شريف محيي الدين إبراهيم - اللص.. قصة قصيرة

ضع ما معك،اترك كل شيء، وامض إلى حال سبيلك.
هكذا بادرني وهو يترنح، بينما تفوح من فمه رائحة الكحول.

في عمق الظلام ، امضى على غير هدى، كنت أبكي ، بعد أن غادرت زوجتي وهي تنازع ألام، المرض وحدها، في حجرتها الصغيرة.
درجة حرارتها كانت قد تجاوزت الأربعين، بينما قد نفدت، كل زجاجات الدواء الخاصة بها، ولم تكن قد أعلمتني حتى أنها أوشكت على النفاد...
لا يوجد معي ، سوى بضعة جنيهات، ومحمول قديم...
اتصلت بكل ما أعرفهم من أقارب أو أصدقاء.
ولم يجبني أحد منهم قط.
نظرت حولي فلم أجد الا الصمت والسواد ، وشعاع خافت يتسرب من أحد أعمدة الإنارة ...
الساعة كانت قد تجاوزت الرابعة صباحا وأنا لازلت، شارعا في طريقي أبحث عن أي صيدلية، لم تكن قد أغلقت أبوابها بعد.
حين كرر في غلظة وبصوت أجش:
اخرج ما معك من نقود.
تطلعت إليه في هلع، وقد أخذتنني المفاجأة، بعدما ظهر لي بغتة من عمق الدجي.
طويل، أشعث، الشعر، ضخم الجثة، ملابسه رغم قذارتها إلا أنها، تبدو، متناسقة.
الشرر يقدح من عينيه، الحمراوتين، ينظر إلى فى حدة،وهو يلوح بمديته في وجهي مكررا :
اخرج ما في جيبك.
تراجعت عدة خطوات للخلف، بينما طفق العرق الغزير يتفصد من كل مسام جسدي.
صاح بي محذرا، وهو يهرول مترنحا نحوي حتى كاد يغرز حد مديته في عنقي.
أخرجت بسرعة، كل ما في بنطالي.
تمتم فى سخرية وهو يحصى النقود:
هذا فقط !!
نزع الهاتف من يدي.
نظر إليه في احتقار، ثم تمتم في استياء:
رجل ذو هيبة، يرتدي بذلة أنيقة ، ما شاء الله، طول بعرض ،ولا يوجد في جيبه سوى هذا المبلغ الضئيل، ويحمل معه هذا الموبيل الأنتيكة !!
نزع مني ساعة يدي ثم مد يده في جيبي الآخر فوجد ،تذكرة الطبيب.
قال لي :
ما هذه؟!
قلت :
كما ترى.
قال: لمن ؟
أجبته :
لزوجتي .
ولكنه ابتسم ابتسامة ماكرة ثم قال:
يا رجل ..لهذا كنت تبكي.. لأجل امرأة !!
- ولكنها زوجتي .
-لا توجد امرأة تستحق دمعة واحدة تسكب من عين رجل .
- انا أحبها .
ضحك في هيستيرية ثم صاح بي:
حب ...حب ماذا؟
ثم أردف :
هذا وهم كبير ....فقط هناك رغبة، شهوة، نزوة .
تطلعت إليه في غضب ولم أنبس ،إلا أنه استطرد :
المرأة مخلوق جميل الشكل من الخارج ولكنه شديد القبح من الداخل، وتلك هي الخدعة.
قلت له في تعجب : المرأة هي أكمل مخلوق علي وجه الأرض،هي جائزة الرجل الكبري،بدون أنوثتها لا تكتمل رجولته.
هي سر الحياة ،وتاج جمال كل المخلوقات.
هي فتنة الطبيعة المعجزة .
قال في ثقة مفرطة : بل هي فخ الطبيعة ،شركها المحكم ،الذي تنصبه ،بدهاء، لاصطياد الرجل .
همست : التعميم لا يصح ،سواء مع الأنثى أو الذكر، هناك السيء و الحسن في النوعين .
صاح في قوة : لا ....كلهن أساس المصائب في هذا العالم ،ابحث في أي جريمة ستجد أن سببها امرأة...إنهن ملعونات في الأرض والسماء.
قلت في حدة : معذرة أنا لا أتفق معك في رأيك هذا ،ثم إن هناك من الرجال أصناف رديئة جدا،وإذا تدبرت قليلا ستجد أن المرأة الشريرة هي صنيعة رجل حقير.
ضحك في خبث ثم همس في أذني :
كلهن خائنات، هذه هي طبيعتهن.
ثم صاح فجأة : ومن يدريك أن امرأتك لم تخنك يوما ،ربما مرة أو أكثر.
غلي الدم في عروقي صرخت به :
أنا لا أسمح لك أن تتكلم هكذا علي زوجتي ،إنها أشرف إنسانة في هذا العالم، لقد تحملت معي ما لا يقدر علي تحمله بشر ،و قدمت لي حياتها وصحتها، وعمرها كله، ولم تتزمر.
لم أر ،منها يوما، أي إساءة ،بل كانت، دوما صبورة معطاءة وكأنها أم ثانية لي .
تطلع إلى طويلا ،وأنا في هذه الحالة الشديدة من الانفعال ،ولم ينبس ،وكأنه يفكر ثم ،همس، بعد أن نظر لبرهة في جملة أصناف الأدوية المدونة في تذكرة الطبيب:
ولكنك لن تجد الدواء الثالث بسهولة.
قلت في دهشة :
تقرأ اللغة اللاتينية، وتفهم أيضا في أنواع الأدوية؟!
ابتسم نفس ابتسامته الخبيثة ثم همس:
وماذا تحسبني؟!
قلت له في وجل :
عفوا ما أراه أمامي الآن سوى....
أقصد ...
وصمت ولم أنبس ببنت شفة.
إلا أنه أكمل ،بذات ابتسامته في سخرية شديدة:
تقصد أنك لا ترى أمامك سوى لص، سكير ، عربيد ،يحمل في يده سلاحا ، يروع به المارة في الشوارع ليلا.
قلت في جدية :
عفوا.... وهل ثمة وصف آخر؟!

أردف متجاهلا كلماتي :
المبلغ الذي معك لا يكفي حتي لشراء صنفا واحدا من جملة الأصناف المكتوبة في تذكرة الطبيب .
قلت له في سخرية مشوبة بجرأة أحسد عليها :
إذن فلتقرضني، أنت ما ينقص من مال.
وللغرابة الشديدة، أخرج من جيبه قلم و دون على الروشتة بضعة كلمات، ثم قال لي :
لقد استبدلت لك بعض هذه الأصناف بأخرى متوفرة في كل مكان وذات فاعلية أفضل، كما أنها تقل في الثمن كثيرا عن المذكورة،
ثم وضع علامة إكس على عدة أصناف أخرى وقال :
هذه الأدوية لا داعي لها، بل إن ضررها أكثر من نفعها.
وساد الصمت بيننا لفترة، جعل يتطلع إلى فيها، طويلا، كانت المدية لازالت في يده، تظاهرت بعدم الخوف، كنت أحاول أن أبدو أمامه متماسكا ، تمنيت أن يفك أسرى و يجعلني أمضى إلى حال سبيلي
فجأة، أغلق مديته، وتراجع للخلف قليلا، كي يفسح لي الطريق، وقبل أن انطلق لحالي سبيلي، تعال صوته :
أنت ... انتظر.
التفت إليه في ذعر، إلا أنه ، أعاد إلى تذكرة الطبيب،
والمحمول،
وساعة يدي،
ونقودي،
وقبل أن يبلعه الظلام، أشار إلى بيمناه قائلا :
في نهاية هذا الطريق ستجد صيدلية ، وما معك من نقود سيكفي .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى