د. أحمد الحطاب - كورونا، الدِّين و العِلم

منذ أن أصابت جائحةُ كورونا العالمَ بأسره غبر مُفرِّقة بين القوي و الضعيف و الغني و الفقير و المتواضع و المتكبِّر و العالم و الجاهل و المُسنِّ و اليافع و المتديِّن و غير المتديِّن… و الناس يبدعون في إنتاج الأفكار و الآراء و المقولات و التَّصوُّرات.
و قد تأرجح هذا الإنتاج بين ما هو خُرافي و ما هو ديني و ما هو علمي.
فالذين تناولوا الجائحةَ من منظور ديني، اجتهدوا اجتهادا جنونيا ليُلصِقوا بهذه الجائحة (أي بيفيروس كورونا) ما ليس لهم به علمٌ، أي بما لا يمكن إدراكُه و لو باللجوء إلى أدق التكنولوجيات اختبارا و بحثا. و ما أنتجه و أصدره هؤلاء الناس من منظور ديني يدخل في عالم الغيبيات بمعنى أنه لا يوجد و لو دليل واحد ملموس يُثبت ما يقولون. فمنهم مَن يقول إن الفيروس جندٌ من جندِ الله أو أن تسليطَه على الناس غضبٌ و عقابٌ من الله أو أنه جزاء من الله لكثرة المعاصي و الفساد و الانحلال الأخلاقي و الابتعاد عن الدين أو أنه عقابٌ لمَن لا دينَ له… بل إن بعضهم ربط الجائحة بنهاية العالم. أقوالٌ و تصوُّرأت لا تخصُّ إلا مَن يتفوَّه بها علما أن مَن يتفوَّه بها عاجزٌ تمام العجز عن تبرير ما يزعُمه. أقوال و تصوُّرأت لا تمتُّ بصلةٍ للعقل الذي يحتِّم على العاقل أن يفكِّرَ مليّاً قبل أن تصدُرَ عنه الأحكام و الآراء.
أما الذين تناولوا الجائحةَ من منظور عِلمي، سواء كانوا متخصِّصين في مجال الفيروسات أو من عامة الناس، فأول خطوة تتبادر لدِهنهم و يفرضها العقل، هي محاولة معرفة الفيروس. و بعبارة أخرى، محاولة إغناء علمٍ بمزيد من العلمِ. فراح هؤلاء المتخصِّصون يُشرِّحونه و يُخضِعونه للتجارب و السياقات المُختبرية لمعرفة خصائصه البيولوجية و البيوكيميائية إلى أن توصَّلوا إلى اللقاحات التي هي طريقُ نجاة البشرية من تداعيات الجائحة الصحية، الاجتماعية و الاقتصادية. فإن ما يفرضه العقل على هؤلاء المتخصِّصين هو التَّعاملُ مع الواقع و محاولة إدراكِه للخروج منه بما يُفيد العلمَ و ينفع الناس.
فرق شاسع بين مَن يقارب الجائحة (الفيروس) من منظور ديني و يريد، بأي ثمن، أن يُقحِمَ الدينَ فيها، بل و يريد أن يستخرجَ منها ما ليس له به علمٌ و بين مَن يستخدم عقلَه للسيطرة على هذه الجائحة و تخليص البشرية منها.
الأول يترك معرفةَ الفيروس جانبا و يدخل في متاهات لا تُسمن و لا تُغني من جوع و لا علاقة لها بالواقع الذي يعيشه الناس من جراء انتشار الجائحة. بل إن بعضهم تجرَّأَ و تحدَّى العقلَ و العِلمَ و راح يقثرح على الناس تناولَ بعض الأعشاب و اللجوء إلى البُخور. بل لقد ذهب بعضُهم إلى حدِّ القول إن الدِّين في حد ذاته يحمي من المرض و بالتالي، يُشفي من الوباء.
أما الثاني، فسلاحُه هو العقل و البحث و الملاحظة و التجريب و الاستنتاج و التحليل و التركيب و التفكير و التَّقصِّي و الاستقراء و المقارنة و البَرهَنة…
نحن أمام نمطين من التفكير. النَّمط الأول، الذي يُصرُّ على مقاربة الجائحة من منظور ديني، يفكِّرُ صاحبُه لكن بالاعتماد على أقوالٍ و تصوُّرات نمطية تداولها الآخرون قبله بدون أن تثيرَ فضولَهم للتَّحقُّق من تطابقها مع العقل أو عدم تطابقها. النمط الثاني، الذي يُصرُّ على مقاربة الجائحة من زاوية علمية، يتوفَّر صاحبُه على خلفيةٍ معرفبةٍ تجعله قادرا على صياغة فرضيات يُخضعُها للملاحظة و التجريب ليتأكَّدَ من صحَّتها أو عدم صحَّتها.
الأول يردِّد ما قاله الآخرون علما أنه هو نفسُه غير متأكِّد من ما يردِّد و بالتالي، لا يأتي بجديد، بينما الثاني، بسلوكِه العلمي، يأتي بجديد، أي يخطو خطوات جديدة في مجال إنتاج المعرفة. الأول يتعامل مع الجائحة بتفكير ببغائي بينما الثاني يتعامل معها بفكر إبداعي و مُنتِجٍ. هنا بيت القصيد.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى