د. محمود المهدي - المداد الأحمر.. قصة قصيرة

لم يتقلد في حياته دور الرجل الأول، في الأيام الأخيرة تأتيه الفرصة ليجلس إلى مكتبه ليكون منه في الصدر، لكن بنكهة الرجل الثاني، يبدو أنه أدمن ذلك الدور؛ لَم يتجاوزه فالأيام قد سطت على رواء تفاعله مع الآخر، لم تمنحة بعدا اجتماعيا أو حُنْكَةً إداريةً؛ فبدا أَزْوَرًا يتكئ على ساق من العلم، وأخرى من الجهل بالعلاقات الاجتماعية وفنون الإدارة، كل علاقته بالعمل هو ذلك القيد الذي ترصف في أغلاله رعاياه- دفتر التوقيع - من الثامنة ليطلق سراحهم عند الثانية بعد الظهر!

جلس إلى مكتبه، فتح الدرج الأمامي، إنها ورقة احدودبت على نفسها في ركن؛ فبدت كقطٍ دخيلٍ تتنمر به جموعُ القطط؛ مَن دسها لا يدري أن أوراقه لابد أن تبيت في وئام؛ فهي لا تمتد إلى أوراقه بنسب؛ أَبْهَتَهُ ما بها يا للهول ! رفع "نظارته" مستوثقا مما حملت ! أيعقل هذا؟! ... هرول مسرعا إلى الحمام، عاد إلى مكتبه مُمْتَقَعَ الوجهِ، اصْطَكَّتْ ركبتاه، الأعينُ تترقبه بحذر، وتترصده في مكر، عمامته شلالٌ يَتَحَدَّرُ منه الماءُ على صفحةِ وجهه الذي بدا مغمورا به؛ استعدادًا لغرس نبتة الأرز؛ تقاسيمُ وجههِ كالحة كحبة "الجريب فروت" وأحيانا دهماء، فلا يفتأ وجهه يتغير من لون لآخر، كتلك اللوحات الإعلانية التي تتقلبُ على أكثر من وشيٍّ بميادين القاهرة، وكان قبلا مزهرا كالجوري، تتابعه ضحكاتٌ خبيثة مكتومة في صدور الجالسين، وعيونٌ تظهر شفقةً يحاكيها لسانٌ انتقع في ماء المخاتلة، يترك الأعينَ وراءه تتغامز، يهرول إلى الحمام مرة أخرى، يعود بساقين متثاقلتين لا تكاد تحملان هذا الجسد المسجى في قنطار من الزي: جبة مخملية وغلالة حريرية ودثار قطني، تزيد في عيه وتثاقله؛ دفع إليهم الورقةَ بيدٍ مرتعشة، ومنطق لا يكاد يبين عنه معنى.
"سنقتلك كما قُتِلَ"المحجوبُ" رئيس مجلس الشعب": أيعقل هذا؟! لابد وأنهم الطلاب الذين رسبوا هذا العام؛ فلا زالت دماءُ رسوبهم تنزف، انبرى من بينهم خبيثٌ مقترحا الاتصالَ بالشرطة، وآخرُ يحذر: لو تواصلنا مع الشرطة لاحتمل تنفيذ التهديد؛ الكل يؤدي دوره بإتقان من خلال السيناريو المعد سلفا.
تجاوز" الشيخ" محنته، ولَم يَفْطِنْ إلى ما وراءها؛ تمعَّرَت وجوه المعلمين، لم تعد صالحة لاستنبات الخيرفيها، أو إطلاق حلو الكلام منها؛ الأعين مياهها مالحة، والقلوب يسكنها الغضب: أكلما تغيَّب أحدنا صيفا، أعمل فيه القلم الأحمر؟! تبا له ألم يردعه ما حدث؟!
استغلَّ الخبثاءُ جهلَ الشيخِ بالإدارة، وخوفَ الرؤساء؛ أظهروا له ودًا زائفا؛ فأقبلوا عليه ناصحين: أنت تضع نفسك تحت طائلة القانون يا مولانا!، أليست الزائرة الصحية ممن يشملهم المعهد ؟! من فوره اصطحب وكيله حيث تسكن السيدة الفضلى، طالبا سرعة مثولها بالمعهد من الصباح، وإلا... ردت مستنكرة إن أردتمانيَ فخاطبا الصحةَ المدرسيةَ؛ فهي الجهة المنوطة بحركة العمل صيفا؛ هنا شعر "الشيخان" بشيء ما يُحَاك لهما؛ فطفقا يخصفان عليهما من سرعة المغادرة، ما إن هبطا الدرج حتى واجههما زعيم المعلمين: "امسك يا مولانا" ! ماذا تفعلان عند هذه السيدة؟! أفي بيتها وفي وضح النهار ؟! ماذا أبقيتما لنا يا مشايخ ؟ الشيخ يحوقل ويستعيذ بالله، ويرميه بالفجور والبهتان، ثم يستجديه السكوت بينما آخر يلتقط صورةً لهما مرددا؛ ستكون على مكتب وكيل الوزارة صباحا.
هنا أقسم"الشيخُ" ليرتفعنَّ المدادُ الأحمرُ كما ارتفعَ عن عجوزه ... حين ضربَ أُنُوثَتَهَا سنُ اليأس.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى