موسى غافل - طارق ألليل..

قبل هذا الليل المقرور، كانت المدينة تستلقي.. مثل نجمة متألّقة . تتوهّج ذوائبها بدفق من شلال ضوئي . تشعشع خيوطُه الذهبية، في رقص زاه مفرط ، تتأطّر بجدائل يتوسمها لون حنّي، لفتاة قمريّة الوجه. ترقد بعري كامل. تحت ألق نوراني . هاجعة بوداعة وأمان. فارتخت و انغمرت بنوم حالمٍ، كزهرة ضوّعها نثيث العطر، و العشق و الدعابة.
وقيسها العاشق يصدح بصوته . فيتداعى غناؤه بعذوبة، تحت ابتسامة القمر،و دثار الليل الشاحب.
ينغمر العشّاق بشلال من الصِبا ، و الحلم بالتلاقي. و الهيام . محلّقين بأجنحة ملائكية. ليس فقط لليلاه، بل لكل من لها قلب عصفور.
فأي كاعب .. لم يزدهر حبّها بأنين قيس ؟ و أي شمائل .. وأي هيف ، لم يتقمص ليلاه؟
في كل ليلة مقمرة : يسهر العشاق.. مثل نجيمات.. أرّقهن الهوى والأنين .
* * *
جُنّ العاشق ، واعتمر لحافه فوق هامته. و الريح .... يكل عويلها، وتهمد من كثرة الإعياء، كأن صليلاً قارصاً ثقيلاً تداعى بها . فناخت وافترشت شوارع المدينة وأزقّتها.
و النجوم .. أصابها بردٌ، واحتبس تألّقُها. وعتم كيفُها . و دثّرتها دجنةٌ غمّاء.
يتلفّع العاشقُ بمعطفه الخلق ، فوق سترته، المتخمة بحشو من صحف الأعوام الراقدة . فتح بطانتَها على مخابئها ، وحشر الجرائدَ حتّى شبحت يداه، لكي تتدفّأ أضلُعَه، وتحتمي من صليل لا يطاق. فاستفرد البردُ بوجهه الملتحي و قدميه الحافيتين .
هبط المدينةَ من بوّابتها الغربية . يتنقلُ بتثاقلٍ . وسط أزقّة المدينةِ وشوارعِها المقفرة. وعصاه ذات العقب الحديدي ، تقرع وجه الإسفلت. وتصدعُ صمتَ الليل . فيوحى للسامع اللائذ بثقل دثاره: إيقاع عصاه الرتيب الذي : ما استطاع أن يرسم ، على أديمه ، بيت شعر واحدٍ، أو حرفا يناجي به ليلاه.فاستعاض بالقرع. كأنه يواقح الليل الموحش، و الصمت المطبق. وتباطؤ خطواتِه. في ليلٍ : أثقل أجسادا منهكةً لكلاب هدّها الإملاقُ و الإجهادُ من سهر حراسة الليل الأسود.
وأُخرى .. تترك وقعاً خافتاً لأطرافها . ماضيةً في البحث، عن ملاذ دافئ. ليس عدا هذا بقادر على خرم إهاب الليل وبلواه .
ابتلع العاشق لسانه. وحبس نطقه. وبات البُكم في هذه المدينة سمة متحركة. محسوسة الأبعاد ، توحي : بأن لها أبعاداً لونية ولها ملامح.
ربما هو البرد. ربما هو إهاب الليل . وعقم الزمن .. أو ثكلان نجومه.
لا يروقُه.. إلاّ أن يتلفّع . فاحتضرت الأنوار شيئا إثر شيء. وبات لاينتهك حرمة ذلك: سوى .. ذبالةُ حمرة ذاوية، لضوء قزّمه البرد.تهتك كلكله عصاعاشق المدينة و قدماه . وهمهمةُ كلاب... شبه نافقةٍ. غيرها .. هجع بصرعات مؤلمة. من ثقل حندسٍ مقرورٍ،كأن المدينةَ خلدت إلى غيبوبة، بعد إجهاد و تشنجات. كأنّها تتواءمُ مع محنة العاشق. ليس واضحا: من هو المغلوب..مغني المدينة أم هي؟
ألقى الظلام إهابه الثقيل ، مثل حيوان اسطوري، يلتف على جسدها و يفترسها بدمٍ بارد.
و المجنون لا يعبأ . لا وجود لشيءٍ يخشى فقدانه. فتمضي خطواتُه لا تتهيب من رادعٍ. يقرع بعصاه وجه الليل. البرد يقلب قرعاتها.. إلى كراتٍ زجاجيةٍ . ماضية بإيقاعها. فيبتلعُه الظلامُ بالتعاقب.
حتى إمعانَ خطواته إلى المقهى الراكنة قبالة ( جسر يافطات الموت ) تتواقح مع الدجنة المأتمية التي ظل البردُ يجثم بهاعلى جسد المدينة ، ويفترسُها بين قوائمه. بنواجذه الحديدية.
الآن..هاهنا.. مكثت الأرائك المترملة. مجافية.. وجه النهر المتطحلب . متطلعةً ببلادةٍ: إلى حلكة جثت على كل شيء. والعاشق .. ينفرد واقفا ، كأنه يحصي الخسائر، أمام هذا الخلو ، من الأرائك المتداعية . بلا أقداح شاي ساخنة ولا صديق. ولا.. قدحةِ ذهنٍ معافى.لكي يرضى بغياب ذلك، و ينسى احتفالاته ، بقدح شاي ،و نداء صاحب المقهى الجهوري، وهو يتنقّل بطبلات أقداح الشاي بين الروّاد، و يهتف:
ـ ثلاث شايات. صار أربعة للأساتذة. شاي خامس للعاشق .
فيحتسي شايه بشرود و يمضي .
هو لم يهمل ما اعتاد عليه . فواظبت يدُه على رفقة الجريدة طوال أعوام طواها الزمن وحتى هذه .
يقلب الصفحات المهترئة، وصوت صاحب المقهى يهتف :
ـ ماذا تقول الجرائد ؟
حينئذ... يلُقي إليه بنظرة ساخرة ، و ابتسامة صامتة غامضة ،التي أبقاها دهره كالوشم على شفتيه.
يواصل العاشق صمته. يبحث عن ليلاه المتوارية. فتوارى هو حالما بتلك الفتاة التي ، كان قد استلقى فوقها النور.. و أغراها أن تذوب، وتخلد في ذهنه ابتسامتها فوق ذلك الوجه المكلثم الحكيم. ابتسامة اللقاء الروحي .. معاً في رحيل إلى عالم قزحي.
ترى.. أين صفا بها النور؟ هل ذابت به و انتشرت؟أم تلاشت في مجاهل هذا الكابوس؟
هو لا يعرف شيئا . صيّره سوء الحال خارج عجلة الزمن ، فعافته أشداق المفترس الاسطوري. ربما زهدا به . فما دام لا يمتلك شيئا.. لا يخسر شيئا.لا الليل من قبل و من بعد.. ولا النهار في صحوه .
في حلكة هذا الليل ..مضى ينصت لما يتصوره وقعا لِكرات زجاجية ، تسقط وتنط . لا يدرك إن كان مصدرها عصاه. أو البرد ، أو رزايا يرميه بها دهره.
مضى محاذيا كتف النهر ، الرافل بردائه الطحلبي الكئيب. مضى حتى ملاذَه الليلي ، في أجمة القصب.
وركن جسده المقرور، إلى حائط طيني ، اعتاد أن يتّكئ عليه، طوال ليله .
في مثل هذا،لا يصعب عليه العثور على فتات وقدة، من نفايات يتوقد بها، درءا من حلكة الظلام،و صليل البرد، الذي ما ألفه من قبل . ثمّة همهمة من الرعد الوحشي ، و نقاطٌ مطريةٌ متأنية ، كأنّها تستطلعُ مساقطَها.
قطرات المطر واظبت تلسع وجهَه ، فيحاول إضرام النار. لكن الهمي يزداد. فيذوي موقدُه .
حاول أن يقاوم ذلك باستماتة. لكن انهمار المطر يغزر. ويدبُ لاختراق معطفَه . ينظر مشدوهاً إلى غطائه المبتل كأن الهطلَ قد جن. فكان عليه .. أن يتحرّى عن مكان يلوذ به.
الآن .. ترتعد فرائصه. مضى البلل يتسلل إلى جسده. سارعت قرعات عصاه تصفع وجه الإسفلت. ماضيا .. صوب المقهى. أسنانه تعزف على نحو أخرق. ولأوّل مرة ، وبعد أعوام مضت، تفوّهت شفتاه: ( إشّشش ......اه ، كم هي باردة ).
تفرّس بالأرائك، كيف تنهطل بإيقاع مقرور. فأمعن بخطاه منعطفا يمينا داخل السوق .
يستضيءُ بمقدحته، بين حين و آخر. ينعطف شمالا. لايعثر على موقدٍ ولا عسسٍ . ينعطف إلى سوق الصفّارين . يقف أمام موقدهم ينادي بصوت مقرور:
ـ أما هنا بقايا من موقد ؟ هل خبت مواقدكم بأجمعها؟
يصل مقهى منزوية قد تواربت ابوابها و تلاشت انوارها .
يتواصل سيرُه حتى الجامع الكبير، ينادي على خادم الجامع :
- يا شيخ .. جئت أطلب نارا .
لم يسمع جوابا....
يعود مرتعدا بصوت مسموع . تتردد على لسانه نبرةٌ فيها بقايا من صفاء صوته:
ـ جئت أطلب نارا ... أَ خبت نيرانكم جميعاً ؟
يعلو ارتعاده ، و يبتل بخرير لحافه . نقعت ثيابُه تماما .
الجرائد المحشوّة في بطانة سترته، باتت عبئا ثقيلا مؤذيا، بفعل تشبعها بماء المطر. لم يعد لديه ما يحتمي به.
أسرعت خطاه مثل طارق الليل. وخاضت عصاهُ بوشيل المطر. تحوّل ارتعاده بما يشبه العزف. وتعالى استنجادُه المهووس :
- افتحوا الأبواب أيها التنابلة ... افتحوا النور . دعوه يضيء الطريق .
صوتٌ أجشٌ جريحٌ ، لم يتنصل من أصالته. غضبت نبراتُه و استفزّتها وحدانيتُه.
خاض الغدران.. قارعا صفحات الصمت المقرور . مستعينا بذبالةِ مقدحته. فيتواصل الهطل .كأنّه خيولٌ مذعورةٌ ، تحررت أعنّتُها. ودَكّت بحوافرِها قمرات الأسواق :
- إفتحوا النور .
كان صوتُه يتعثّر بين قمرات الأسواق ثم يتلاشى .
أسرعت خطاه المرتبكة ، ترتطم و تتعثر في حلكة الظلام، الذي بدا : سيّدا. كان يُطبقَ بعنف على ممرات الأسواقٍ. فتعالى صوتُه الغاضب:
- هل سمعتم في حياتكم : إن خيولا تدك بسنابكها قمرات الأسواٌق ؟ أرأيتمُ أضراسا مجنونةً كتكشيرتها؟ أسمعتم صهيلَها المتوحش ؟ أرأيتمُ أجسادها.. كيف تُدرع بعضُها ببعض ، كأنها حلكةُ الليل؟
أرأيتمُ : أن ليس هنا سوى خطوات الكلاب التي تسيّدت منافذَ الليل؟
توالت صفعاتُ عصاه المدوّية على واجهة الحوانيت. كان دويا مستضاما لايُطاق . لكن من استيقظوا تجاهلوا ذلك. وأقصى ما أدركوه : أن العاشق قد تعاظم جنونه .
ما الذي يفعله ؟
ارتد إلى سوق الفواكه . استضاء بمقدحته، متفرّسا بذلك الحانوت المخلوع الباب، الذي اكتظ بالحلفاء الجافّة. استغنى عن دثاره ، و تخلّى عن أشيائه قطعة قطعة .
ثمة مجموعة من الكلاب لا تنوي التزحزح . يتقدم باتجاه ملاذها فيهشّهن بعصاه لكنه فوجئ بهجمتهن من كل جانب. وقد أصاب بعضهن بضربات مميتة. غير أن أشرسهن قد اخترق التهيب ، فاقتحم مقاومته . و الكلاب الأخرى تحاصره، فلم تسعفه يده ولا الظلام الذي حال دون استعادة العصا التي ابتعدت عنه بفعل تدحرجه .
حاول أن يلوذ بالسلال ، فلم ينل سوى مخارطها. دون أن يكون بمقدوره :أن يشاهد غصناً واحداً لينتزعه .
تقهقر إلى الداخل بارتباك ، على أملِ أن يحتمي بشيء، حتى لو كان قبضة من قش . فلم يسعفه وقته. فالتفَّ الكلب ليفوّت عليه أية فرصة للخلاص .
فاز الكلب بنيل فخذه، منتفضاً بها . كأنه يمعن .. أن يقتطع، ما أمسكت به أنيابه .
أرتبك أكثر، فاسند قفاه إلى الجدار، متلافياً أن يركع أمامه . متجاوزاً اندفاع الكلب، لكي يكون بوسعه أن يبتعد . بينما ظلت يسراه تهش الأخريات .
الكلب الكبير يمعن باقترابه أكثر من بغيته . أن يكتسب نقاط ضعفٍ أُخرى .. فيطلق هريراً مزمجراً. و الأخريات أمسكت بأذياله، كأنهن ملتزمات بأدوار .
روّعته تلك اللحظات .. كفرد مستلب ، لا يملك عوناً سوى يساره.التي تحاول أن ترعبهن ، و تحيّد البقية بجهد مشتت ، يفتقر لفرصة متكافئة ، و الكلب الكبير يمعن باختراق الجوانب الأكثر ضعفاً .
أنفاس الكلب المتوحشة ، تلهب وجهه. و الأنياب الشرسة، توشك أن تطبق على نحره . فيهشّه بيساره . يحتوي الكلب ذراعه بين أنيابه، و ينتفض فيها نفضاً .
يدفع بيمينه تلك الرقبة المشعرة المتوحشة، ليبعد الأنياب ، و يطبق عليها بكل ما أُوتي من قوة ، آخذاً بخناقه .
يزداد استماتة بمقاومته التي تشبثت بحب البقاء . كأنه يستشرس بوجه شراسة الكلب . كأنه يستميت و يتصلب كالحجر . و يفزع إلى حالة التوحش . ويتدرع بصوت.. قٌدّ من لغةٍ ليست بآدمية . صوت قد استلّه من عالم سحيق . عالم التفاهم باختراق اللحم و تذوق مذاق الدم . كي يتعامل ، بما هو من لغة التوحش و الضراء . بصوت .. و كفٍ.. و تكشيرةٍ :من سلاحٍ خارقٍ لا إراديٍ ينكفئ به : إلى روح البدائية و التخاطب بسيادتها آنذاك .
فلكي يواجه تلك الهجمة : جرى ابتلاع التحسس بألم اليد . حينئذ .. أمعنت اللحظات تترادف كالشهب بما لا يتوقع . فبرقت بسياقات حدثية ، تومض بذهنه الذي استعاد بعض صفائه . فتنفلت ذراعه من فم الكلب لتعزيز مقاومته ، و لكي يتجاوز دائرة الحصار ، فيُطبق بيديه على رقبة الكلب ،و يستميت بذلك . ثم تستدير ساقاه بحركة واعية ، ليُحكِمْ سيطرتَه على العنق ، ثم يطرحه أرضاً ، و يعتلي بثقل جسده من فوق رقبته ، ليزيد من خناقه مطلقاً صوتاً عالياً مزمجراً. وعبر زمن مجهد ٍ، لا يذعن إلى سطوة مخالب الكلب الجارحة . و عبر هذا الصراع الدامي .. يستحيل الكلب إلى جثة هامدة .و الأُخريات تُولّي الأدبار .
حين استرد أنفاسه المتلاحقة .. عاد ليبحث في بقايا ثيابه الممزقة ليعثر على مقدحتَهُ و لفافة ولّعها بيد مرتعشة مألومة ، ثم جمع كل ما أمكنه من حطام الحلفاء و أضرم النار .
بدأت النار تضطرم . اقترب أكثر . أسفرت تلك الظلمة عن أسواق مقفرة . استكان في العمق إلى الدفء. فأتاح ذلك له : أن يتعرّى عن ثيابه المبتلّة بالمطر و الدماء .
ألسنة النار تمتد إلى كل شيء قريب . المهم أن يتدفّأ ، أن يغمض عينيه ولو إلى حين . فأحس : أن الوهج يداعب جفنيه و يحيط بجسده من كل مكان . كان الهشيم يحترق و يتلاشى سريعا. كأنه عزومٌ أن يضطرم . فواصلت السنة النار زحفها نحوه . راقبها بنصف اغماضة. كأنها امرأةٌ متوهجةٌ، هي ليلى . شعشعت غلالتُها بنور خاطف.وشعر كحقلٍ ذهبي. أقبلت بذراعينٍ مشرعتين، لكي تُطبق عليه بشوق شبقي طاغ ٍ . انزوى لها مقرفصاً ليترك انفراجا رحباً ، نحو جسده المتعب ،و لينغمر بكامله في لظىاها .مفسحاً للهفتها متسعاً، لكي تتقدم وتغمره بقبل ناريّة.
يتعالى صوته المستغيث ، بينما هي تطفئ لظاها في جسده. والأيدي النورانية، تسدل على بوّابة الملاذ.. غلالةً من سحبٍ بيضاء.
كان مشهداً عرسياً.. تكتمل طقوسه سرّا . وأن تتألّق القناديل ، بإتجاهات شتّى .
أمعن الأجيج .. يدفع بأعمدته المضطرمة. و سقف السوق يتزحزح، لكي يتردد نداء العاشق عبر الفناء ولكي تنجلي حلكة المدينة، و تمتد ألسنة الأجيج باتجاه السماء.
المدينةُ ترقدُ، في عزلةٍ عن هذا الاحتفال. لكنها ..تهجس في عمق نواح مطري ثقيل: إن ثمة استغاثة مبهمة ، لنداءٍ مستضام، تعالى على نحوٍ موجع ثم تلاشى .

موسى غافل الشطري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى