رسالة من نزار قباني إلى عبد السلام العجيلي

مدريد في 25/5/1963

حبيب القلب، عبد السلام
أحلى ما في بريدي هذا الأسبوع هي (مقاماتك)، بل أحلى ما جاء في البريد من سنين...
وأنا لا أذكر أنني التهمت صفحات كتاب بمثل هذه اللهفة، ولا أذكر أنني عشت مع كتاب من الكتب كما عشت مع كتابك.

أهو أنت... أم هو الكتاب... أم أنتما معاً؟... لا أدري... لا أدري سر ارتباطي بهذا الكتاب الحبيب الصادر عن حبيب. كل ما أعرفه هو أن الكتاب ردّني إلى زاوية من الماضي افتقد اليوم صمتها ولين وسائدها وحنان عتمتها.

هل نحن الذين كتبنا هذه الصفحات الحلوة ذات يوم؟ أين أصابعنا اليوم من أصابعنا بالأمس... أين قضبان الزنبق التي كنا نحركها على الورق فتخلق فوقه ألف صيف... من أصابعنا المتخشبة التي تشبه أصابع النجارين..؟

وقلوبنا، التي تركض وتنبض كالأرانب الصغيرة في داخلنا... لم تعد اليوم أكثر من أقفاص خشبية... لا تزورها الشمس، ولا تفكر بها العصافير.

وأبطال كتابك، الذين يتحركون على خشبة مسرحك كآلهة من آلهة الإغريق... أين يكونون الآن؟ أين قهقهاتهم، وغيم سجائرهم، ورنين أقدامهم؟

أين سعيد... وعبد المجيد... وصلاح... وعبد المطلب... وهشام... والمحايري؟

كلهم هاجروا كأسراب السنونو المهاجرة في أوائل أيلول، ولم يبق منهم سوى رماد سجائرهم وظلال جرائدهم التي لم يكملوا قراءتها.

لا مقهى (البرازيل)... ولا (بريمو)... ولا (الكمال) بقيت على حالها، ولا سدنتها وكهنتها ظلوا على حالهم، معابد الحكمة والفلسفة واللسان الطويل كلها تهدمت... والشمعة الوحيدة التي بقيت من مجد روما وأثينا والسفسطائيين.. هي كتابك العظيم.

فمن كل قلبي أهنّئك على أنك افتكرت في تعبئة هذا التاريخ الحلو في هذا الكتاب الحلو... وعلى أنك أضأت شمعة في المغارة التي بدأت العتمة تلف جدرانها... وتأكل سكانها.

ومثلما خلد تاريخ الأدب آثار الجاحظ وموليير وبرنارد شو، سيضيف إلى قائمة الموهوبين اسماً جديداً، هو: عبد السلام العجيلي.

وسلام عليك أيها الحبيب النبيل، من اسبانيا، البلد الذي زرعتني فيه، والذي تناديك شموسه.. وعيون نسائه... (وقناديله الاشبيلية)... دائماً...

نزار قباني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى