. لم تخرج الأسئلة عن: العلاقة بين الدولة والمجتمع؟ الإسلاموية؟ مصير المغرب العربي؟ وقريبا…
رغم أن هذا النوع من اللقاءات، تطبعه المونولوجات أكثر من الحوارات، والنقاشات المفتوحة، أحسست بما يشبه مطلبا ملحا للتفكير، وضرورة لمحاولة الرؤية الواضحة للفاجعة الجزائرية. نحن نعرف أن الدولة هناك أكثر إشكالية، وأن مشروعيتها تراجعت منذ توقف المسار الانتخابي في السابع عشر من يناير 1992، لكن كيف ينبغي للعنف أن يصبح وسيلة للتعبير السياسي، والنزوع، نحن نتعلمه تدريجيا دون التحكم في مدى هذا العنف. من المؤكد، أنه يأتي من بعيد: طمس الهوية، السخط، طمس الهوية يمتد إلى قلب الجزائر، وشبابها، تطويق أو محو لمعالم هويتها سواء الاجتماعية أو الثقافية، التي عززها الاستعمار (الاستيطان محل طبقة الفلاحين، التحديث الصناعي عوض البنيات التقليدية…)، أجل، نحن على علم بهذا، غير أن الانتقال إلى الغضب الدموي، ليس من الصعب تفسيره. هو في ذات الوقت مأزق ومنفذ نحو وضعية جديدة، نطمح إليها جميعا. قدم المثقفون الجزائريون الحاضرون، في هذه الندوة، الدليل على روح الاستبصار والفطنة، وعلى الشجاعة، وبعد النظر، وهي خصال تشرفهم. يستهويني هذا الطلب الملحاح للتفكير في خضم العاصفة، والألم. سيطول الحديث في ذلك، غير أني أستطيع أن أقول لك هذا، فما من أحد ضيع وقتا، عند الاستماع إلى هذا اكلام، الذي هو وعد وعهد. تحالف مع إنسانيتنا الأشد عمقا. لا خيبة أمل، ولا يأس، فقط قوة الحياة وقد هيئت للفكر والتحمل والاصطبار. الدليل هنا نموذجي. بعيدا عن الفاجعة، فثمة استمرارية الإنسانيl’humain وثبوته. نحن -المغاربة- تحاورنا مع زملائنا باحترام متبادل، بل واستمعنا سويا إلى طرب الملحون، خلال عشاء حفل الاختتام.
الربيع هنا وضاح. والأشجار مزهرة أو متساقطة أوراقها حثيثا، سرعة الزمن الأمريكي، زمن تقني، محترف، يستهلك حسب العرض والطلب. إنه عالم من الفعالية وشدة البأس، لكن له منطق عنيد صعب المراس.
أنفقت وقتا، وقتا آخر، مع موسيقيين في الجاز، مع الخماسي «ج.ج. جونسون» J.J. Johnson، العازف على الآلة الموسيقية المترددة Tromboniste و الرباعي «جوني غريفان» Jhonny Griffin، العازف على آلة النفخ الموسيقية Le saxophone.
موسيقى الجاز الحديثة، ممهورة بومضات على طريقة «كولتران» La Coltrane، وهي الموسيقى المفضلة لدي، في هذا النمط الموسيقي.
لكن، لعلني مضطر لأقول لك، إنني التقيت بصديقي، في فترة المراهقة، حسن بهلولي، موظف عالمي سام. استضافنا وزوجته وبضعة أصدقاء، للاحتفال بعيد ميلادي بمناسبة عيد الأضحى، لتناول الغذاء، بمطعم في مقر الأمم المتحدة. هناك، على مرتفع من المدينة. ليس برج بابل، لكنه يطل على أفق نيويورك. حفل رمزي، برمزية عالية. قلت لنفسي: مدينة مقدسة! وبهذا أحييك، قبل عودتي إلى المغرب، عبر باريس. لك مودتي
عبد الكبير
نيويورك، في ماي 96




*****


  • الرباط، في 28 ماي
الصيف، غيثة، لم يأتنا متسللا، بعد زخات قوية من الأمطار، كما يمكن أن نتصور أو نتمنى. لكن بالقوة. وميض. عرق. ريح تصيبك بالدوار، تعلن حلول «العطلة». فالناس خلال فترة العطلة، وكأنهم متروكون في الطبيعة، يرتجون حول مركز الثقل centre de gravité -اليومي- هو نفسه لا مستقر له، في ترحال. لعل نهارا سيطلع إذا، أكثر إشعاعا لهواة الوقت الثالث.
أجل، أمر متفق عليه تماما. طبعي أن ننسى بداية مراسلة ما، في غضون ذلك.
أن نعيش كل خفتنا وتيهنا داخل التفصيل. إننا نجازف بنسيان «التحاب» L’aimance، بيد أنه لا ينسانا. يتابع طريقه، وهو يقوم بذلك دائما، من أجل منفذنا وخلاصنا. يؤطرنا في نظام لكن ما هو؟ أفتتح القول، بأنه تآلف واتلاف نشيطان مع الآخرين. نشيطان، بتجاوز الهوى أو من خلاله. أليس من الأولى أن نحب، أكثر من أن نكون محبوبين (محبوبات)؟ لا ينفي التحاب الهوى أو ينكره، وإنما يحتضنه، ويتبلور فيه، في انتظار، فكرا مضيافا. فهذا هنا، على الأقل وعد. يتعلق الأمر دائما، حتى النهاية، بإبداع الحياة من جديد؛ لأنه، بغرابة، وهذا شيئ يسعد، فجسدنا الذي هو قارتنا «الأجنبية»، غرائبيتنا الكبيرة exotisme. هو بلدنا، وبلدنا الخلفي. الفضاء المتداخل intercalaire هو الأغنية اليومية التي نردد لازمتها.
لازمة الهوى (أحبني دون تحفظ) تتطلب مطلقا ما. ويتعرف الجسد، ولا يتعرف على ما يقوله له الغير، ويسر له به، إلا فيما عارضه فيه هذا الغير كمقاومة. ألا يكون الهوى تنويما لا خلاص منه للنظرregard، وكل حواسنا؟ استهوتني دائما هذه العبارة (الفرنسية): لمس النظرtoucher du regard. هنا الحد والتخم حيث السريرة intériorité تغذي خباياها، وتزود ثناياها، وتطعم محابسها.
تلاحظين جيدا، أن الصيف تحول بسرعة إلى حكاية هوى، والكتابة، هي تلذذ واستمتاع، ونحن مسموعون عن بعد. أنت لست قارئة عادية ما دمت تكتبين، تمارسين الكتابة، والتحاب يجدل لك الكلمات. من هنا، لنا جميعا، جاذبية الرفعة والعظمة، والتمائم fétiches التي هي بمثابة علامة ودليل لهوانا وشغفنا بإبداع القارئ وصناعته، بمعنى التخلص من أذانا غير المألوف: القول في الكلمة، بناء الحياة، وشذريتها، وحبكتها، وتدفقها. فعلى شكل عناقيد: التحاب، والصداقة، والمودة الفعالة، والرغبة الملحة، والراضية، التي تكرر «نعم» إرتضاء فقط، حتى لا تكون هذه الحركة، التي تستوجب فكرها، ضد جاهزيتنا، وثقتنا. ألا ترين، فأنا متفائل بشكل يصيبني بالدوار. هل بالإمكان التفكير في هذه الحالة، حيث نكون في قبضة رغباتنا، قوتنا الجوهرية! الحب الأول، الصداقة الأولى، المودة في نمو، هذا كله موضوع للتأمل. الرواية، والحكاية، وكل الأشكال السردية، تجد فيه ما تتغذى عليه. أعتقد أن ما من أحد إلا ويكتب في كل يوم، رواية مختلفة، أو على الأقل يحكيها.
من المؤكد أنني أصف عالما عجيبا، قابلا للحلم؛ لأن المطلع هو في صميم التحاب. فهناك نحن أنفسنا، نحن/ الآخرون، الغير، المتوحش، المفاجئ، غير العاقل، المنبوذ، خوفنا، ضعفنا. فثمة ما يشعل حربا. ينبغي على الفكر الاحتراب. يذكرنا «كزينوفان» أحد الطيبين القدماء: « «من خصال الرجل الحكيم الاستفادة من أعدائه». هل هي حكمة؟ أم استراتيجية؟ أم تحكم في الذات العنيدة؟ واضح أن الحكمة متقدمة بالنسبة للهوى، غير أنها تؤدي الثمن. هل يوجد هوى متعقل رصين، ومقياس وميزان للرغبة؟
لعل التحاب هنا، يضطرب ويحتال على حدوده، إنه رهان، رهان جميل، هذا كل شيء، عن هذا المسلمة البسيطة: أن تكون محبا أولى من أن تكون محبوبا. مسلمة، والحق يقال، تقلب لازمة الأغنية. سيتغير كل شيء إذا عجزنا عن إنشاد دوارنا، ومشجاتنا mélodrame، ودموعنا، وصرخاتنا البيضاء أو الزاخرة بالألوان ،لذكريات مرصعة بالنجوم. حقيقة مجنونة تحمل التحاب وتتحمله. فليكن ذلك.
أحييك.
عبد الكبير


********


  • صديقتي،
أنت محقة، حبن تقولين إن خطي غير مقروء. إننا إذا بالغنا في استعمال الآلةـ فإن كل تواصل، شفوي أو مكتوب، ربما سيكون فيه من المونولوج أكثر من الحوار. هكذا كان خطي منذ زمن بعيد. أتذكر، في المدرسة الابتدائية، أعيد إلى المعلمة ممسحة حقيقية، صفحة مخترقة بالسهام، لكن دون خطأ يذكر. لهذا -مثل الجميع- يستهويني ما أفتقده: الخط الجميل، الرسم الممتاز. مخطوطاتي معدة للناسخين. استفدت كثيرا، من صحبة الخطاطين، وخاصة، صديقي عبد السلام بنكندوز، وكنت طلبت منه أعمالا مختلفة: رسم، غلاف، شجرات جينيالوجية، دراسات لأسماء الأعلام، حروف أحادية monogramme لهذا أو لتلك إهداء وعربون صداقة ومودة. بعض الكتابات التخطيطية monogrammesتشكل لوحة.
تعلمت من فن الخط، الوحدة الضرورية بين الشكل والمحتوى. قال القدماء: الخط هو «هندسة للروح بإيقاع الجسد». استوعب «جاك لاكان»، بدوائره، طوبوغرافية هذا التلفظ.
تعلمت أشياء أخرى حول العلامة، التوافق بين الأثر trace والشكل. في يوم ما، لكن متى؟ أود أن أشتغل بمعية خبير صيني أو ياباني حول المقارنة بين « حضارة العلامة». يا لقدرتي على الثرثرة في فن الخط! لكن لنعد إلى رسالتك الأخيرة. نبلغ أم لا نبلغ: بعض الإحراج هو في صلب الحوار. أكثر من المكتوب l’écrit، التواصل عبر المكتوب يقتطعه الصمت وقواه، بشكل رهيب. الأسلوب المعيار، يأخذ إيقاعا، ينزرع في جسد اللغة. يوحد «الصوت والمعنى»، يستقبل تآلفهما وقع الصمت وصداه، داخل كل كلمة، وكل وحدة صوتية phonème. نحن نتواصل بشذرات، ببقايا، بأطراف الحقيقة. لكن سأعود إلى العبارة المشهورة لـ»كزينوفان»، المقصود بالعدو، العدو الواقعي. محاربته بنفس الأسلحة. بأية استراتيجية نتخلص من الأشخاص الحساد، المدمرين، الذين يسعون إلى إهانتك- إشباعا لرغبة خاصة بهم؟ هذا شيء عام، حب الكراهية هذا. التحاب هو فكر حساس لقوة الحياة، والعناية بها. لا يثبت الحميمية أو يلغيها، لكنه يضعها عن بعد. هذا الوضع عن بعد، هو عمل من التبين والمرونة. أليس هنا، غيثة، مبدأ حسن، قاعدة إثيقية éthique!
تحية حارة


******


  • صديقتي العزيزة،
أتيت على إنهاء دراستي حول «الفن العربي المعاصر» وسأعود إلى رسالتك الأخيرة. أقرأها مرة أخرى، ومن الواضح أن كل إعادة قراءة، تمنح القارئ انفعالا يحس به، ويعيشه، ويخترقه، في لحظة من حساسيته، نهارا أو ليلا.
كتبت: «أنت متذوق فني -esthète للأسف! – غير معلن». هذا القول مسني. أتردين القول إنك فنان الحياة غير معلن بعد؟ أو، بدل كلمة «فنان» تفكر وأنت «متذوق فني»؟ صحيح أن كلمة «فن» تستعمل خطأ وفي غير موضعها. من الأفضل توصيف الفن الذي نتحدث عنه، يشتمل على حرفة، على تقنية. تكلم العرب القدامى عن الصناعة techné، المهارة، الدراية، الحذق والبراعة. أقصد بال»فن» في معناه العام، إضفاء شكل تقني منبث في الانفعال، والحساسية، وارتجاجات الجسد. قال «فاليري» في مكان ما إن الغاية من الفنون، كل الفنون تعليمنا فن العيش. هنا يتموقع المتذوق الفني، وأسلوبه، وطرائقه، وسينوغرافيته، sa scénographie. يعيش كثير من الفنانين تعساء، منعزلين، مع إحساس كبير بالتجاهل وسوء التقدير. المتذوق الفني يحول، يخضع للإيقاع، يروج لنوع من العلاقة بين الواقع والمتخيل، والفكر والجسد. أن تكون متذوقا فنيا هو أيضا، طريقة لأخذ المسافة إزاء الغير، والابتعاد عنه بسلاسة، وربما وضعه في مشهد داخل عالم العلاقات.
فيما يتعلق بالتحليل النفسي، اسمحي لي أن أطرح عليك سؤالا: أنت مسلمة النشأة، امرأة وكاتبة، وطبيبة، وعالمة النفس، ومعالجة نفسية، ومحللة نفسية، وقارئة شغوفة في الحقيقة، وكأن كتابا مفقودا أبدعك، كيف يثري التحليل النفسي فكرك؟ كيف تتعاملين مع مفاهيمه، وشبكاته في التفسير، ومناهجه في الاستماع، والكلام، والصمت؟ سؤال شاسع، أقر يهذا، ولعل الوقت لا يكفي لذلك. على أي، قولي لي أو لا تقولي، كما سمعت هذا.
حسنا، أجل! كلمة «إيثيقا»؟ إنها الأخلاق العلمانية، وهي أيضا كلمة من أصل إغريقي. لا علم لي بتاريخ هذه المفردة، غير أنني أزعم أن رجال الدين حينما يستعملون كلمة «أخلاق»، فغيرهم يوظفون الكلمة الأخرى، إظهارا للاختلاف. كم هي رسالتي جادة، إذ الصيف يصيب الكتاب بالدوار! أكون في عطلة، في كل مرة، أشعر فيها بكسل نشيط: «إننا لا نسبح في النهر مرتين». فهو يجري، وينساب نحو مكان آخر وضفاف أخرى. لتجدك هذه الرسالة، باستعارتها المائية، وأنت في أحسن حال !
عبد الكبير


****

  • غيثة،
رحبت برسالتك الهاتفية. وأنا نفسي أودع فصل الصيف واصطخابه، اطمأننت على صحة ابنتك.
جاءت رسالتك أكثر منها صرخة أو قذف، لكنها دعاء مقلوب، مثلما نتحدث عن قفاز مقلوب. وهذا الانقلاب من شأنه مضاعفة الالتفاتة إلى الآخرين. لا يأس، ولا ضيق، لكنه الاعتقاد المفكر داخل الحياة.
فكرت خلال هذه الأيام، وقد كانت معطاءة بالأفكار، والمخططات الأولية، فيما لا يمكن تحويله في الإنسانيL’humain، حينما حدثتني، وأنت محقة في ذلك، عن اللاإنساني وعن الموت. يمكن استيلاب الجسد الإنسان وفكره وروحه، ولكل الحضارات طريقتها ووسائلها في الترويض. لكن الحضارات، كما نقول، هي بائدة، وأن آثارها بالنسبة لنا، هي مجرد مخلفات من الماضي. لعل ما يتعذر استيلابه في الإنساني هو السر اللغوي. وهو ما يجمعنا منذ بدايات هذه المراسلة، عبر مناجاتنا، وحواراتنا، ومناقشاتنا. تحضرني عبارة ل»بيكيت» يقول فيها: «الصمت لغتنا الأم». عبارة عبثية، بقدر ما هي مكتنزة بالأصداء. من الصعوبة والاستحالة بمكان التفكير فيها (ربما، ربما…) أترك المجال مفتوحا، أمام هذه العبارة المدهشة، وأعرج بسرعة على التحاب، هذه الكلمة المفتاحية التي أحس فيها بسحر مشع في كل مرة، تستيقظ الرغبة في دواخلي. تليين الجو، وتلطيفه، وتطويع الزمن، واحتضانة للحياة تكفي لرفع معاناة، وحل مشكل للتو. لا أحد تقريبا، صار يتكلم عن الجمال، ورقة الوجود، ورغد العيش. السرعة تستحوذ على العقل، تجزه إلى قطع، وشذرات رحالة. كيف تشابه الأشياء في ذاتها، وتماثل الغير في ذاته عينها؟ بأخذ الوقت الكافي- ضرورة ملحة اليوم-. أنا لا أشعر بالحنين الخالص، ولا أعشق الأشياء المتقادمة، ومخلفات الماضي، لكنني حريص، بمعية آخرين، على إبداع نوع من فن العيش المشترك.
سأطرح هذا قريبا -بطريقة احتفالية- بالرباط خلال جلسات الندوة الدولية للفلسفة والتسامح. بودي أن أبعث لك يوما، النص الذي سأقرأه. شيء آخر، لقد صدر كتاب «الحضارة المغربية». ولم أحصل بعد على نسخة منه، وهو في حوزة السجلماسي، بالدارالبيضاء. وهو راض جدا عن العمل. ماذا تفعلين؟ هل تشتغلين؟ هل تكتبين قليلا؟ أسئلة أطرحها هكذا، ليس بغرض إنهاء رسالتي، لكن قصد تخفيف التوتر الداخلي: قلب الرسالة.
أصاحبك بمودة.
عبد الكبير
الرباط، في 7 أكتوبر 1996


****

  • ستراسبورغ، في 4 نونبر
غيثة،
غرفتي في الفندق تطل على ساحة الكاتدرائية، على الكاتدرائية ذاتها. أوقات جميلة غير متوقعة، الشمس، والضياء الغامر يبدو وكأنه يقطع هذه المدينة، إلى أطراف مضيئة ناصعة جدا. يخيل إلينا أنها مدينة على طريقة «تشريكو» à la Chirico، لكن دون أشباح. مدينة متوازنة، لا تعرف صراخا، أو جلبة، سوى ما تتطلبه حركة المشي، دون عرقلة لخطوات التجوال. ويا لنظافتها! لا أدري إذا كان عقل سكانها نظيفا أيضا، إنه ناطق إيكولوجيا، لكنني أتصور أن الانضباطية الألمانية والإيثيقا الدينية تسوغ ذلك، بإحلال النظام داخل هذه المدينة، التي تتبدى لي مثل بطاقة بريدية، معلقة على جدران الماضي.
بالمناسبة، خلال رحلتي إلى تولوز نفسها، لقاء مع «سيرج باي» Serge Pey، الشاعر المحلي، أحد مريدي الكاثارية Les cathares متعلق بالشعر العفيف، ويشده الحنين إلى ماضيه. التقط بسرعة علامة التحاب، وهو مستعد أيضا، يقول، لتنظيم لقاء حول الموضوع، على الجبل، في نهاية القرن. فهذه ليست المرة الأولى، التي يقوم فيها بتنظيم تظاهرة كبيرة، يستدعي فيها شعراء قادمين من بلدان متعددة.
عاودت زيارة «ألبي» ALBI، وكاتدرائيتها المحلقة وهي مرتفعة نحو السماء، وكأنها تطاول الجبال المجاورة. ساهمت في بنائها أجيال مختلفة من الحرفيين.
لكن لنترك جانبا الحنين إلى الماضي، ولنعد بعض الوقت إلى الشرقاوي، في أول معرض استعادي منذ وفاته، وقد مر على ذلك ثلاثون سنة. هذا المنجز لم تلحقه الشيخوخة. بقي محافظا على قوته وعنفوانه، جمال جاذبيته وسحره. لمس النظر Toucher du regard إلى هذه الألوان، وهذه التوليفات البسيطة في آن، والمنغلقة على ذاتها في آن آخر، تعطي الانطباع بالاقتراب من سر خفي في طلسم. وقد كتبت بالمناسبة، نصا جديدا حول هذه الرؤيا. إنه لأمر مطمئن: منجز لا نلمس فيه أعراض الشيخوخة نحن-المعاصرين-، ويظل محافظا على مصداقيته «عبر الزمن»، ينتمي إلى معيار آخر للإنساني. فبالمناسبة، كنت مدعوا ذات يوم إلى مسقط رأس الشرقاوي: بجعد. استدعيت كي أتكلم عنه، أمام جمهور مجهول السحنات، ثم زيارة قبره وقد أعيد ترميمه «بهذه المناسبة».
لا شك أنك توصلت بكتابنا المشترك «الحضارة المغربية». ما رايك فيه؟ حرصت على العنوان، لأنه يحافظ على المفردة المفتاحية «ثقافة» في بعدها المحلي والجهوي. المغرب هو قطب حضاري، مؤسس على تاريخ عريق جدا، في ملتقى عدة صيغ من التجاذبات بين الجهات الأربع، وبحرين كذلك. من هنا تأتي هذه الرغبة في الاستقلالية، لكنهناك أيضا، حذر إزاء بلدان الجوار. كما تعرفين، أحب بلادي على نحو نقدي. ففي هذا كذلك أحد معاني كلمة «تحاب» وهو مطبق على أرضها، وأراضيها بالقدر نفسه.
طبعا، سأبعث لك بمداخلتي «السياسة والتسامح». مسألة خطيرة، وأكثر جدية، مكتنزة بالإحراجات، سؤال الغيرية في مواجهة حدود العقل؛ لأننا في النهاية نتسامح مع الغير، ما دمنا نحترم أنفسنا، بحجة التحمل، وكرامة تكون عفيفة. لا نقدر على قبول أي من ماذا وكيف. فثمة أسلوب حياة، يجازف بقانون التقاسم. مشكلة لا حدود لها، لم أقم سوى بإنجازها، في مداخلتي بيقظة. هذا على الأقل ما أعتقده. سيأتي أصدقاء لي، ليأخذوني في جولة عبر المدينة. أحب «جورج» كثيرا؛ لأنه حول تلعتمه الخفيف إلى شيئين إيجابين: لقد صار متخصصا في الزلازل، بوصفه عالما بفيزياء الأرض وهاويا (هاو جيد)، وهو اليوم أيضا موسيقي في الجاز، عازف على آلة الساكسفون un saxo. هذا اشتغال جميل على الذات. أتركك الآن. وإلى اللقاء.
بكل المودة
عبد الكبير


****

  • غيثة،
عملي في الجامعة، يأخذ من وقتي، أكثر مما كنت أظن. صراع يومي لربح وقت خاص بي. وقت نفيس، حيث أتأمل في عزلة مجدية. أنا رجل عزلة، نصف عزلة (جسد، عقل، نفس!) بقانون غريب، للتقاسم مع الجماعة، التي يعيش فيها. قانون للتماسف mise à distance، يتيح له أن يكون في وضع الملاحظ الحالم، لحياته الخاصة مع الأغيار. هذا الإحساس قادم من بعيد، من غير شك، من مكان مميز، لعشاق الصمت. التراسل، تراسلنا، بالتأكيد، يبتعد عن القوى الجذابة للصمت، ليعيش انطلاقا من طاقته الخاصة. أتخيل أن التراسل، في لحظة معينة، (لكن متى؟) اكتسب استقلالية، بالنظر إلى المراسلين نفسيهما. إنها لظاهرة غريبة، تلك الكتابة إلى الغير باتفاق للغياب. اتفاق خفي، ورسائله التي هي مفاتيح مرقمة، تستبقي فيه أثرا، وذكرى إيقاع.
حدثتني عن عملك، عن تشعب في اختيار المهنة. لا أجد مفارقة في الأمر: بإمكان المرء أن يكون طبيبا وكاتبا. خاصة في مهنتك وهي آلة للسرود. فمما يبهج، أن تعثري في الكتابة على تصالح مع ازدواجيتك. أنا-نفسي، وأيضا، بين الأدب والسوسيولوجيا، لم أعمل سوى على غربلة تدفق رغباتي، من خلال اللغة وتشكلها. المهم، هو القدرة على الكتابة عبر الصمت.
كيف ترين الممارسة الطبية، بالنظر إلى الاختلاف بين الجنسين؟ هل تلاحظين شيئا من اللاتماثل في السلوك؟ وربما تلقيا إلى حد ما، خاصا لمرض الأخر وجسده؟ أنا مشغول البال، مشغول البال من قبل، بجوابك (المحتمل) ؛ لأنه، من جانبي، أحسست أن صورة الأمومة، هاجس وتحمل، يستمر في تعقب الإنسان، موضوع العلاجات الطبية، من طرف امرأة طبيبة؟ ما رأيك؟ لماذا تفضل بعض النساء أن يعالجهن أطباء من الرجال؟ أعرف جيدا طلب التحويل. لكن ماذا أيضا؟
بباريس، في نهاية هذه السنة، رأينا «بورجي وبس» Porgy and Bess، عرض أوبرالي، يتقن الأمريكيون إخراجه. تكون لدينا الانطباع بأن الأمريكيين يعوذون من شياطينهم، بالتسلية، والنزق المفرط في المراهقة، لكنني، أعشق عروض الرقص بالأحذية، وأوبرا الجاز، ورقصات باليه «برودواي» Broadway. هذا الحفل بالنسبة لي، انتهى به عام 96. إنه ألعاب نارية، الوقت الذي يمر، ويدور. في هذه اللحظة، أفكر في خطو، من رقص خفي، يرسم تموجا خفيفا sillage متوهجا في الليل.
أحييك.
مع مودتي
عبد الكبير.
الرباط، في 3 فبراير 1997


****

  • غيثة،
لا أتذكر اسم الكاتب (لعله جان جينيه) الذي كتب: ليس لنا أمام الموت، سوى الصمت أو الكلام البليغ. ومع ذلك ينبغي التمسك بسلطان الصمت وسطوته لأحدثك، وأقول لك من جديد، على استحياء، أن انفعالا خفيا يستوقفني، أمام كلمةmot «موت» mort (لاحظي، أن هاتين الكلمتين متجاورتان صوتيا عند الكلام).
روح طفلتك، هذا الكائن الجذاب، منثورة الآن، في رسالتك الأخيرة. التي لم تحس بحضور الموت وهي تطوف في كل مكان، طاردة الحياة مبعدة لها، من كل أفق. كم من الآلهة المذهلة، ينبغي التضرع، حتى نكون في سلم مع موتنا؟ كأن هناك تكافؤا وتساويا، بين رغبتنا في الحياة، والرغبة في الموت. الحياة ذاتها تقول: مت! وعند كل اختفاء لشخص حميم، نعود إلى سطح الحياة، متحولين متقمصين. ويستهويني الاعتقاد، أن تكون طفلتك قد تقمصت قوتك، وحلت بحضورك، وصبرك الجميل. العيش، أجل بمجاوزة نهاية العالم. لعلك تتذكرين زلزال أكادير. شاعر من السويد «أرثير ليندكفيست» Arthur Lundkvist، كان أقام هو وزوجته، بفندق بهذه المدينة، غير أنهما نجوا من الكارثة. وبعد أكثر من ثلاثين سنة، نظمت بأكادير، ندوة في موضوع القصيدة المشهورة لهذا الشاعر حول الفاجعة.
شاركت في إحياء هذه الذكرى. عكفت على العمل متأنيا، وأنا أفكر فيك وابنتك. هذا إهداء، سعيت إلى أن أخص به القول الاسكندنافي. خطوة في ما وراء نهاية العالم، ذلك هو حافزي على التحليل. وبكل تأكيد، فإن الموتى يعودون في صور، وشذرات من حلم، يصونها ابتهال بقايا قديس. وبالتالي فكل أثر، يذكرنا بنظام قانون غريب. قانون المفقودين. هو دون شك، الأكثر قوة، فهو التراث عينه، ومشروعيته في قلب حاضرنا. فدائما يوقع الموت توقفا: للقلب، والنفس، روحي أكثر منه بيولوجي؛ لهذا السبب كان الشعراء القدامى، دائما مرهفي الحس، للعائدين والأشباح والنفوس التائهة. هنا يحصل التباس بين الموت والحياة، وحينما نكون في الدرك الأسفل من حبنا. لاحظي كذلك، أن فعل الكتابة يعود أيضا إلى إخراج كل ما اختفى قي تعدده، يتفادى، يتوسل، يشقي، يؤلم، يبكي في صمتنا. هؤلاء الذين أو اللواتي استقبلهم الموت، لن يكون لهم أبدا موعد مع سره المكنون. يتمثل لي الموت في أخلاقه المتكسرة، حيث الفقيد ملقى، من أجل تعاستنا. يحصل لي أن أدعو داخليا، حتى أتمزق في قوى الصمت، تحولت إلى صوفي، الروح في تناسخ، خيل إلى أنني أعطي الموت. وفي كل مرة، أعود بروح الأرض بنفس الصفاء، الكئيب والمنبهر، وفي نفس الحرية؛ لربح اختفائي. يا لها من استراتيجية! يا إلهي! أية حيلة من الحياة، ينبغي اللجوء إليها للوصول إلى هنا؟ لكن هذا اللامفكر فيه، يبقى وسيبقى بالنسبة لنا نحن أفقيي Horizontains الحياة والموت، سيبقى سرا، رسالة مفتوحة نحو العدم. لكن العدم لا يعني الشيء. يعبر الحياة، يجمع زمرة الموتى والأحياء داخل الخلود، أي نهاية فكرنا، نهاية الفكر.
سبق لي أن قلت لك، إنني فقدت أبي، وأنا ما زلت طفلا، وأختي عند مراهقتي. وكثيرا من الأحياء اختفوا عن رؤيتي، بحسب الصدف، دون أن أنتبه إلى خلودهم وسط الغرق.
وأنا أكتب هذه الكلمات، نادى المؤذن للصلاة. توقفت صليت في داخلي بصمت، دخلت في زمن ينبغي فيه الارتقاء من كلام إلى كلام منسي. بهذا أحييك وأفكر فيك.
عبد الكبير
الرباط، في 15 مارس 1997



***************

غيثة،
شفيت من بدايات نزلة برد، بفضل طبيبي، الذي حد من تداعياتها. أحسني فارغا، يسحبني النوم. وهو ما يفسر هذا التأخير في الجواب. لا أعرف السبب، لكنني أفكر كثيرا في «الجنون المعتاد للغات»؛ لأن ثمة لغات أخرى استثنائية، خارج المألوف، ولعلها صعبة المراس. أما أنا فأنقل هذا التعبير إلى تأملك، وأرفعه إليه.
بالتأكيد، هذا ليس مجرد مصادفة. دعيت لإدارة ندوة بباريس، خلال شعر فبراير المقبل. اخترت لها موضوعا: «سياسات اللغة الأم». تستهويني دراسة الطاقات الكامنة في اللغة الأم، يكون فيه المرء مضيافا أو كابحا معطلا على حد سواء، هنا حيث الحد يبعث على الهذيان، ويصيب بالذعر.. قصة للمتابعة، ولعلها مبتذلة. داخل عملك في الطب النفسي، سيكون قوتا يوميا.
وفي ذات الوقت، تتواصل مشاريعنا. فخلال أسبوعين، سيفتتح مهرجان الرباط (ومع هذا المهرجان، اقتراع منتخبي الجماعات). المهرجان ينظمه المجلس الجماعي. شرعت في مشروع قديم راودتني فكرته، منذ سنوات بعيدة. دراية بعمل خطاطين عرب، وصينيين ويابانيين، داخل نفس الفضاء، في معرض تتحاور فيه حضارات العلامة les civilisations du signe. وهو مشروع قيد الإنجاز. وسيقام المعرض بباب الرواح (سأرسل لك دعوة للحضور). ثلاثة أجنحة، يخصص كل جناح منها لكل تراث للعلامة. يعرض الفنانون أعمالهم؛ وسنشاهدهم يشتغلون على أرضية parquet بأدواتهم ودعاماتهم الخاصة. أنتظر هذا المعرض بفرح كبير. إنه حدث ثقافي صغير بالرباط، وأنا فخور به. وستعقبه مائدة مستديرة حول الموضوع.
لتعرفي أن صديقي السجلماسي، سيصدر له كتاب عن الفوتوغرافيا بالمغرب (ما بين 1990 و1950)، صور فوتوغرافية ل»فلاندران» Flandrinوآخرين. من أجل هذا الكتاب كتبت نصا بعنوان: «توقف عند صور» Arrêt sur images. واشتغلت بهذه الطريقة: كنت أكتب مباشرة، بإحساس متداخل، عن كل صورة أو كل سلسلة من الصور. كتابة حثيثة، تستلهم ما يلتقطه بصري الحسير. فمن قصر النظر تولد هذا الابتهاج للأشياء الماضية. هذه الصور الفوتوغرافية حول المغرب، هي إلى حد ما، غرائبية. فهي تنتمي إلى الاستشراق الفوتوغرافي، الذي مازال منتشرا، حتى في مجلات الموضة.
يحل الصيف في ظل مناخ متقلب. الانتقال من الجو الحار، إلى البارد، عودني على التكيف مع المناخ المحيطي océanique. أنوي المكوث في المغرب، اشتغالا على مشروع تلفزيوني للقناة الثانية 2M وآرتيArte. سأحدثك لاحقا عن هذا. أما الآن فأحييك.
مع مودتي
عبد
الكبير
أنا
الرباط، في 30 ماي 1997


***

صديقتي،
إنه لامرؤ مفرط في سعادته، ذلك الذي، بين التأمل والفعل، يحظى بتوازن متطاير. أقول هذا، لأرسل لك أولى كلماتي، التي كتبتها في أحد التأملات. أبحث منذ فترة، عن تصالح أفضل مع ذاتي. ولعل هذا الشعور، هو ما يسمح لكل واحد ببناء ذاته، تبعا لإيقاع الحياة. غير أن هذا البناء الذاتي auto-édification ليس، في ذهني، استلقاء أو إرضاء أو تلطفا، إزاء الذات أو أي تلكؤ. هو توقف في حركة، كنوتة موسيقية تبحث عن تفعيل لحن معلق، ونبرة مضبوطة.
«هسيونغ بينغ-مينغ» Hsiung Ping-Ming-اسم الأديب والخطاط الصيني- هو ببساطة كائن رائع. ينصت ويحاور بقوة ناعمة وحصيفة… أجل إنه بحث عن الدقة والإحكام. على هامش عمله (أهداني رسما مخطوطا، وكتابا بعنوان «اليد» La main)، تبادلنا أطراف الحديث طويلا. تأثرت بهذه الثقة(المتبادلة) التي قادتنا نحو الأساسيات: الفن، والحياة، واليومي، في مفارقاتها وإشكالاتها. كيف يعيش المرء وفيا لنضجه الطويل؟ ومع ذلك، فليس ثمة سر. فعلينا أن نكون جاهزين للزمن، والصمت، كل ذلك مع تلقي العلامات والأصوات، التي تختلج في دواخلنا، وفي طيات كينونتنا. لكن هذ الجاهزية، لن تكون مثمرة إلا إذا كنا من قبل، في مكان ما مستقرين في أمكنة رغبتها. الذين كانوا في الصدارة من نزوعهم إلى الفعالية والنشاط، هم أشد ما يركنون إلى مجازفات الحياة، ونزوات الآخرين والمجتمع، استطاعة للتواجد في هذا المجال المحظوظ، والمخصص لعشاق الصمت، والحوار الحساس le dialogue sensible. تولد القصيدة، ينهض الفكر، بنفس الخطو في الرقص. صحيح أنه كلما انتابنا هذا الإحساس بالانبثاق، حصل عندنا انطباع شديد البراءة، لإبداع العالم، عالم ما.
هذه الدفعة للحياة، هذه الموجة المتكسرة على الضفاف، لعل هذا ما يجمع الناس في حركات الطبيعة. من المؤكد، أننا لا نستيقظ مع طلوع الشمس (باستثناء العصافير والفلاحين القدامى)، لا نخلد إلى النوم كل مساء، تحت ضوء القمر. إنه لشيء أية في الجمال، أن نكون عنصرا متحولا عن الطبيعة! نعيش في زمن الضوء، ننزلق على فرش من الظل، ونسبح مع الأمواج وضدها، لكن في كل مرة، نشوة الانتماء، إلى عالم مضياف، تعيدنا إلى ذواتنا، على سطح الأرض. هذه مسرتي، لأكتب إليك، هذا أو ذاك، بتلاعب بالكلمات والصور. إنه الصيف، فلنستمتع به!
مع مودتي.

***



صديقتي،
عندما تكاد تقترب نهاية السنة، فنحن نلج الفكر الحالم للزمن. أتوقف، نتوقف مرارا عند هذا المنعطف، هذا العبور، هذا الحد الفاصل، حيث يلزم أن نقول وداعا. لكن ما الذي نوعه؟ إنها اللحظة التي تتحول فيها هشاشة الكائن، -حنيننا- إلى حفل. أحب الطقوس الاعتيادية للاحتفال. من المؤكد أنها تجمع، وتنشط روح الجماعة. ونحن في أمس الحاجة، إلى أن نكون مغمورين، بصداقة القريبين والبعيدين، وحبهم.
أحب أيضا كلمة «الأفقي» Horizontain، فهي تحيل على اجتراح في المجهول. وإذ نسمي المجهول، فإننا نخاطر بثرثرة، وإبحار في الكآبة الثاوية فينا. لكن، ومثل الكثيرين، أبحث داخل التسمية، عن نوع من العلاقة، بما هو غير قابل للإتلاف indestructibleفي الإنساني. أسألك: ما هو هذا الشيء العصي عن الائتلاف؟ نحن نكتب رسائل، وجميل أن نستمر فيها، بكل حرية: هذه الرسائل هي أصلا علامات تعود عودة، وتنسج رابطة من التواد بيننا. تبني صورة للحياة، من حيث، هي ذاتها، إيقاع وترنيمmodulatio. تذكري كلمة «تحاب». هذه الكلمة تستهدف هذه الرابطة، وهذا التحالف مع المتقدم من الوقت، في أجسادنا، الأكثر حساسية.
إنه لأمر مثير للإعجاب، ما تحكينه عن مغامراتك، في منحدر أحد الأهرامات، أو في مناجم جنوب إفريقيا! «في بطن الأرض» كما تقولين. أتذكر أسطورة لهذا العصر الفرعوني: الميت الذي يرسل مضاعفا يعيش مكانه، على الأرض، بينما هو يبحر على متن قارب الأبدية. انطباع رائع لمحو الزمن، وبالتالي صورة الموت! غير أن هذا المضاعف أو العائد، أليسا مجرد هلوسات، أو أوجه تعيش في اليومي؟
يتعلق الأمر عندي، منذ زمن بعيد، بتعزيم exorciserعلى الثنائيات: ثنائية اللغة، ثنائية التقليد. توحيد الطريق في الحياة والفكر. من هنا إلحاحي، في محكياتي على «ربما». هل لاحظت ذلك؟ أكتب جانحا مائلا إلى إمكاناتي المضمرة، من نص لآخر. يحدث لي أن أكتب، ما نسميه شذرات، على شاكلة الكتاب الأخلاقيين والشعراء. هذه الشذرات هي، بشكل خطير، أقرب إلى الصمت، والنوتة الحادة note incisive، والتوقف أمام الفراغ. لكن الفراغ يرسم صورة، مشهدا، هيئة، طيف كائن. ظهور واختفاء، أخذ نفس، عاصفة وريح هوجاء، محور الرقص والرغبة.
فما تأتيني به كل سنة، مثل حياة مجهولة، لا أملك غير أن أتلقاه مثل نعمة، وكعطية، دون أن أتساءل، عما تخبئه لي كمفاجأة. تصوري للحظة، أننا نحن -أنفسنا- لقيات واكتشافات للقدر. الصحراء، والمعاناة يشرعان في التحرك، حينما نصير غير مبالين، بأي شيء، وبالتالي فنحن موحدون داخل العدم.
لا أتحدث عن أمل يتراءى وراء الغيوم، بل عن خط التلاشي ligne de fuiteفي حياتنا. «الأفقي»، ذاك أو تلك، من يتمسك بإرادة (أكيد هشة) لما هو غير قابل للإتلاف في الإنساني l’indestructible de l’humain. هذا أعتقده تفكيرا، لكن «الاعتقاد» و»التفكير» متناقضان. البحث عن خط الوسط، الذي يقطع الأفق، بمجاوزة كل ماض.
أجل، تعشيت ذات مرة رفقة «ألكسندر مينكوفسكي» Alexandre Minkowski في بيته، الموجود بزنقة «ريفولي» Rivoli بباريس. مرت على ذلك عشر سنوات. يا له من إنسان شغوف! أحتفظ له بذكرى مطبوعة، بالدفء والمؤانسة. لا أذكر ما دار بيننا من أحاديث. فالنسيان أعده علامة على الاعتراف. أقول لنفسي أحيانا: انس الماضي، والأجداد، وكل ما يتبع ذاك أو أولئك. غير أن صوتا آخر يستعد لمحاسبتي، على ما اقترفته من ذنب. لا نخرج من الشعور بالذنب، لكننا نستطيبه، يوما بعد يوم. الكثير من الخفة إزاء الندم، هو أيضا مسألة في فن العيش. عند انقضاء كل عام، أنتظر وعودا سخيفةّ، ومسرات مباغثة.
هذه بضع كلمات، بطريقة المودة السنوية.
عبد الكبير
الرباط، في 22 دجنبر 1997


***

باريس، في 10 فبراير 1998
Maison Suger

صديقتي،
حللت بباريس منذ أكثر من أسبوع. أقطن بهذا البيت، في الزقاق الذي يحمل هذا الاسم. وهو من أقدم الأزقة الباريسية. هذا الحي، الذي كان مأهولا بالسكان، يعطي إحساسا بالتقمص. مثل الشاعر، نريد أن نخاطب هذا الحي: أمن الممكن أن تقحمني في تاريخك؟
شرعت إذا، في حلقاتي الدراسية، حول لغة الآخر. وفي هذه اللحظة، وأنا أكتب إليك هذه الرسالة، أستمع إلى موسيقى الجاز، عبر المذياع. لغة الآخر هما أيضا هذه النوتات، وهذا الارتجال ل «شات باكر» Chat Baker، أكثر حنينا من ظل الليل آتيا إليك. لماذا لا يرتبط الجاز سوى بالليل؟ ما تثيره هذه الموسيقى من بهجة دفاقة، يوجد أيضا، ولا يقتصر على ذلك، في le scat «غناء السكات». تعرفين أن «غناء السكات» هو عندما يحاكي الصوت آلة موسيقية. هذا مبهج، وعذب، وتهكمي.
لنعد إلى جلسات هذه الحلقات الدراسية. أثناء إحداها تفاعل كل من: «هيلين سيكوس» Hélène Cixous، وجاك دريدا، وجاك حسون. إضافة إلى عديد من المبدعين والفنانين والباحثين الحاضرين، من استدعيناهم واستضفناهم. كلهم معنيون بمسألة العلاقة بين السياسة واللغة. كان «كلود أوليي» Claud Ollier حاضرا أيضا. عرضت تمرينا في الشهادة témoignage ورسالة مفتوحة إلى دريدا، الذي استحضرني في كتابه الجديد، «أحادية لغة الآخر» Le monolinguisme de l’autre، وفيه كتب هذه الجملة: «لا أملك سوى لغة واحدة، ومع ذلك فهي ليست لغتي». ستقرئين متمنيا ذلك، كل ما دار في الحلقات الدراسية، بين دفتي كتاب بنفس عنوانها.
علاوة على ذلك، بصدد كلمة «التفكيك» المرتبطة باسم دريدا وفكره، شاهدت الفيلم الأخير ل»وودي آلن» Woody Allen: « Reconstructing Harry « مترجما إلى الفرنسية ترجمة غريبة « Harry dans ses états»(هاري بجميع حالاته). أنت التي تكتبين، لا يأتيك هذا الفيلم بجديد، حول المتخيل وحياة حب الكاتب، لكن أحببت المحيط الاجتماعي الأمريكي. مجتمع ذري société atomisée، وبالقدر نفسه، كاتب مختزل في الوحدة المطلقة. مزاج مأساوي، يضع في مشهد، نضج رجل يدعى وودي آلن. فهو كشاهد، شاهد مدهش على نهاية هذا القرن.
قرأت قصائدك، «أفل نجمي» ، بتأثر كبير. بقيت معها، متلقيا كثافتها، وزخمها الغنائي. مديح حزين بعزة رفيعة. كيف نكتب عن كائن وحيد فقدناه، دون احتضان للصمت وسلطته؟
سيقول لك «أهل الاختصاص» في الشعر، بمزيد الاشتغال عليها، وتعميق الموجز فيها، والصياغة، وخط المصير. وأنا نفسي أجدني متحيرا، أمام هذه القصائد. نشرها كما هي، يتطلب بعض التفكير: هذه وجهة نظري بوصفي قارئا، وقارئا صديقا، ودون مجاملة. سأهاتفك لنتحدث في هذا الأمر. لكنك المؤلفة، التي تعرضت إلى مأساة رهيبة. حساسيتك فيها مقتطعة. وبصيرتي لها نصيبها من الحقيقة، يجدر أن تصلك، هناك حيث أنت، في توحدك المطلق.
كتبت كتابا بكامله عن العزاء: «كتاب الدم». إنه مأساة أخرى. لكن ما إن نكتب حتى نكون على حدود شيء ما. القول، والكف عنه، الشهادة على الفاجعة. هذا يذكرني بالنص الغريب ل»موريس بلانشو»: «كتابة الفاجعة» L’écriture du désastre. نجم astre، فاجعة désastre، فهنا الحد الفاصل.
أكتب إليك هذه الكلمات، وأنا أفكر فيك. سيستمر مقامي بباريس إلى حدود 28 من هذا الشهر. إذا رغبت، اكتبي إلي حيث أتواجد بباريس بهذا السكن « Maison Suger»
بكل مودة.
عبد الكبير

***

الزمن يتقلص جيدا، حتى إن الفواصل بين رسائلنا تتوسع.
مضايقة بالوقت الذي يمر سريعا سريعا: فمن ذكرياتي، جلسة خارج الزمن، مع محلل خاصة بمناسبة، مشكل المرور السريع للحظات.
وجدنا أنفسنا في كلمته، في دوامة من الأسئلة الضاغطة للغاية. للزمن رأيه: مفرط في سرعته، في الكون جميعه! وهذا التقليص لهذا الفائض السريع من اللحظات. أنا مغمورة بهذه الوجاهة، والاقتناع الذي يملكه ويعير به عن الأشياء.
فيما يخصني، فأنا أعيش ظاهرتين زمنيتين، ملتبستين وقابلتين كي تشرح الواحدة الأخرى. مر الزمن ببطء شديد، في طفولتي ومراهقتي، بينما في الحاضر فأنا مقتنعة أن يوما واحدا، هو برهة خادعة من الزمن، ودون اتساق.
منذ مأساتي وأكثر، حاليا، أنا في غمرة السرعة القصوى، متحررة كليا، من الدقائق التي تحث خطاها، ولا ترجع: لن يكون لي من الأوقات الكافية، لإتمام كتابة ما لدي لأقوله، وأخرج ما في جعبتي.
لا يهم.
Oe Kenzaburoفي حواره مع P. Forest قال نفس الشيء، هو المتقدم عني في السن. فالعبارة إذا هي قريبة جدا. إنها تكشف عن عدم وجود كتابين للكتابة، فهو يدرك الحبكة والحياكة.
كان هذا الصيف حارا.
وصلت إلى المغرب يوم 10 يوليوز، حيث صادفت وفاة الحسن الثاني، وحداد الذكرى الأربعينية لرحيله. اشتغلت بكثافة، ما جعل الأيام تهرب مني.
في الخامس عشر من سبتمبر، سافرت إلى تونس لقضاء خمس ليال. تقطيعات… وأمكنة… وأشخاص… وعودة.
عدت ثانية إلى باريس، وبريطانيا التي أكاد لا أعرفها. «التحدث» في Douarnenez. لا أتذكر شيئا. صور خاطفة تلك التي علقت بذهني. مقبرة بحرية. منازل تقليدية. وبعض الخضرة. من الغريب ألا يحافظ إلا على قليل من الخضرة، في بلاد خضراء للغاية…ثماني ساعات ونصف على القطار، ذهابا وإيابا، قضيتها داخل مقصورة، بالقطار الفائق السرعة.
ثم باريس، فالدارالبيضاء، ثم باريس…
يا دهر قف، فحرام أن تطير بنا! كما قال الشاعر. يظهر أنه من غير المفيد التوسل إليه بإلحاح للهبوط. أين التوقف؟
في الواقع، وللرجوع إلى موضوعات notions أكثر يقينا، يجب القبول أن الكمال يعمل بكل ثبات. وما هذه التشنجات إلا وثبات حشرة مفرطات حيث لن نتأخر في القضاء عليها.
كما ترى، صديقي، فهذه الرسالة بكاملها مبنية على الزمن، هذا الجلد المسحور المتقلص في كل ثانية، إبداع رائع لأونوريه بلزاك. من يحرؤ على المباهاة لكونه ليس جلدا مسحورا لكن بالابتهاج؟
كيف تتباطأ رسائلك، مقياس آخر للزمن؟ تساءلت إذا كان التعب الخانق لم يشيد، من أحد أسطرك، إلى إحدى جملك. ففي يوم سيطرح أحدهم قصتنا نحن الاثنان؛ لأنني أكثر منك عجلة، لن أتردد في فعل ذلك!
لي الجلسات الطويلة التي تضايقني جدا، وهي دائما قصيرة جدا، للمحللين. أنا في مقص الزمن يقطع على حين غرة.
صديقي، أعول عليك في عرض حزمة أخرى من اللحظات، شارحا لي الزمن، ولربما بنثر الفضاء عليه؟ هل سيكون التقلص المطلق للإثنين هو الله؟
صداقات عابرة في زمن شديد الطول، لقد مرت…سنوات على معرفتي بك؟
الدار البيضاء، 22/10/99




*****

صديقتي،

فرغت من قراءة رسالتك ثانية، وقتئذ كنت في زمن آخر. مفكرا في إعادة التسييس، وقد بدأت تظهر ملامحها مع قدوم الحكومة الجديدة بالمغرب. إرادة الوزير الأول في التخليق، وامتلاك خصلة الإنصات لما هو اجتماعي، والقيام بإصلاحات أو المشاركة فيها. أنوي المشاركة بطريقتي، بالعمل والفكر، في هذا الأمل الذي يهب على المشهد السياسي. إنه تاريخ جدير بالمتابعة. علاوة على ذلك، فروايتي «ثلاثية الرباط» Triptyque de Rabat تتناول هذا المشهد. ونشرتها في 1994. كما لو أنني أعثر فيها على هواجسي ورؤاي! اقرئيها إذا كنت جاهزة، لقراءة هذا الجنس من النصوص، فيما يبدو اجتماعي- سياسي -جنس الرواية البوليسية- لكن في الواقع، فالأمر يتعلق بمسار جيل، تصوره الرواية، وترسم معالمه. ليست «رواية مفتاحية» roman à clefs كما نقول، ولا نصا ملتزما، وإذا كان كذلك، فإنه من بدايته إلى نهايته، يندرج في نفس الاستراتيجية لهذا السرد. أقترح، أوصي، محافظا على سخريتي أو غضبي، ضمن الكلمات الأكثر تخفيا. أفكر في القارئ. القارئ الذي يبدو أنه يقول للمؤلف: «أقحمني في تاريخك !».
لندع هذا الكتاب. فاجأني استياؤك من «العلم». لكن ما يفاجئني الآن في العلم، هو ما يطور المجتمع الدولي أكثر، في بعده اللامادي والرقمي. تهمني خاصة، آثار هذا البعد اللامادي على الحساسية، والإدراك، والذاكرة، والجسد. فثمة دراية تخييلية savoir-fiction خاصة، تميز هذه «الثورة الرقمية»، تتحدث إلينا عنها، هذه الابتكارات التي تريد «إبداع الحياة». هل تجتاز الحياة الآن، طرقا نجهلها؟ ماهي؟ لا يمكننا تجنب هذا السؤال: هو في صلب مصيرنا. نساء مثلك أو رجال مثلي، ننزع أكثر إلى الثقة في الفن. الفن بوصفه زينة الحياة ومسوغا لها، مثل اعتقاد علوي. قال ابن عربي: الحياة حلم للتأويل. ويجب أن نضيف «واللعب»؟ مع الموت وضده. أقول أيضا، إنني كنت دائما في حاجة إلى تصالح في جانب ما من فكري، مع هلاكي. خطوات على الصحراء، استعارة تستحضر جيدا علامة الحياة في الرمال أو الأرض، التي تنفتح على هوة سحيقة. لكن الفن عميق، فهو يحرر، مكبلا بقانون الجسد. لهذا فتقريظي للفن، تقبليه مثل علامة للتحاب.
لك مودتي.
عبد الكبير




صديقي،
ألم متكرر في الظهر، يا له من ألم شديد! منعني من الكتابة إليك إلى حدود الآن، إنه دلالة على أنني منكسرة إلى نصفين: نصف علوي ونصف سفلي، فقدا كل علاقة بينهما عدا الألم وما يصاحبه من وخز. شيء لا يصدق، أن يستطيع الجسد التعبير عن النفس إلى هذ الحد، لكن، وفي المقابل، فهذه الأخيرة تظل عاجزة جدا عن ذلك. تقويمنا وتركيبنا، في الواقع، هذا الجسد شديد الاحتقار والخسة، هو أكثر سلامة وصحة وصدقا لنفسنا مع ذواتنا عينها. الروح كلا، فليس الجسد هو ما ينبغي استبعاده، بل الجسد النشيط الحركي الدينامي، في خدمة هذه الروح (الأنيما) التي لا تعمل على تنشيط شيء، وتقف وراء المعاناة وهذا كل شيء…
جاءت رسالتك الأخيرة ممهورة بالوداعة والسكينة معلنة دخولك في فصل الصيف، داخل دورة الفصول والحياة معربا عن دهشتك من كل هذا ومبادر إلى المشاركة رغم كل شيء. بالقليل من الاحتياط الذي تبديه. لا يمكن إلا أن تحظى بتقديري الكبير. لم تسخط ولم تعي ولم تهزم ! فأنا كل هذا.
سعدت كثيرا لحصولك على جائزة الأطلس: وإذا لم أقل هذا فإني أقوله لك مرة ثانية. في واحة قصيرة من السلم، يضع دقائق قضيتها معك، رفقة الخطاط الصيني رونيه. ر.، وزوجته وبضعة أشخاص يعطونك الإحساس بالقرب الجميل، ونوع من الرقة.
سيكون بإمكاني أن أقول لك، إذا استطعت سماع ذلك ! ما تضعني فيه الحياة من تدمير جامح. كلا فأنت مثقف رزين بخلاف الكثيرين غيرك، فهو أمر غريب يدفعني إلى محادثتك ومكاتبتك. غرابة تحملني أيضا على مكاتبتك-طويلا- في الوقت الذي لا أقدر إلا على تحبير بطاقة بريدية، لقول كل شيء وللجميع وفي كل أنحاء العالم. تخيل بطاقة بئيسة مبعوثة إلى «واليس» و «فوتونا» قصد «التراسل» مع أحدهم، يضع كلمات، لمجرد أن يقول له: «نعم ! تعلمون، أنني ما زلت حيا ! « خبر لا فائدة منه ويتطلب عملا بشريا للنملة: موضعة «و» و«ف» هو سفر عبر الخريطة طيلة خمسة عشر يوما، شهرا حتى تصل إلى وسط المحيط الهادئ وحمل رسالة من «إقامتي» على الأرض ! يا للإبتذال !
لكنني عبر رسائلك، أحس جيدا أنك، القريب والحاضر، الحالم والواقعي، وأن «شيء الحياة» متأصل فيك !
«حاجتي إلى العزاء مستحيل إشباعها» (ستيك داغرمان). كان انفجارا حين عرفت هذا المؤلف. أقرأه دفعة واحدة وأعيد قراءته؛ لأن كلمة من النص خدشتني، لأن جملة خدشتني، لأن كل ما نخشاه في كل النص يحدث. (1954).
أنا بصدد ترجمة لفائدتي، ترجمة المعنى الإلهي من اللغة العربية إلى حدود إدراكي لسورة الرحمان. عبرني المعنى والجوهر. كل ما يختزنه لاوعيي العربي والإسلامي يطفو عند قراءة هذه الآية. هذه الكلمة كانت دائما قرآنية حيث لا نتصور لها أي تحديد آخر. الآية القرآنية.
لا أكتب في جو من الهدوء والدعة بل داخل آلم الظهر ومن ثم فبين الخصر lombes وعالم النسيان limbes هو مسألة أيام !
محبتي



ترجمة: محمد معطسيم






***********************************




Merci, Abdelkébir, de m'avoir permis de dépasser la condition inférieure de la femme écrivain… Je te cite : « … nous appartenons ainsi à la civilisation islamique et à son système social patriarcal ».

Tu n'es plus seulement que mon Ami, tu as consenti à être mon égal dans un monde qui ne reconnaît pas l'échange possible entre un homme et une femme.

Le nôtre, je crois, a été capital et engage la littérature arabe et islamique…

Merci…

Casablanca, le 15 mars 2009
Docteur RITA EL KHAYAT

.




-------------------------------



ترجمة وتقديم: محمد معطسيم إهداء إلى مراد الخطيبي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى