رسالة من أرثير رامبو إلى أخته إيزابيل

عزيزتي إيزابيل،،، أنني تمر علي الأيام والليالي وأنا أعذب نفسي، محاولاً التفكير لإيجاد طريقة أتخلص فيها من هذا الكساح الذي أقعدني. إنني أريد أن أقوم بما يقوم به الآخرون، أريد أن أعيش، أريد أن أخرج من هذا المكان، ولكن هذا من المستحيل، على الأقل لمدة شهور، إن لم يكن للأبد.
كل ما أستطيع التفكير فيه الآن هو هذان العكازان اللعينان: فبدونها لا أستطيع التقدم خطوة، كما لا أستطيع الخروج. و لا يمكنني ارتداء ملابسي إلا بشق الأنفس. صحيح أنني يمكنني الجري بهما الآن؛ لكني لا أستطيع الصعود أو النـزول من الدرج، وإذا كانت الأرض غير مستوية فإن انتقال العبء من جانب إلى آخر يرهقني للغاية. إنني لا أزال أعاني من آلام عصبية في ذراعي وكتفي اليمنى، كما أن إبطيّ قد تقرحا من أثر العكازين. ورجلي اليسرى تؤلمني جداً كذلك. وأشد ما في الأمر أني علي أن أتحرك مثل لاعب السيرك طوال يومي لكي أمارس شيئاً من وجودي.
أختي العزيزة، لقد كنت أفكر في الأسباب التي أدت بالفعل إلى إصابتي بهذا المرض. الجو في (هرر) بارد من نوفمبر إلى مارس. وأنا لم أعتد أن ارتدي كثيراً من اللباس، فقط بنطلون من قماش القِنّب مع قميص قطني. كما أني اعتدت أن أمشي من 15 إلى 40 كيلومتراً في اليوم، في مسيرات متهورة عبر بلاد جبلية وعرة. أعتقد أنني أصبت بشيء من التهاب المفاصل من جراء الإجهاد والحرارة والبرودة.
وقد بدأت معي تلك الآلام بوجع كأنه دق مطرقة اعتدت أن أحسه تحت صابونة الركبة في أوقات كثيرة. لقد كان المفصل جافاً جداً وأصبحت فخذي منقبضة يابسة. وتلا ذلك تضخم نشأ في الأوردة التي حول الركبة، مما جعلني أظن بأنها دوالي. واستمررت على حالي المعتادة من مواصلة المشي والعمل أكثر من ذي قبل. ظننت أن المشكلة لا تعدو كونها برداً أصبت به. لكن لم يلبث الوجع في ركبتي أن ازداد شدة وإيلاما، ففي كل خطوة أخطوها أحس وكأن هناك مسماراً يُدق في ركبتي. كنت لا أزال أواصل المشي، لكنه أصبح أصعب جداً من ذي قبل. لذا فقد لجأت إلى الركوب، بيد أني كلما نزلت من مركبي أجد نفسي عاجزاً عن المشي. ثم بعدها تورم باطن ركبتي، مع تضخم في الصابونة وكذلك في مقدمة الساق. لم تكن الدورة الدموية على ما يرام في تلك الأعضاء، وكنت أحس بأعصاب جسمي تخفق من كاحل قدمي صعوداً إلى الظهر. لم أستطع المشي دونما أن أعرج عرجة شديدة. وازدادت هذه الحالة سوءاً معي.
وبالرغم من ذلك كان أمامي عدد من الأعمال يتحتم قيامي بها. شرعت في ربط كامل ساقي بضمادة، مع إجراء تدليك وتحميم بالماء، ولكن لم يحصل جدوى من كل ذلك. لقد افتقدت شهيتي. وكنت أعاني من أرق طويل لا يجعلني أهنأ بنوم. وتدهورت قواي الجسمية وتناقص كثير من وزني. وفي حوالي 15 مارس قررت أن أبقى طريح الفراش في غرفتي جوار طاولتي وأوراقي بحذاء النافذة، وهكذا يمكنني مراقبة أعمالي في الفناء المجاور من خلال تلك النافذة، وقد أجّرت أناساً استخدمتهم لتسيير أعمالي، بينما أنا منطرح على سريري ماداً رجلي. ومع مرور الأيام كان الورم في ركبتي يزداد حجماً حتى أصبحت ككرة كبيرة. وقد لاحظت أن أعلى عظم الساق من الخلف كان أكبر بكثير من مثيله في الساق الأخرى. وأصبحت صابونة الركبة ثابتة وقاسية لا تتحرك. فقد أصبحت راسخة في الإفراز الذي هو مادة الورم، والذي قد استحال بعد أيام قليلة إلى درجة العظم في الصلابة، مما أثار رعبي. وبعد أسبوع تصلبت رجلي بالكامل، ولا أستطيع أن أثنيها ألبته. مما حدا بي إلى أن أسحب جسمي على الأرض كلما أردت الذهاب إلى المرحاض.
وفي ذلك الوقت تضاءل حجم فخذي ومعها ربلة الساق، بينما أزداد الورم في الركبة حجماً وازداد تصلباً، وكأنه تحول إلى عظم، وتفاقمت معه حالتي الجسمية والنفسية سوءاً. وفي نهاية شهر مارس قررت أن أغادر تلك البلاد. لقد بعت كل ما أملك في أيام معدودات بثمن بخس. ونظراً لأن رجلي لم تمكني من ركوب جمل أو امتطاء بغل فإني اضطررت إلى أن أُحمل في محفة مظللة واستأجرت لذلك ستة عشر رجلاً ليوصلوني إلى (زيلع)، والتي وصلتها بعد مضي أسبوعين من السير. وفي اليوم الثاني لتلك الرحلة أغذذنا السير وتجاوزنا القافلة بمسافة، ثم أصابتنا السماء بمطر غزير في وسط البيداء، فمكثت هناك ست عشرة ساعة تحت المطر من دون أن أجد شيئاً يكنّني من غائلته، ولم أستطع مواصلة السير من شدته، مما ألحق بي الكثير من الجهد والبلاء. حيث أنني لم أستطع مغادرة محفتي ألبته. وكان رجالي يبنون خيمة صغيرة لي فوق المحفة عندما ينزلوني على الأرض.
فكنت أحتفر بيديّ حفيرة جوار المحفة وأزحف إليها بجهد شديد لأقضي حاجتي، ثم أدفنها. وفي الصباح كانوا يرفعون الخيمة عني فيحملوني لمواصلة السير. إلى أن وصلت بغيتي ، بلدة (زيلع)، منهك الجسم مشلول الحركة. فظللت هناك أربع ساعات للراحة قبل أن أستقل الباخرة إلى (عدن)، وعند الصعود إلى الباخرة حزموني في فراشي ومن ثم رفعوني في محفتي رفعاً إلى متن الباخرة، ثم اضطررت أن أبقى في البحر ثلاثة أيام من دون أن أطعم شيئاً. وفي عدن أمضيت بعض الأيام لتصفية حساباتي مع السيد تيان، ثم ذهبت بعدها إلى المستشفى، حيث نصحني الطبيب الإنجليزي بعد أسبوعين بمغادرة المنطقة إلى أوروبا.
إنني واثق تمام الثقة بأنه لو عولج الألم في مفصلي منذ بدايته لما وصلت إلى هذه الحالة المتدنية ولكنت شفيت منذ زمن. ولكني لم أدرك خطورته في ذلك الوقت، كما أني زدتُ حالتي سوءاً بإصراري على السير الطويل والعمل الشاق. لماذا لم يعلمونا شيئاً من الطب في المدرسة؟ على الأقل لكي نحمي أنفسنا من تلك الأخطاء الحمقاء التي لم أحسب لها حساباً. إذا جاء أحدهم في مثل وضعي المرضي الحالي يطلب مني المشورة إزاء حالته فسأقول له حتماً: بالرغم من وضعك الصحي المتدني هذا فلن تدعهم يستأصلون رجلك ألبته! فإنك لأَنْ تموت أرحم لك من أن تعيش برجل واحدة! الناس المصابون بمثلها كثيراً ما يرفضون القطع، وإذا ما عُرضت هذه الفكرة علي شخصياً فسأرفضها حتماً. وإنني لأفضل أن أتحمل أشد العذاب على أن يستأصلوا رجلي ويتركوني برجل واحدة!
ولكن بالرغم من إرادتي تلك فإنهم قد استأصلوها! وهذه هي النتيجة! طوال يومي وأنا قعيد غرفتي، وإذا ما أردت الذهاب فإني أنهض وأتقدم بواسطة عكازيّ لأمتار عديدة في طريقة أشبه ما تكون بالقفز ومن ثم أقعد مرة أخرى.
يداي لا تقويان على الإمساك، وعندما أمشي فإن عيناي لا تعدوان مواضع خطوي ونهاية العكازين، كما أن رأسي ومنكبيّ قد تهدلا إلى الأمام حتى غدوت أشبه ما أكون بالأحدب، لقد صرت أهاب الناس والأشياء التي تتحرك من حولي، خشية أن أصطدم بأحدهم فأقع وتنكسر رجلي الأخرى. والناس يشاهدوني وأنا أقفز بعكازيّ فيضحكون من ورائي، وعندما أقعد من مشيتي تلك أجد أن يديّ قد أُجهدتا، وأن إبطيّ قد تأثرا من جراء العكازين، وقد فقد وجهي سحنته وتعابيره. أنا الآن أسير القنوط، جالس هاهنا، مشلول الحركة بالكلية، كثير التشكي مما أجد، بانتظار الليل، والذي سأعاني فيه كالعادة من أرق لانهاية له، حتى فجر يوم آخر أكثر بؤساً وشقاءاً من الذي قبله. وهكذا دواليك.
سأكتب قريباً مرة ثانية،
مع خالص تمنياتي القلبية،
رامبو

.

ترجمة: صـالـح مـحـمـد الـمـطـيري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى