شريف محيي الدين - عم حبيب.. قصة قصيرة

رجل قليل الكلام، يكاد لايزوره أحد قط.
هو لا يختلط بأي من جيرانه، إلا فقط لتأدية واجب، أو للقيام بمصلحة مشتركة.
عم حبيب....
هو جارنا ، صاحب الفيلا الملاصقة لفيلا العزب .
زوجته جميلة ممشوقة القوام،، بشرتها بيضاء كلبن الحليب
تكاد لا تبرح بيتها، ونادرا ما يرها أحد إلا وهي تطل في خجل من خلف ستائر النافذة.
عيال حبيب نظاف دائما، يرتدون الملابس الجميلة الأنيقة،
وقد حاول معظمنا التقرب منهم، إلا أنهم رفضوا إقامة أي علاقة صداقة، أو حتى تعارف مع أي واحد منا.
فلم يشاركونا يوما في مبارياتنا الكروية المستعرة، أو رحلاتنا الجبلية الاستكشافية، وجمع ثمار التين الشوكي، أو صيد الضفادع ونصب الأفخاخ للعصافير.
لم يشاركونا حتى في نزول مياه البحر وصيد السمك، واللعب بالطائرات الورقية !!
الأمر الذي جعلنا نحسبهم كائنات غريبة مختلفة!!
و كيف لا وهم ملتزمون، مهذبون جدا، إلى حد يثير حفيظتنا؟!
كانوا في عرفنا وقتها مثال لأبناء العائلات النموذجية المملة.
في منتصف الليل فوجئت جدتى ملك هانم بعم حبيب يطرق باب الفيلا الحديدي بعنف!!
كنا في أحد نوات الشتاء،
وكان الظلام دامسا،
والجو شديد البرودة، مع تساقط المطر الغزير.
هرعت جدتى إلى حبيب ، في هلع، بعد أن أضأت شرفة المنزل المطلة على الحديقة، ثم أيقظت جدي أحمد العزب ، الذي نهض فزعا وهو يردد :
ما الذي أتى بهذا الرجل، في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل؟!
كانت ثمة منازعات بيننا وبينه على الحد الفاصل بين حديقتي الفيلاتين!!
حيث استولي حبيب على جدار فيلاتنا ،
ورغم محاولات عديدة معه لإقناعه بخطأ موقفه إلا أنه أصر بعناد على أن هذا الجدار تابع لحديقته وأنه قد اشتري الفيلا من الخواجة كوستا صاحبها القديم بهذا الجدار.
مما ولد عداوة شديدة بينه وبين جميع أفراد عائلتنا
رحبت جدتى بعم حبيب
ثم اجلسته في حجرة الصالون،، طلبت منه أن يهدأ قليلا بعدما لاحظت عليه علامات التوتر الشديد
كان شعره مبعثرا ،و العرق الغزير يتصبب منه ، بينما تضطرب كل عضلات جسده،وكأن به مس من جن
قال له جدي في قلق : ماذا بك؟!
هل سقط جدار الحديقة؟!
نظر حبيب إلى جدي طويلا ثم انهمر بالبكاء
طلبت جدتى منه أن يتناول كأس الليمون البارد الذي اعددته له على عجل.
،وبعد برهة من الصمت الطويل همس حبيب :
هل لاحظتما شيئا مريبا يحدث في بيتي؟!
قالت جدتى في دهشة :
ماذا تقصد ؟!
همس حبيب في خجل :
أي تصرفات غير طبيعية لزوجتي؟!
صاح جدي في غضب :
ما هذا الهراء الذي تقوله؟!
وقالت جدتى في توتر :
رغم ما بيننا من خلافات، إلا أن زوجتك سيدة فاضلة، لا يكاد يسمع لها صوت، وعيالك هم أكثر أطفال الشارع تأدبا.
قال حبيب بصوت متحشرج:
ولكني رأيته في بيتي؟!
سأله جدي في ذهول :
من الذي رأيته؟
قال حبيب بصعوبة بعد أن ازدرد لعابه :
رجل عاري ...
يفر من نافذة غرفة نومي، ثم يقفز من فوق جدار الحديقة إلى حديقتكم.
صاحت جدتى به في غضب: ماذا تقول؟!
زوجتك سيدة محترمة......
رجل ماذا الذي قفز من سور الحديقة وتواري داخل فيلتنا؟!
قطع جدي كلمات جدتى المسترسلة في انفعال متسائلا في براءة شديدة :
هل كان الرجل الذي رأيته يقفز من نافذة حجرة النوم عاريا تماما.....
تماما؟!
(2)
أخذت جدتى عم حبيب إلى حديقة الفيلا، بينما جدي يصيح به في استنكار :
أمن المعقول أن يكون عشيق مراتك متواريا بين أغصان الشجر؟!
بعد فترة قصيرة من البحث، المتوتر، لم يجد حبيب، سوى سيد البستانى، نائما في حجرته الجانبية.
تطلع جدي إلى حبيب في غضب، ثم قال له :
لابد أن تغير الصنف الذي تشربه ؟!
صاح حبيب :
لماذا لا تصدقاني، لقد رأيته وهو يقفز بعيني؟!
قال سيد البستانى في دهشة، وهو يمسح أثر النوم من عينيه :
ما الذي أتى بك إلى حجرتي في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟!
نظر حبيب إلى سيد في حدة، وقبل أن ينبس، جذبته جدتى من ذراعه، ثم أدخلته عنوة إلى حجرة المعيشة قائلة في ضيق :
اصمت يا رجل، أتريد أن تفضح نفسك؟!
بعد أن جلس حبيب وهو غاضبا، صاح به جدي :
لعلك تظن أن سيد هو الفاعل؟!
قال حبيب :ولما لا، ولا يوجد في الحديقة أحد سواه ؟!
قالت جدتى في تعجب : سيد الطاعن في السن، المتداعي!!
.... أجننت يا رجل؟!
قال حبيب في إصرار : لماذا إذن يمكث في هذه الحجرة، وبيته على بعد خطوات منا؟!
قالت جدتى :
سيد عادة ينام في هذه الحجرة،، هربا من زوجته وعياله.
و أضاف جدي :
فعلا إنهم دائما في شجار ومشاحنات؟!
ثم قالت جدتى بلهجة آمرة موجهة حديثها لحبيب :
قم يا رجل، ودعك من هذا الكلام الفارغ، وارجع إلى زوجتك.
تطلع حبيب طويلا إلى جدتى، ثم هب واقفا والشرر يقدح من عينيه، وعلى حين غرة اندفع خارجا، دون أن ينبس بكلمة.
بعد برهة قصيرة تبادل فيها جدي النظرات مع جدتي، نهضا بغتة ، وانطلقا صوب فيلا حبيب، وهما يرددان في ذعر :
لابد أن نلحق بهذا المجنون، قبل أن يقتل زوجته؟!
وعندما دلفا من باب الفيلا، استقبلهما الابن الأكبر لحبيب، فسأله جدي :
أين أبوك؟!
الطفل : لا أعلم ؟!
جدتى :
أين أمك؟!
الطفل في براءة :
لا يوجد أحد بالداخل سوى أخوتي الصغار!!
(3)
بعد عدة أيام...
حضر عم جمال جارنا المزواج، ومعه حبيب....
اخيرا استطاع الوصول إليه ، بعد أن أعياه البحث ، والسؤال عنه لدى كل معارفه.....
صاح جدي بحبيب : كيف تترك أولادك وحدهم طيلة هذه المدة ؟!
التفت حبيب في دهشة إلى جدتى متسائلا :
أين ذهبت أمهم ؟!
جدتى : بالتأكيد هي خافت منك، فغادرت البيت وهي لا تلوي على شيء.
حبيب في حيرة : ولكنها مقطوعة من شجرة، وتقريبا ليس لها أقارب ؟!
جدي: يجب عليك أن تبحث عنها.
شعر حبيب بصداع شديد... صاح في ألم :
أبنائي ؟!
همست جدتى في رفق :لا تقلق إنهم في رعايتي.
تساءل حبيب في انكسار :
إذن هي هربت معه؟!
جمال في حدة :
لازلت متشبسا بتلك الأوهام الفارغة؟!
هي بالتأكيد عند أحدي صديقاتها، يا رجل عد إلى بيتك وعيالك ولا تستسلم للشيطان.
جعل أبناء حبيب ، يسألونه عن سر غياب أمهم، وهو ينظر إليهم في حيرة ولا ينبس ببنت شفة.
، ولكن بعد مضي عدة أيام علم حبيب، من جمال، أن زوجته موجودة،في بيت جارهم المعلم منصور، وأنها لجأت إليه كي تحتمي به من غضبته ، بعد أن ادعت إصابته بهلاوس هيستيرية، تجعله احيانا يتوهم حدوث أشياء غير حقيقية، وأنه يعاني من هذا المرض النفسي منذ عدة سنوات، إلا أن حالته تفاقمت مؤخرا بدرجة كبيرة.
عرض عليها منصور، أن يتدخل ليحل المشكلة بينها وبين زوجها، إلا أنها طلبت منه أن يتكتم الأمر، لحين تدبر أمرها.
ولما حاول أن يقنعها بأن الأصول تحتم عليه أن يعلم زوجها بمكانها، أخبرته :
إن فعلت فسوف أغادر بيتك،على الفور، ولن يعلم أي مخلوق مكاني .
فاضطر منصور أن يلتزم الصمت خوفا عليها، حتى تهدأ الأمور قليلا، بيد أنه بعد بضعة أيام أخبر جمال سرا بوجودها مع زوجتيه، وطلب منه التصرف بحكمة مع زوجها حبيب.
قال عم حبيب لجدتى:
جميع من عرفوا حكايتي قالوا لي هي مجرد امرأة، ... وما بينكما ورقة.
جدتى :
ما أعلمه انكما تزوجتما عن حب ، فهل نسيت كل شيء بهذه البساطة؟!
حبيب في ألم :
الخيانة ليست أمرا بسيطا.
جدتى في إصرار :
هل تنكر يا حبيب
، أنك مريض نفسيا وتأخذ علاجا منذ عدة سنوات؟!
حبيب في خجل :
أنني اعاني فقط من بعض نوبات الاكتئاب، مثلي مثل معظم الناس، في ذلك الزمن الصعب.
جدتى:
تريد أن تهدم بيتك، من أجل وهم كبير في رأسك؟!
يا ولدي ارجع زوجتك إلى بيتها وعيالها.
أطرق حبيب برأسه ثم همس :
الموضوع صعب.
ربتت جدتى على ظهره، ثم قالت في رفق؛
لا يصح أن تتركها هكذا في بيت منصور، افعل هذا حتى لأجل عيالك،بعد عدة أيام أعاد حبيب زوجته إلى بيته، كانت العلاقة بينهما فاترة يشوبها الكثير من الريبة والحذر، غير أنه
بمرور الزمن، يوما بعد يوم، انصلح الحال بينهما حتى صارت العلاقة بينهما أفضل حتى من ذي قبل.
الأمر الذي دفع بحبيب نفسه،أن يقول لجدتي في امتنان بعد أن قابلها صدفة، وهي تمضي في الشارع وفي رفقتها عم سيد الجناينى لشراء بعض مستلزمات الحديقة :
اشكرك، يا ملك هانم...
لولاك لكنت خسرت زوجة فاضلة، وأم صالحة.
بيد أنه بعد أن غادرها حبيب، التفت إليها سيد الجناينى ونظر إليها نظرة خبيثة فصاحت به:
ماذا بك يا رجل ؟!
سيد :
ربنا أمر بالستر، والذي لم أبح به طيلة هذه الفترة لا يمكنني أن أبوح به الآن.
جدتى في جدية :
تقصد الرجل العاري، الذي كان تحت سريرك؟!
بهت سيد الجناينى، ثم صاح بها :
كنت تعلمين، طيلة هذه السنوات، ولم تخبري ، حتى زوجك أو عيالك؟!
جدتى في ثبات :
مثلما فعلت أنت بالضبط...
سيد في دهشة :
بل وكنت تدافعين عنها باستماتة شديدة.
جدتى :
ليس هناك أسهل من خراب البيوت.
سيد في حيرة :
ولكن يا هانم، أليس حراما ما فعلناه؟!
هل نحن هكذا لم نخدع السيد حبيب؟!
جدتى في ثقة :
ما يستره الرب لا يفضحه العبد...
وصمتت قليلا ثم استطردت قائلة :
انظر إلى عياله،
انظر إلى زوجته الآن، وكيف صارت مثالا للخلق الرفيع.
بل انظر إليه هو شخصيا.


شريف محيي الدين - مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى