رسائل محمد زهير الباشا الى شربل بعيني

1-

دمشق/السبت/26-9-1987
أخي الأعز الشاعر شربل بعيني المحترم
تحية شوق ومودة وبعد
فمن يد كريمة ونفس سمحة، وصلت إليّ مؤلفاتك الخمسة مع مؤلف الأستاذ كلارك بعيني، ويبقى فضل هذا الوصول للأخ الأديب الأستاذ نعمان، بعد أن استفسرت عن وصولها بالبريد، وكان الجواب سلبياً كعادة نبلاء هذا العصر.
أخي الأعز..
البحث عن عبير وردة فواحة مشكلة كل عاشق، والإنغماس ذوباً برؤية بسمة، هي قضية كل شاعر وفنان أصيل، والحب كل الحب صدق يتوهج في كل قلب، والضمير المتيقظ على غروب أمل يشقيه فجر يتوهم قربه.
وإذا ما سارت النفس مع كلماتك في مؤلفاتك، يسعدها أن تلتقي بها لتعرف كيف أن طريق الجلجلة وحده يصنع الأرواح ، ويهندس النفوس.
كم كانت لحظات ممتعة وأنا أتلقى من الأخ نعمان تلك المؤلفات، وكم كانت لحظات ممتعة وأنا غارق في ـ اللوحة الدمشقية ـ الخصبة التي رسمتها بإمعان وإخلاص للحرف أنامل الدكتورة سمر العطار.
وكم كنت أتمنى أن أعرف ألوان ومشاهد تلك اللوحة التي ظلت في درج الاختفاء لا يعرفها إلا المقربون والعارفون، لكن ليس لي نسخة سوى النسخة التي تفضّل بها وأعارني إياها الأخ نعمان. ليتك تتوسط لي مع الأديبة فترسل لي نسخة من روايتها، التي زخمت وجمعت ونوعت، إذ يحلو لي العودة إلى روايتها لأستقي منها دراسات جديدة، لعل الأمر يتوفر لك، فأكون لك من الشاكرين.
كما يسعدني أن أجعل من دراستي المتواضعة عن مؤلفاتك كتاباً خاصاً بنتاجك الشعري، فما هو رأيك؟.. إذ الدراسة الموجزة، نقداً أو شرحاً أو تعليقاً، أو تحليلاً، تبقى مغامرة قلم في لحظة توهّج، أما الدراسة الموضوعية الشاملة التي تظهر في كتاب تكون أجدى على الأدب العربي (في المهجر الأسترالي). بانتظار موافقتك، أتمنى أن أقرأ لك المزيد المزيد من هذا العطاء الغني، وأنا اليوم أعيش أسعد الأيام مع مؤلفات شعرية لأديب مهجري في البرازيل، ليكون اليوم الآتي كتاباً متكاملاً عنه.
مع أطيب تحية وأعمق مودة لكم وللأخ كلارك، وللأديبة الروائية الدكتورة سمر العطار، وبانتظار رسالة من يدك التي تزرع الأمل في القلوب.
وإلى لقاء قريب.
محمد زهير الباشا
دمشق

***

2 -

دمشق/1 كانون الثاني 1988

أخي الأعز الشاعر شربل بعيني

تحية طيبة وبعد

فأرجو أن تكون والاخوة الأدباء في أتم صحة وعافية.. فآلة العيش صحة وشباب، كما قال أستاذ الشعراء المتنبي، وكيف يمتلك الأديب صحته وهو يقدم دفء حياته من أجل من يعشق وما يعشق، وقلبه شباب دائم لا يعترف بالمشيب؟!

أعيش هذه ألأمسيات مع مؤلفاتك عيشة الزاهد بكل صفحاتك، أقرأ تصويرك المجنح، وأتلمس عذاب الضمير، هذا الضمير الذي رفّ سلاماً وبركة وحضارة في كل عصر، حين التقت الأرزة والنخلة في مضمار عطاء حضاري نبيل.. ويطول الحديث عن الاستعمار وذيله اسرائيل، فقد نام الضمير العالمي، استغفى واستعفى، استجلبوا ضمائر قدّت من نار السامري، ولم يتذكروا حساب فرعو على ميزان العدالة بريشة طاووس. واستلبوا من الانسان نور عينيه، منذ وصول رسالتك إليّ، وأنا أعترف لك بأنك منحتني ثقتك الغالية اعترافاً، أود من خلالها أن تستمر مواسم الخير والجنى بيننا، ليكون التعامل مثمراً، وقد تعودنا على الوضوح، لهذا كثر العزال والحساد واللائمون ووو..

فكرة تأليف كتاب لاقت منك الثقة والتأييد، هذا جيّد، ويمكن الارتياح لهذه الفكرة، لكن الصعوبة يا أخي تكمن فيما يلي:

1ـ موافقة من الجهات الرسمية تحتاج إلى أشهر.. فالجهات الرسمية عديدة، ومن الضروري أخذ موافقتها.
2ـ تأمين الورق الجيّد للطباعة يكلف كثيراً كثيراً، إن من السوق السوداء الخاصة، أو من غيرها.
3ـ تأمين الكرتون.
4ـ أجرة الطباعة في هذه الأوقات غيرها قبل عام أو عامين أو ثلاثة.. وأنتم تدرون بالأسعار وبالتكاليف من أجل أن يكون الغلاف جيداً، فهي باهظة.

لهذا فإني أقترح ما يلي..

استمر بتأليف الكتاب عن نتاجك الأدبي، وأرسله إليك مطبوعاً على الآلة الكاتبة، وفي سيدني تتكرم أنت فتشرف على طباعته ونشره، فالطباعة لديكم أسهل من غيرها في بلاد أخرى.. (وأن توافيني بتفاصيل عن حياتك بترجمة تبين فيها صعوبة الحياة في الوطن، في المهجر، الأعمال الكاملة التي قمت وتقوم بها). ويمكن أن يكون الكتاب يحمل عنوان: شربل بعيني بأقلامهم 3، أو أي عنوان آخر يتفّق عليه.

بانتظار ما يمكن أن نتفاهم عليه، أتمنى لك دوام العنفوان والغضب، وأن يبقى صدرك بحراً زاخراً يقذف الطحالب من براثنهم.. لكن لي عتاباً على الدكتورة سمر العطار، كنت بانتظار رأيها حول ما كتبت بكل صراحة وقوة، إذا بي أفاجأ بكلمة شكر ترد في رسالتها للأخ نعمان، مع العلم أني أتلقى رسائل حول ما أنشر عمن يكتب ويبدع، إلا صاحبة اليراع المتمرد، فأنا لا أكتفي بما ورد.

وللأخ كامل المر أطيب تحياتي، فقد وصلتني تحيته برسالة للأخ نعمان.. فشكراً له.

تحياتي الصادقة إلى الأخ كلارك، وليبارك الله لكم غزارة الرؤى والمزيد المزيد من الغضب على لصوص الدم والثروات، والجاحدين، والذين لا يعملون ويسيئهم أن يعمل الآخرون.

مه هذه الرسالة صورة عن مقالة حوارية: حوار في ضباب، أرجو أن ترى النور في إحدى مجلاتكم، وأن توافيني بنسخة عنها.. (الجورية والقذيفة)، فمتى يعود العطر إلى شمس بلادي؟

المخلص

محمد زهير الباشا

***

3 -

دمشق/9 آذار/1988

الأخ الأعز والشاعر المرهف الاستاذ شربل بعيني المحترم

تحية صدق ووفاء ونحن على درب العطاء

وأنت تبني في قصيدتك الواحة الغناء
لكن الطحالب أكبر وأشد افتراساً من شوك الصحراء.. عجبي..

رسالتك تثلج قلبي، واشعر بدفء كلماتها، فإذا كان البريد يعمل على الفحم الحجري فهذا إطراء، لأن فيه دفئاً إنسانياً، بعد أن أصبح الأدب ينمو في حلوق المتاجرين بالانسانية.

لدي، على اختصار، من المخطوطات ما أن أنظر إليها وأراها خبيئة الدروج المظلمة والأرفف المغبرة، حتى ألوم نفسي كيف كتبت؟ ولماذا؟

هل أنفقت من عمري زهرة السويعات وأمضيتها لأكتب؟ ولمن أكتب؟ للجاحدين.. للسارقين من عيون الأطفال فرحة عمرهم؟!

وما الجاحدون والسارقون إلا أولئك المتطفلون على ألأدب والفن والكلمة!..

لدي مخطوطة عن الإنسان الذي خدع بالأسلحة الفاسدة عام 1948م.. وهي رؤية. ومجموعة قصصية عن الواقع الاجتماعي والنفسي المرير. ومجموعة قصصية للأطفال، ودراسات في النقد، وآراء حول الأدب والشعر. ولم أتمكن من نشر سوى:

- مجموعة قصصية بعنوان: خيوط من رماد.
- ومسرحية انتقادية عنوانها: من تحت لتحت.
- وموازنة شعرية حول شعر حسان بن ثابت في الجاهلية والاسلام.
وهناك في المصنفات دراسات أخرى عن أبي تمام، وجرير، والنواسي وابن خفاجة.

لهذا كله اشعر واني في القطب عند جزر الفولكلاند، كما تسميها بريطانيا العجوز، أرقب تيارات الرياح، وأصطدم بثلوج يسيّرها زعانف الحيتان.. وطلب مني أخيراً أن أؤلف بعض ألأغنيات، وبدأت فعلاً بتأليف أغنية متواضعة ، صغت مطلعها: حبيتك مليون مرّه.. وشرع الملحن والمطرب بالتمرين عليها.

لم أكن أتصور يوماً أن الظروف تجبرني على أن أتنازل عن أجواء الدراسة والبحث والتنقيب إلى جو أحبه، وهو جو الغناء والموسيقا. اما أن أؤلف أغنية، ويطلب مني الأغنية الراقصة والنشيد الوطني، فهذه اسطورة من قدر يتلاعب بأعصابي، إذ لا بد من التنازل في عصر العمالقة بأسلوب (حك لي لحك لك)، فالحك بالتبادل يؤدي الى الامن الدولي.

في الاسبوع الماضي، تكرّم عليّ الأديب نعمان بزيارة، وجرى الحديث حول تأليف كتاب شامل عن إبداعك، وشعرك، فتفضل الاخ نعمان ووضع النفقات بالليرة السورية، وفق ما يلي بصورة أقرب إلى الصواب، وهو المتمكن من معرفة النفقات:

240 صفحة× 15 ملزمة× 1500 ورقة

النفقات:

45000 ل س ثمن ورق + 15000 ل س تنضيد وبلاك + 5000 ل س ثمن غلاف + 4500 ل س اجرة طباعة + 4500 ل س اجرة تجليد. المجموع74000 ل س، بما يعادل 2500 دولار أمريكي/ لألف نسخة فقط. ترسل إليك 500 نسخة، والباقي 500 نسخة توزع بسورية، ويكون ثمن النسخة 74 ل س، الكلفة بما يعادل دولاران ونصف. وهذا الأمر يتم بالاشتراك مع الأخ نعمان إن وافقت على هذا الأمر، أما إذا وجدت الأمر سهلاً لدى طباعته عندكم (وباسمي فقط) على باب التواضع، فأرجو إجابتك لأتمم ما أزمعت به حول تأليف الكتاب عن مؤلفاتك، وسأعلمك بتسمية الكتاب، فأرجو التفضل بإبداء الرأي حول هذا الأمر.

إن المادة، الدولار، يقف كالغول يفترس كل ابداع، ليبقى صوته هو الأعلى، ولو صرخت جميع القبائل بأفريقيا إنها جائعة، لرمى لها بالنتف من الخبز المحمّص، فتركع وهي أم الخيرات في هذا الكون.. تجوع ثانية.. وقرناً.

أشكر لك اهتمامك بما ينشر لي، وكنت أتمنى لو تفضّلت بنشر الأبجدية كاملة عن (وذقت الذي ذقته مرتين)..لعل ذلك يكون أوضح في الحديث عن ألأخطل، وما مازجه من لقاءات فنية بشعرك وزجلك.

تحياتي إليك، وآمل اللقاء بنبضات قلبك التي أستمد منها الرؤية لخير البشرية.

أحييك مع سلامي إلى الاستاذ كامل المر، متمنياً للجميع دوام الصحة والسعادة. أما راحة البال.. فكلنا في الهم شرق.. أو قل معي: فكلنا في الهم سيدني.

دمت أخاً كريماً وشاعراً ملهماً..

محمد زهير الباشا

***

4 -

دمشق في 23 نيسان 1988

الأخ الأعز شربل بعيني الأكرم

تحية صدق في كل كلمة أرسلها اليك، وما اعتاد قلمي إلا الصدق في زمن مغلف بأقواس قزحية تحتار كيف جمعت فكان البياض على معادلتها يوحي بصفاء القلوب.

شكراً لك أيها الأخ الأعز على هذه الثقة الطيبة، وأرجو ألا تكون بأي حيرة تشغلك، أو أرق يبعد عنك وعنا أنغماسك في دنان الشعر، وخوابي الابداع المترفة في شعرك.

فعقب اللقاء مع الأخ نعمان حرب، وهو شقيق الروح كما تعلم، وأنا لا أميّز بين شاعر وأديب، فكلهم في الضمير رفاق الكلمة الت تحارب الطاغوت والاستغلال والتشرذم.. أطلعت الأخ نعمان على رسالتك، وتم الاتفاق وفق رسالته إليك، ووفق ما جرى التعاهد عليه.. تكون الدراسة التي هيّأت مخططها وفهرسها وزواياها حول إبداعك الشعري، وأنا ما زلت غارقاً في أجوائك، تكون الدراسة من الوجهة الفنية والابداعية والتصويرية مهيأة بقلمي المتواضع ، ويقوم الأخ نعمان بالترجمة الذاتية والمقدمة، وتكون محتويات الدراسة واحدة من قبسات الأدب المهجري، عقب موافقتك على هذا الاتفاق.

وقد تفضل الأخ نعمان مشكوراً، فتسلمت منه ديوان (ألله ونقطة زيت)، قل لي بربك.. هل بقي في قنديل فيروز نقطة من زيت لنمسح ضمير المقاولين، وباعة الرقيق وتجميع الذهب في كنوز خبّأها علي بابا ومعه أرقام الخزائن.

قرأت كلمة الدكتورة سمر العطار عن المرأة العربية كيف تنظر إلى نفسها.. إنها أديبة متمردة على جدار مهترىء.. حلو تمردها، تصيب المفصل ولا تدمي.. تدمي العيون تقرحاً ولا تجرح.. بل تجرح المتضرر لتري العيون أين مكامن النفاق. تحياتي لها.. مع أطيب تحية للأستاذ ألأديب كامل المر، والأستاذ فؤاد نمور، والاستاذ أكرم برجس المغوّش.. وإلى لقاء برسالة من لمعة أناملك.

واسلم لأخيك

محمد زهير الباشا

***

5 -

دمشق في 16/7/1988

أخي الأعز شربل

أطيب تحية لأغنى قلب

وبعد..

فإني لأشكر لك إرسال رواية الدكتورة سمر العطار عن (البيت في ساحة عرنوس)، ولقد حاولت تصوير رواية لينة، لكن الظروف لم تسنح لي بذلك، فكنت أسجل المقولات عنها اعتماداً على الدراسة الأولى فحسب.

وسلّم الله يديك بنشر هذه الرواية الثانية التي وصلتني اليوم السبت، وسأبحر في ثناياها، فور انتهائي من طباعة الدراسة الأدبية النقدية حول دواوينك الشعرية وفق المنهج الوصفي والمنهج المعياري.

فالدراسة مهيأة، ولله الحمد، واسمح لي زمناً يتناسب مع العودة من جديد إلى دواوينك، وعلاقاتها بالدراسة وفق ألأبواب التالية مع عنوان مؤقت: شربل.. شاعر يبحث عن الله.

فمن هو الله؟
ما ذاتيته لدى الشاعر؟
ما هي رؤيته الجمالية على ضوء الأرز والوطن والانسان والله؟

الأبواب مؤقتة قابلة للثبات أو للتغيير:

1ـ مقدمة عامة
2ـ لبنان
3ـ الغربة
4ـ عالمه الداخلي
5ـ المراهقة
6ـ مجانين
7ـ عالمه الفني ورؤاه وصوره
8ـ الله..

واليوم بدأت بطباعة الباب الأول والثاني، ولي عودة عدة مرات إلى دواوينك، مع الله، ومع الدراسة معاً.

أكرر لك أن هذه اللغة كمثيلاتها عاجزة على التعبير عن أدق ما يود ان يعبّره القلب بقلم متواضع، يحمل كل معاني الحب والسمو والمودة في هذا الزمن ألأغبر. وأرجو أن أقوم بهذه المهمة المسؤولية، فالثقة هي المروءة، هي العدالة، هي النور الذي يجمعنا لخدمة الإنسان، كي يعرف الحقيقة، وما الحقيقة إلا جوهر الإنسان، والانسان ظل الله في أرض. سأرسل الدراسة فور انتهائها بإذن الله.

لك مودتي وتحياتي مع أطيب سلام للدكتورة سمر، وللأديب كامل المر، واسلم لأخيك

محمد زهير الباشا

***

6 -

دمشق في 27/8/1988

أخي الأحب شربل

تحية غالية وأمنية أغلى

ألف عذر وعفو من قلبك الكبير لاضطراري إلى التأخير بسبب تغيير عنواني المدون في الأسطر الأخيرة من هذه الرسالة، حيث تأكد سفري، وسأتوجه إلى عنواني الجديد بعد ثلاثة أسابيع من تاريخه، لهذا أرجو موافاتي بكل ما يستجد من نتاج أدبي وفني وفكري.. ولن تنقطع الصلة ألأخوية بيننا طالما استبشرنا بالخير مع طلوع كل فجر، فسوريا كل يوم تواقة كي يكون الوطن كله بعيداً عن الشرور والآثام.

وقبل وصولي إلى ذلك العالم الجديد.. أحييك، فقد أصبحنا غرباء، وكل غريب للغريب نسيب، والغربة طويلة قاتلة، والسنابل خيّرة في البيادر، وحب الوطن في الدم لا تغيره الأمكنة ولا الأزمنة.

الدراسة بين يديك كما عهدتك أمانة ورسالة، فأنت حر بما تضيف أو تحذف أو أو.. طالما وجدتها أمانة بين ناظريك، فالعمل نحو ألأفضل والأكمل هو غاية الغايات.

تحية الطيبة للدكتورة سمر، وللأخ كامل، وللاخوة الزملاء.

مع خالص الحب والاحترام.

رجاء إعلامي وصول هذه الدراسة وشكراً سلفاً.

أخوك

زهير

محمد زهير الباشا

***

7 -

22/10/1988

الأخ الأوفى شربل بعيني المحترم

تحية صدق ووفاء وأشواق وبعد

فاليوم وصلت إلي رسالتك المكتوبة بخط يدك الطيبة، وسررت كثيراً لوصول دراستي المتواضعة عنك. فأنت الشاعر الذي أدرك من مفاهيم الكون ما لا يدركه غيرك، ووضعت يدك على اسرار هذا الوجود وضع من يعرف ويناقش ويستوعب، فلا ضبابية ولا انطلاق في مساحات الوهم ومشارف الخيال، بل جندت خيالك وأحلامك وطموحاتك لتكتب حروفك بتوهج فؤادك، فكانت دواوين لهوى الفؤاد، وملاذاً لكل خفقة تألمت من وباء هذا العصر وأمراضه، ولا مجال لأي احصاء عالمي أن يعد هذه الأمراض بدءاً وانتهاء مما هو كائن على البسيطة.. اسمه الإنسان.

وكنت اسجل مقاطع الدراسة في وقت صعب جداً، ولكني تابعت وتابعت رغم الأقاويل.. رغم أن الكثيرين يودون أن يأكلوا لحوم الآخرين، وسررت بأن العمل جارٍ على طباعة تلك الدراسة.

ومع السرور.. ان كتاب الاستاذ كامل المر في مشواره، جاء إلي مع رسالتك، وإن أولى الرسائل خارج حدود العالم الجديد قد وصلتني من يد ابنتي القاطنة في لندن. وكانت رسالتك الأولى من أستراليا، فكان لها الوقع المفرح في قلبي.

الآن توزّعت أسرة الباشا إلى قارات ثلاث: الإبنة في لندن.. شمل ألأسرة في أميركا.. بقية جذور الاسرة في الجزائر.. أخت واحدة ووحيدة في دمشق. وليتني أستطيع أن أشرح ما أنا فيه من عذاب لفراق الوطن، وأن أشرح لك ما هي الأسباب التي ادت الى خروجي منه.

كنت في الوطن غريباً، والغربة فتاكة في حضن من تهواه وما تهواه، وقد فقدت كثيراً من العناصر الإنسانية في أرض الوطن، وصبرت، وصبرت، حتى استطعت أن أهيىء لأبنائي الحياة الصعبة في هذا العالم الجديد. وإنها، أيها الأخ الأعز، ليست رحلة إلى هذا العالم المتفجر بالعمل ليلاً نهاراً.. إنها عملية بقاء مع الأسرة في فرجينيا، قريباً من واشنطن دي سي.

أخي الأوفى..

ليس هناك أصعب وأتعس وأقسى من أن يظلم الانسان أخاه، ابن عشيرته، ابن حيّه، وقد تنفّس كل منهما هواء الفصول، وشربا من نبع الحياة، ورغبا باقتطاف كل الثمرات المباحة، او التي تحمل شهامة لا خوف عليها.

وفي دمشق، كنت أعيش بين جدران بيتين:

أولاً، بيتي الذي أبيع أثاثه الذي اقتنيت منذ سنوات وسنوات، ويحز في قلبي اني أبيع ما كانت تصبو إليه نفسي: الكتب يا شربل، مقدسات الفكر، خلاصة المشاعل الحضارية، أبيعها لتاجر يجمع الكتب بأنواعها، والمجلات بألوانها، ليبيعها على الأرصفة بدمشق، وليخبىء بعضها فيتاجر بها.. خناجر من الحزن والألم والشقاء كانت تحز في جوارحي لحظة كنت أقدم كتبي للبيع.. والثمن بحس.. كثمن الانسان في بلدي، عفواً، في بلدنا.

وأنظر.. هذا السرير نمت عليه، والنافذة تلك فتحتها للشمس، وهذه غرفة السفرة، يشتريها تاجر هو موظف بالجمرك.. ووو.. وعملية البيع أخذت مني كل ألأوقات، وجلبت عليّ التعاسات، وعرفت أشخاصاً على حقيقتهم، فمنهم، وهم قلة، وقفوا معي بعواطفهم، واستعدادهم للبذل. ولا بد من أن أشرح لك الاسباب التي دفعتني للرحيل.

ومنهم من كانت صداقتي لهم تزيد على عمر بيتي هذا، يستغربون ثمن الأثاث، وثمن الكتب، وأشهروا بوجهي سيف المقاطعة، بل سيف النكران لعهد كان بيننا، وصداقة كنت أظنها وطيدة، لكنها تهافتت.. رغم أنهم لم يشتروا ، ولم يشجعوا، ولم يخففوا عني بكلمة، بل كانوا ينقبّون عني: لماذا تسافر؟ وأين؟ ومتى تعود؟ وهل من الضروري السفر؟ الخ. مما لا يجروء قلمي على ذكره، ويا للأسف. وهم يعلمون أن عليّ أمانات عقب ترحيل زوجتي، ثم ترحيل ابنتي، ثم ترحيلي إلى فرجينيا، والأمر كان في غاية التعقيد، لولا رحمة ربك.

ومهما تحدثت إلى قلبك الكبير، فإن لي به خفقة مودة تخفف عني متاعب تلك المرحلة، ومتاعب هذه المرحلة التي أستعد بها فأعمل في الأكايمية مدرساً للغة العربية وآدابها، وأضع نصب عينيّ تدريس مادة ألأدب الحديث والنقد المعاصر في إحدى أقسام الدراسات الشرقية في إحدى الجامعات، لكن هذه الفكرة الأخيرة تحتاج إلى وقت، وإلى صبر، وإلى دراس للإنكليزية، حيث أني أضعف من ينطق بها الآن، وتحتاج إلى إقامة دائمة، وإلى بحث مستفيض، وإلى نوع من المساعي الطيبة لدى المطلعين على هذا الأمر.

ثانياً: البيت في ساحة عرنوس، كنت أقرأه وقرأته بدمشق، فعشت في بيتين معاً، وخاصة وأن البيت في ساحة عرنوس قريب من بيتي في دمشق، زرته، لا يفرق بيننا سوى شارعين صغيرين، بينهما مخفر الشرطة والشرطة في خدمة الشعب كما يعلنون.

والآن، عدت إلى البيت فر عرنوس لقراءة جدرانه، ومعرفة أحوال من كان قبل عشرين سنة من باعة ودكاكين. صحيح إني بعت البيت في دمشق بثمن بخس، لكن بقي معي البيت في عرنوس، أقلب صفحاته، وأتصور أماكن الأحداث، وأرى الأماكن التي بقيت حتى الآن، وما الذي طرأ عليها.

الأخ الأوفى..

اعذرني.. اعذرني، فقد أطلت، ونحن في القارتين غريبان، وكل غريب للغريب نسيب، وأنت لم تكن ولن تكون غريباً عني، فأنت الأخ الأوفى، حماك الله من السوء ومن أهله، ومن دعاة الزيف.

مع تحياتي المخلصة للدكتورة سمر العطار، والأخ كامل المر، وأرجو أن أوفق فأطوف في مشواره معك.

إلى اللقاء، واسلم لأخيك

محمد زهير الباشا

***

8 -

الثلاثاء في 29/11/1988

خيي شربل..

تحياتي وأمنياتي لك بالتوفيق.. وبعد

فقد ألبستني من الأثواب ما جاءت على مقاييس عديدة، فكيف أرد لك بعضاً من جميلك ومعروفك؟ يكفي منك (خيي زهير) في عصر ماتت فيه أرواح الأشقاء.. وجدت في كلماتك كل معاني الأخوة، فلماذا نتشرذم ونتقاتل على المادة باسم التمدن وانتشار العدالة ـ الممطوطة ـ أفراحي ما زالت تصبو إلى أن أدخلت الفرحة في قلبك، لكن هذه الأفراح جاءت في أعسر الأوقات.

أكتب إليك هذه الأسطر وأنا في مستشفى فيرفاكس، عقب زيارة أم العيال، التي أجرت البارحة عملية في قلبها، الذي تحمّل قساوة هذه المرارة، هذه الحياة.. واستمرت العملية الجراحية من الواحدة والنصف إلى الخامسة، وعدت إلى البيت فوجدت النسخ الثماني عشرة مع الجريدة (صدى لبنان)، صدى الحق والقوة، كم كان سروري بها عظيماً، لكن رؤية أم العيال عقب العملية الجراحية أسكت فيّ منافذ البهجة. سأعود إلى الجريدة، طبعاً، وأشكر كل من تفضّل فشكر لي جهدي المتواضع بكتابة ما أحسست به، وأنا أتصفّح بنبضات قلبي كلماتك، وأقرأ فيها المآسي وأصرخ معك على المجانين، حتى عدّوني واحداً منهم، وعلى ألأقل صنّفت مع أهل الغفلة فتصور؟..

وقبلت هذا الجنون والتحدي، وكأن الحياة دراهم وشيكات!.. قالوا: أتكتب هكذا؟.. قلت: أكتب هكذا، وفق خطي أنا لا خطكم.

وقالوا: أتقدم نتاجك إلى أستراليا ولا تدري ما الذي سيكون؟ قلت لهم: إني أعرف ما سيكون، إنها أمانة مرسلة من أخ إلى أخ أعز، عرفته عزيز الجانب، عرفته عزيزاً كريم لمحتد لأني قرأته لا كما قرأتم أنتم أشعاره، وعرفت مواقفه لا كما ادعيتم انكم تعرفون مواقفه وأهدافه.. كما عرفتها.

وكثر الجدل وطال بين مدّ يودون إغراقي بسوطة مميتة، وجزر يثبتون فيه أن الجحود بين البشر هو الأصل.. وتأخرت الدراسة إليك برهة من زمن، حتى أكملت النظرة الواثقة من أني قمت بواجب تجاه أخ عشت بشغاف قصائده، وأحسست بما بها، لا كما أحسوا وأرادوا، وكأن النتاج صفعة على وجههم.

وقلت لهم: سأرسلها.. فاستغربوا: أترسلها بدون عقد وربط؟ وقلت لهم: ستطبع على نفقة قائلها.. فاشتد استغرابهم. واطمأنت نفسي أنها سافرت إليك، قبيل سفري ورحلتي إلى هذا البلد.

فألف شكر لهذه النيات الطيبة التي جمعتنا، وللأهداف التي قوت إيماننا بالكلمة. وألف شكر لهذه الاسرة اللبنانية التي تفضلت بشكري، وقد حملتني مسؤولية البحث عن أسلوب أخوي، أود به أن أد على شكرهم، وليس لي سوى المزيد من الصلة الأخوية، والمزيد من المودة والوفاء، والمزيد من التخطيط لدراسات مستقبلية قادمة، نرفع بها كل نتاج إلى أفقه، فليقبلوني كلمة متواضعة على شفاههم.

ولصدى لبنان كل الامتنان، فملأت صفحة من جوانحها، وأنا الانسان المتواضع جداً، أبحث عن ظلال الزيتون والارز لأحتمي من لمعة شمس. فمنذ الخامس من الشهر الحادي عشر، ونحن ننتقل من مستشفى إلى مستشفى، فالأولى كانت مستشفى ميل، والثانية مستشفى ألاكسندريا، والثالثة فيفاكس.. الآن، وقبيل إجراء العملية أخذوا التواقيع تلو التواقيع، ليضمنوا التكاليف، إذ ليس هنا تأمين صحي إلا لمن يشترك بمؤسسات تكفل له النفقات، وأنا جئت إلى هنا في 28/9/1988. المهم.. أن امورها الصحية على خير، وقد أجرى لها العملية الجراحية الدكتور ماهر عقل من الحازمية، متخرج من الجامعة اليسوعية، وهات حديث عن لبنان وأحداثه، وأحداثه دماء لم تكن لتشفي غليل قاتل أو قناص مأجور، أو متهور مأفون.

لك أيها الأخ النجي أن تعذرني على تأخر رسائلي، ففي هذه الأيام أصحو الساعة الخامسة والنصف، لأستعد إلى الذهاب إلى الأكاديمية لتدريس اللغة العربية. فأنا موضوع تحت التجربة، أصلح للتدريس أم لا أصلح؟ تلك هي القضية كما قال شكسبير.

الراتب الشهري متواضع، وأكرم بالتواضع، وإذ لا يحق لي فرض أي شرط، ولم ينظروا إلى خبرتي بالتدريس بدءاً من المرحلة الابتدائية، إلى المتوسطة، إلى الثانوية، إلى الجامعة. الابتزاز وصل إلى هذه الدرجة، وأنا أقبل وأعرف، فلديّ ما يثبت التدريس بالمراحل الأولى، لكن تدريسي لطلاب الجامعة كان تدريساً خاصاً، فمنذ منحوني الإقالة من العمل باسم الاستقالة، وأنا أدبر شؤوني الخاصة. اعذرني كيف اشتطّ قلمي إليك بهذه الأمور، وأنا أتمنى أن نلتقي بأستراليا لأقوم بتدريس العربية وسواها من دروس النقد مع ألأدب الحديث، لكن لا تقلق، واطمئن، مهما كانت الظروف. ولعلي أجد زاوية في كل أسبوع ارسلها إلى صدى لبنان، فما رأيك؟

لتعذرني الدكتورة سمر فقد تأخرت رسالتي عن كتابها (البيت في ساحة عرنوس)، وكل سطر عنها قد هيأته نفسي. بأقرب فرصة أرسل كلمتي عما خطته أناملها.. فعذراً.

سررت حين أبلغني أخونا نعمان حرب من أن فرع الحزب بالسويداء أقام له حفلة تكريم بمناسبة منحه جائزة جبران، وأن مجلس المدينة قد قرر تكريمه. إنه يستحق كل تشجيع، وكل تقدير، فهو الدؤوب على نشر القبسات. ولا أنسى يوم جاء مع ألأخ مدحة لتوديعي، وكانت لفتة كريمة منه ومن الأخ مدحة أن عرضا علي كل مساعدة ممكنة، وأنا الذي بعت غرفة نومي وثيابي وأدوات الطعام والكتب والأثاث حتى لا أمد يدي لأحد بقرض أو مساعدة أو.. أو.. بل كنت أوزّع ما اشتريته بعرق جبيني إلى من أجد عنده فضيلة التعفف.

لعلك لو تفضلت عليّ فأكرمتني بإرسال النتاج الأدبي والفكري الذي تخطّه القلوب المحبة للأدب وللإنسان ولله.

يا خيي شربل..

أنا ما كرهت يوماً أمطار بلدي، إذا عم قطرها كل يد تضرعت بعد جوع. ولا تأففت لحظة من رعودها لتحيي القلوب الصدئة. ولا خفت من زلازلها التي تمحو المستنقعات المنتشرة في غرف شهريار. ولا حبست أنفاسي من فيضان يبحث عن نوح، ومعه زوجان من كل كائن.. لكنني وجدت الانسان مغتالاً من الثقوب السوداء التي حفرت بأبواب ألأبنوس، لتقتل، لتصطاد، لتنهب، فبعد أن قتلت الروح احتلت المسكن شبراً ونهباً. والأغرب من هذا أنها ثقوب ترفع راية الثورة الفرنسية ، هذه الثورة التي هدمت الباستيل. لكن ثورات عديدة ما قامت إلا على قلاع من الباستيل، الباستيل المتحدث الرسمي باسم الحضارة المتخلفة. واعذرني خيي شربل كم تطول بنا الأحلام وتحلو، وكم يرهف الحس لدى سماع عصفور يعندل في زحمة القطب والصقيع.

وبانتظار أن تفتح لي زاوية متواضعة صدى لبنان، ولأقرأ فيها أبجدية ألاسبوع، أرجو أن يتقبل مني أبناء مجدليا في لبنان وأستراليا، وصحيفة صدى لبنان، ودار راليا للطباعة، ورابطة إحياء التراث العربي، وكل أصدقاء الشاعر شربل، طبعاً هم أصدقائي، كل التقدير والاحترام، وأن يصدر لي عفوهم عن عبارة ألأديب الكبير، فحسن ظنهم بي، وثقتهم بي، ومحبتي لهم، عربون وفاء على مدى الأيام..

عدت الآن من المستشفى مساءً الساعة الثامنة، عقب انتهاء عملية زرع الأوردة المغذية للقلب، وكانت الأحوال جيدة ولله الحمد، ولأسمع دعواتك لها بالشفاء وعودة الصحة.

واسلم لأخيك خيي شربل

محمد زهير الباشا

***

- رسائل محمد زهير الباشا الى شربل بعيني - تابع (9 -18)

9 -

11 كانون الثاني 1989
أخي الأحب إلى قلبي شربل
أطيب تحية وأعطر سلام وبعد
فلا أدري كيف أجمع كلمات الشكر أزجيها إليك، وإلى كل من شكر لي عملي المتواضع، إن في الإذاعة أو الصحافة، صحيح إننا لم نلتقِ وجهاً لوجه، لنتعارف، ولنتبادل الحديث، لكنني عرفتك قبل أن نتعارف. حدثتك بالقلب والعين قبل الحديث باللسان، وحتى الآن، لم أدرِ ما الدافع أو ما الدوافع التي جمعتني بشعرك؟
هل هو الصفاء النفسي الذي لمسته في ثنايا حروفك؟
هل هو العذاب المشترك الذي عانيته في طرابلس، مثلما عانيته على ضفاف بردى؟
هل فقدان من نحب في أرض الفيحاء كفقدانك الأرزة رمزاً للحياة قد جمعنا؟
لم أفكر يوماً في الدوافع، ودوافع التهجير كانت سياطاً تلسع كل خلية في جسمي الذي كابد وصابر على كل أنواع التجبّر حتى تهشيم عظام القلم، فالتجأت إلى الثقافة، مجلة ورجلاً، هو الأخ مدحة عكاش، الذي فتح لي قلبه وصفحات مجلته، وكنت أكتب ألأبجدية وأنا الرقيب الأول على معانيها، أو ما يرد، أو ما يمكن أن يفسّر تفسيرات مغلوطة، وأمامي قول لا أنساه لروتشيلو في القرن البع عشر، حيث قال، ولنعم ما قال: ليكتب كل أديب سطراً على الصدق، وأنا كفيل باتهامه ، وجره إلى المقصلة.
فكنت أكتب على صدق الرؤية والرؤيا، أجنح إلى الخيال، أهرب من سفسطات الكذبة والمرابين، فألقاك في دواوين تحمل هموم البشر، وأنا منهم، وعلى كاهلي ألف ألف حمل من واقع مؤلم، وأنا أعيش الآن على عنوان المنظمة الدولية لحقوق الانسان. سأعثر على العنوان قريباً، وأشرح لها قصة المرارة منذ عشرة أعوام، وقد فقدت ابني، وهو طالب سنة أولى حقوق بالجامعة السورية، وإلى الآن لم أعرف مصيره، وجوده، وكل أجهزة العيون المترصدة بنا، لم تعطِ أي جواب، بل كانت هذه الأجهزة تحقق معنا عن ابننا المفقود، الضائع، المسجون، المغدور، المجهول الاقامة، المنفي عن هذه الدنيا.. لا أدري!

وجئت إلى هذه الديار، بعد أن حاولت الهجرة إلى أستراليا، فلم أفلح، وحاولت الهجرة إلى كندا، لكن السفارة الكندية عقب موافقتها على الهجرة، وجدت أن ثلاثة من أبنائي في أميركا، فطلبت مني الالتحاق بهم.. وطلبت مرة الالتحاق والهجرة الى الارجنتين بمساعدة أحدهم، شاعر شاعر ممتاز، لكنه لم يستطع أن يتحمل القضية، فعذرته لأنه شاعر وصادق.

إذا كانت طعنات الأجهزة مدماة، بعد أن أجبروني على الاستقالة بتوقيع سيد الاسياد، ثم ضياع ابني، ثم، ثم، ثم.. ألا يحق لي أن أرحِّل اولادي إلى ديار الغربة؟

والآن، لي ابنة في لندن متأهلة، وقد تخلصت من الجور، ومعي في هذه الدنيا الغريبة أربعة، ولله الحمد الأور نحو الأحسن.. أما عملي في الأكاديمية، فإني أتقاضى راتباً متواضعاً جداً جداً، إذ لا وساطة لدي تجاه المسؤولين، وقبلت به حتى لا أكون عالة على أحد، ولو أني استيقظ باكراً جداً، وأعود إلى البيت في الساعة الخامسة تقريباً، فهو أفضل من لا عمل.

حاولت النشر في احدى المجلات هنا، لا أدري، نشروا لي أربع مقالات، وأنتظر منهم نتيجة هذا النشر.. وكم أتمنى أن أكون بموافقتك قد نلت الموافقة بنشر الأبجدية الأسبوعية، مثلاً، في إحدى الصحف التي يمكن أن نتعاون معاً على ذلك. فما هو رأيك، كما شرحت ذلك سابقاً؟

اعذرني، إذ يمكن أن تعتبر هذا الرأي لاغياً في حالة عدم استجابة أي صحيفة أو مجلة التعاون معها.. ويبقى بيننا كل الود والمحبة والاحترام، وهي قيم لا يمكن أن تقدر بأي ثمن.

أحاول الآن أن أفتح باباً في مجلة الناقد التي تصدر في لندن عن طريق الأخ نعمان، لكني، وهذا حسن ظني به، لا أدري ما هو موقفه معي عقب نشرك دراستي المتواضعة؟ لا أستطيع أن أحكم إلا بعد أن يوافيني برأيه حول هذه الدراسة، أو أو أو.. والمهم عندي ألا أخسر أي صديق، فالدراسة كانت خدمة لهذا الحب، وهذه المودة، وهذا الاحترام، ليس إلا.. لم أبغِ من ورائها أي نفع مادي، وهذا ما لم يعجب الكثير الكثير ممن تعرف. وكانت ضربة معلم إذ جعلت (كلمة الاعتراف فضيلة) في الصفحة الأولى من الدراسة. إنها إشارة ذكية أصابت كل ألأهداف برمية واحدة.. وقيل حتى حتى وألف حتى إلخ.. ولا تهمني أقوالهم، ولا تخرصاتهم، فهم لا يعملون، ويسؤهم أن يعمل الآخرون.

أعجبت كثيراً بالدراسة القيمة التي قدمني بها للقراء الأخ المبدع أنطونيوس بو رزق، وسرني أكثر سماع صوتك في قصيدتك، وقد أعدت سماعها مسجلة وأنا أمني النفس باللقاء بك، لأسمع حديثك، ولأرتوي من أصالة معدنك الطيب. كما أن التقديم بالإذاعة حول الكتاب كان موفقاً جداً، فشكراً وألف شكر لك، ولكل من أحاطني برعايته، بكلمته الحلوة، ببسمته، بنقده الصادق، وبمن لا يعجبهم ألا يعمل الآخرون.

المهم أن نكتب، أن نشقى، أن نتعب، أن لا ننام وملء جفوننا السهد الذي يؤرق، والأرق الذي يتعب فلا نيأس، ننام لا عن شواردها، بل مع شواردها وسلبياتها، ونصحو على آمال هذه النفس.

إنني أبحث الآن عن المنظمة الدولية لحقوق الانسان، فأود معرفة عنوانها، لأوافيها بالوثائق اللازمة، فتبحث لي عن ابني المفقود في أرض الوطن. لم أعثر حتى الآن على العنوان، سأحاول، رغم لغتي الانكليزية الركيكة والضعيفة، وسأحاول دراسة الانكليزية عقب حصولي على إجازة سوق، وحصولي على سيارة، ربما بعد أشهر معدودات، لا أدري.. فهنا بدون سيارة أقف عاجزاً عن الحركة، لأني أحاول إعطاء دروس خاصة، فيشترط الأهل حضوري لعندهم، وهذا يحتاج إلى وسيلة للمواصلات، والوسيلة متوفرة بأثمان بخسة كما تعلم، سأصبر رغم ضياع فرصة التدريس للطلاب، تدريس خاص لكل المراحل التعليمية.

سأوافيك بنسخة عن الرؤية النقدية لرواية د. سمر العطار، وما يستجد من أمور.

لا تؤاخذني إن جعلت أموري واضحة بين يديك. الكل هنا من المدرسين العرب لمادة اللغة العربية قد أعجبوا بشعرك، وبدراستي المتواضعة، وازداد الطلب لحصول أهل الأدب في هذه الأكاديمية على نسخة من هذا الملاح الذي يبحث عن الله، فما تمانعت، ليتك تستطيع لو تفضلت إرسال نسخ إضافية قدر المستطاع، ولك مني كل الشكر سلفاً.

إنني أعود إلى كتاب المذكرات اليومية والسنوية للأديبة د. سمر العطار، وقلت في نفسي ما قلت وقالت:

خذوا بيتكم فغرفه مفتحة..
خذوا وطنكم، فأنا التائه في ضمائره المباعة..
يا من تعيشون على أجنحة الخفافيش
ولا ترتوون من دماء الأبرياء
ولا تشبعون من كنز الذهب والمتع والتخديرخذوا شوارعكم، فقلبي لم يعد يتهادى في مزارع الابتزاز..
خذوا كلماتكم، وشعاراتكم وجدرانكم وبنادقكم
فدم أخي على التراب أهدر..
ومن أجل ابتسامة لقمره أهدر..
ومن أجل لقمة عيش أهدر دمه
فكيف لي أن أعيش في بيتكم.. إلخ..

أخي ألأعز، يمكن لو تفضلت بنشر أسطر تختارها من هذه الرسالة، فأنا ما زلت إلى الآن أبحث عن بيت، فيه بهو للعنادل، وبهو للغناء، وبهو لمنازل الأقمار، فيه قصص شهرزاد تروى على لسان عاشقة، والعشق في الوطن غربة.

أخي شربل..

أكرر لك امتناني لكم جميعاً، وإن قلبي ليشارككم أعراسكم، مع شكري للأستاذ جوزيف بو ملحم، والاستاذ طوني سعد، ومطانيوس مخول، والاستاذ كامل المر.

وإلى اللقاء..

واسلم لأخيك
محمد زهير الباشا

***

10 -

فرجينيا/12/2/1989

الأعز.. خيي شربل

تحيّاتي الصادقة أبها الأخ الأحب، الأخ الذي أحببته بكل الصدق، وبكل الوفاء والمودة.. ولا تسألني ما السبب؟ وما الدوافع؟

فأم العيال تهديك وتهدي الوالدة الكريمة تحياتها، وإلى الشفاء.. في كل صباح دلائل خير ولله الحمد.. لكنها رغبت بأن تهديها شريطاً تسمع فيه بوحدتها صوتك، وأنت تروي لها غزلك، مواقفك، غضبك، هجرتك، فأكثر أقاربها في لبنان لا تدري ما هو مصيرهم.

خيي.. كيف أستطيع أن أكتب حرفاً واحداً بدون مشاعر وأحاسيس؟ أي جملة أو سطر أتمكن من تسجيله دون أن يختمر ويتفاعل ويضيء لي طريق وجوده، فيرغمني على الكتابة، ونسميه إلهاماً، اما وحياً فهذا للأنبياء والمرسلين!

المعاناة واحدة بين زجلياتك وشعرك ونغماتك العلوية، وبين ما عشت فيه بكل الصدق وبكل الوفاء. وسأزودك بكل ما تنشره الثقافة عن كتابتي المتواضعة جداً، وبهذا وعدني الأخ نعمان.

وللأخ كلارك كل الشكر، وكل الفضل، لما يتكرم به، فيسجل ما ينشر عن خيي شربل في كتاب.. ألله معه.

وكم قرأت في عينيّ أم البنين الدموع والفرح معاً في رسالتك، وأنت تدعوها إلى بيتنا في أستراليا.

ومع الامتنان للشاعر عصام ملكي، وما تكتبه أنت في (ستوب) صدى لبنان، وإن مواقف الأدباء الاشراف تجاه هذه الدراسة يجعلني أنحني لهم بكل التواضع والأدب الجم، شاكراً لهم كل كلمة وكل تعليق وكل رأي.

إنني أحاول الصمود والتجلد، ولا تنسَ خيي شربل أنني مواطن رقم الدرجة تحت المئات.. أي مواطن من دولة الصمود، صمود الكراسي والمزارع والقصور والذهب ووو.. أحاول التجلد في هذه الغربة، خاصة زأن التدريس يلتهم طاقتي، وليس من عادتي أن أضيع دقيقة واحدة على طلابي مهما كان الوقت والواجب.. لهذا فإني أعود إلى البيت لأستريح من العناء والتعب، والوقت الذي أبدأ به من الساعة السادسة وصولاً إلى الساعة الرابعة والنصف والخامسة. على كل الحمد لله والشكر له بأن تهيأت لي فرصة هذا العمل المضني جداً.

أما النشر.. فقد تعجّب أصحاب مجلة (الأمة) الأسبوعية لهذه العناوين التي أرسلتها إليهم شريطة أن يبقى العنوان الدائم كما يلي: أعلام معاصرون في الأدب المهجري.. لكنني أفاجأ بعناوين جديدة.

المشكلة أني لم أستطع حتى الآن أن أقتني سيارة أتمكن بها من التجوال بين فرجينيا وواشنطن دي سي.. فالمسافات واسعة، والسير صعب، ومع ألأيام والأشهر القادمة يمكن أن تحل أزمة السيارة. وضمن هذه الرسالة ما تمكنت من نشره في صحيفة الأمة.

وأرى أيها الأخ الأحب أن نتفق على ما يلي وما اختلفنا مرة بالمواقف، وإن كانت هناك آراء جديدة تخدم النقاط التالية فأنا معك:

أـ ضمن هذه الرسالة: قصة نخلة في صحراء لتنشر بموافقتك، وموافقة الاستاذ جوزاف بو ملحم، وإني لأشكره على كلمته الرائعة: بيكتب ع قلوبنا قبل صفحاتنا.. آه يا خيي شربل، من أين آتيه للأخ الأستاذ جوزاف بكلمة طيبة مثل كلمته؟

سأتابع إرسال قصصي إثر بعضها البعض، لتكون هذه القصص خلال فترة قد تجمعت في كتاب يمكن نشره، وهو يحتوي على قصص قصيرة ذات مغزى إنساني. لا أريد أن أشرح المغزى، فأنت أهل لكل مغزى ومعنى.

ب ـ لديّ مجموعة من قصص الأطفال على ألسنة الحيوانات والطيور وو.. فهل تفضل إسالها دفعة واحدة؟ أم أرسلها قصة إثر قصة؟ لتجمع فيما بعد فتنشر كل قصة مع رسومها وألوانها بالعربية أولاً، ثم تترجم إلى الإنكليزية.. ما هو رأيك؟

ج ـ أنهيت دراسة حول المتنبي برؤية نقدية جمالية: المتنبي يجلو مقلتي نسر. ما رأيك بإرسال هذه الدراسة مع قصائد مختارة للمتنبي.. الدراسة ثلاثون صفحة فقط، يضاف لها عشر صفحات من شعر المتنبي، فتكون دار النشر.. دار خيي شربل قد أخذت طريقها.

هـ ـ في هذه الرسالة نموذج متواضع لأغنية: شارع المواويل.. وأنت الأدرى بالموسيقار الذي يلحنها.. رما الملحن بسام بادور. وأنت الأدرى بالمطربة التي تغني هذه ألأغنية.. ربما ترشّح لها الفنانة عايدة شلهوب أو نجوى كرم أو هند جبران.. أو.. أو.. فإذا وافقت مطربة على كلمات هذه الأغنية ووافق الماحن، فأنت خيي شربل تضمن لي حقوق هذه ألأغنية، ولدي طبعاً مجموعة من الزجليات والأغنيات رفضت بإباء أن تقع فريسة لدى الذئاب من أهل الفن والابتزاز.

أتمنى من كل قلبي أن تجد اقتراحاتي هذه مجالاً خصباً ليديك، فتكون هذه الدراسات وهذا النتاج تحت ظلك أيها الأخ..

* مجموعة قصصية
* قصص للأطفال
* رؤية جمالية نقدية.. الخ..

فإني أخشى على كلماتي من أن تبتلعها الظلمة ويجففها غبار الزمن، لذلك أضع بين يديك هذه الاقتراحات.

ثم نعود إلى ما كتبته عن أدب المهجر في كتاب خاص.. واعذرني إن تجرأت وقدمت إليك مجموعة من آراء.. وليت ابطة إحياء التراث العربي تشارك في هذا النشر إن رأيت ذلك سهلاً أو ميسوراً وأظن نفقات النشر تعود بالخير والنفع على الجميع.

خيي شربل..

كلي أمل ورجاء أن تتيسّر هذه الأمور بهمتك وإخلاصك، فنعمل خطوة إثر خطوة لنقدم إلى هذا التاريخ نموذجاً عملياً مخلصاً.. لا تهمنا مظاهر الحضارة الزائفة يكفي أن نغطي الساحة ألدبية بالعمل المخلص دون أي خسارة مادية طبعاً..

ثق تماماً أنني لم أنسَ ما كتبه ألأخ كامل المر، ولا ما كتبته الأديبة د. عطار، ولكن كما قلت لك التدريس ينهك أعصابي ويتلف ما تبقى لي من صبر. فقد طلبت مني مجلة ألأمة دراسات حول الشعر العربي المعاصر.. لكني لم أجد الفسحة المناسبة لقراءة الأدب المعاصر.. خاصة وأن مكتبة الكونجرس تبعد ساعة ونصف الساعة ذهاباً.. والعودة تحتاج إلى ساعتين وأكثر.

سأحاول بذل جهدي لأقوم بالوفاء للأخ كامل وللدكتورة عطار.. وقد أرسل إلي رئيس كتاب وأدباء الأردن مجموعة من دواوينه، فشكرت له هذا الوفاء، ولكن أين الوقت والراحة؟ إذ يجب عليّ أن أعمل خمسة أيام من أجل أن أعيش على كدّ يميني وعرق جبيني.. فابني تميم ووسيم كل منهما يعمل ويتعب من أجل أسرتيهما.. ألله يوفقهم.

خيي شربل..

بانتظار رسالة منك، وكلها كما عودتني فأنت مشعل خير وبركة.

تحياتي المعطرة بأريج المودة والإخلاص للوالدة الكريمة وللأخ كامل، والاستاذ جوزاف بو ملحم وأنطوان سابيلاّ، وللأب يوسف سعيد، ومطانيوس مخول، وعصام ملكي، وطوني سعد، وماري ميسي، وفؤاد نمور، وعصمت الايوبي، ومطانيوس بو رزق، وإلى أسرة دار راليا للطباعة.

خيي شربل.. يا بن الكرام، ألم تذكر معي قول المتنبي:

ضروب الناس عشاق ضروبا = فأعذرهم أشقهم حبيبا

إلى اللقاء في رسالة تلبس الأعادي دماؤهم، كما يقول أستاذنا الكبير أبو الطيّب.. متمنياً للجميع ولقلبك الكريم أن يتحمّل أمنيات خيّك زهير.

وحلمي ألول الآن أن نلتقي.. أن نلتقي.. فكاسك خيي شربل..

واسلم لأخيك

محمد زهير الباشا

***

11 -

فرجينيا/25/3/1989

الأخ الأعز الشاعر الذي يغرد في حلكة الأيام

الأستاذ شربل..

تحياتي وأشواقي وبعد

فأرجو لكم وللإخوة جميعاً دوام الصحة والازدهار والمزيد المزيد من المودة والالفة..

تأخرت عني رسائلك التي تشفي النفس، والتي تجعل الدنيا على صدقك ونبلك مرحلة من وجود يمكن أن يستساغ.

أخي الأعز..

أرجو أن تصلني رسائلك وهي تحمل البشرى مع البشرى، فقد صاغنا الكون إخوة وأشقاء في الروح والنفس والعزاء، وأرجو أن تنال اقتراحاتي إليك موضع التقدير والتنفيذ، فلنضع أيدينا مع بعض في عمل يخدم التراث والأجيال.. لنحاول أن نتخذ من البحث عن الله وعن الجمال نبراساً لكل العاملين في دنيا ألأدب.

أغرب ما صادفني في هذه الغربة، المحنة القاسية، أن قوماً من ألصدقاء لم تعجبهم غربتي إلى ألأرض الجديدة.

أخي الأعز..

ماذا أعمل وقد جربت أن أهاجر إلى أستراليا ولندن وكندا، ولكن هل في الوطن العربي (شبر) عربي، مثلاً، يتحملني ويتحمل أسرتي؟!

ألم تعتبرني دولة شقيقة مرة أني أجنبي، والأجنبي غير العربي، تمنحه كل التسهيلات والابتسامات؟

فوالله.. لو أني وجدت شبراً في أرض عربية لهجرت دمشق وأنا قلبي يتقطع على مياه بردى.. كيف توزع على أحياء دون أحياء.. وكنت أفكر بالهجرة إلى لبنان، وقد أمضيت سبعة أعوام طفولتي ألأولى في بيروت، فأنا أعشق بيروت.. كنت أعيش في شارع المعرض، لكن الأقدار قذفتنا إلى دمشق الشام.

كانت فكرة الهجرة إلى أرض الجزائر، أرض آبائي وأجدادي، لكني صدمت لما وجدت كل عقاراتي ومزارعي وأموالي المتوارثة قد أصبحت في ذمة الله، وأنا الذي خسرت في ثورة الجزائر كل شباب ألسرة، وبقي فيهم من أصيب وهو عاجز عن النطق، من كان لا يراني وهو يعاني سكرات الظلمة في عينيه.

أخي..

هذه هي الحياة.. الحياة بدون مشاكل وأزمات لا تنمو ولا تحبو ولا تزدهر ولا تستلب الخيرات، لتودع في أيدي من لا يستحقون.

في هذه الرسالة دراسة ذات رؤية نقدية موجزة جداً عن كتاب د. سمر العطار: البيت في عرنوس، أرجو أن ترى النور على يديك، فقد بدأت بتسطيرها في عرنوس، وكان بيتي هناك، عشت فيه عشرين عاماً..

بانتظار رسائلك، وهي البلسم لي، وبانتظار رسائل من الأخ كامل المر، فالغريب للغريب نسيب.

مع كل المودة والأشواق.. أتمنى لكم دوام الصحة والازدهار.. ,أم تميم تهديكم أطيب تحية، وهي في دور النقاهة على صحو أفضل. لكن، وهي كلمة سموها العرب الاستدراك، لكن هذه تحمل أثقال التاريخ كله.. لكن لم تنته بعد من دموعها حول فقدام ابننا وكان اسمه: ريم.. وأنا أحاول كل جهدي أن نتناسى ذلك، ولكن هيهات لقلب الأم أن ينسى!!

أحييك أفضل تحية وإلى اللقاء

أخوك

محمد زهير الباشا

***

12 -

فرجينيا/24/4/1989

خيي شربل

سلاماً وتحية وبعد..

فأين هي كلمتك التي عوّدتني أن أشفى بها من غدرات الزمان؟ أين عطرك الذي أنتظره ليريح على آفاقه أعصابي؟

ما بالك يا أخي ويا شقيق الروح، هل آلمت إحدى كلماتي نبضة من قلبك؟

هل لأني تجرأت ورغبت أن نتعاون بنشر القصص والدراسات؟ وأنت إن رغبت نفّذ الاقتراح على بياض، وإن لم ترغب، ولم توافق، يبقى بيننا ما هو أقوى من الحياة.. ما بيننا يا خيي شربل مودة صافية دائمة مستمرة، وما اعتدت في حياتي أن أسير متطفلاً أو مستغلاً!

فأين هي رسائلك؟ صوتك أنتظره على شريط كامل لأعيش به وبنغماته أسعد أيام الحياة.. وما الحياة إلا لحظات عابقة بالمودة أنت صانعها.

هل كان في إحدى رسائلي ما عكّر صفو العلاقات، لا سمح الله؟
هل اندلق على أسطري زيت الكورة، فتسطح الزيت وغرقنا بشبر ميّة؟ لا أدري..

في كل يوم أنتظر منك رسالة، كلمة، صيحة غضب، نقمة على الأباطيل، فأتفاءل في مشرق غد، وأبحث بين البريد، فلا شيء جديد، ما الذي حدث يا ترى؟

إني أنتظر من دمشق ما كتب حول دراستي المتواضعة، ولم يصلني أي شيء من دمشق، ودمشق باتت مدينة الأعاجيب والغرائب، بعد أن عمت الخرائب نفوس الناس.

أرسلت إليك قصة (نخلة في صحراء النقب) مع (خذوا بيتكم فإني راحلة) عن البيت في ساحة عرنوس، وأحصي الأيام والساعات لعل جريدة من سيدني تفك أسر أحلامي التي قيدها هذا الانقطاع.

أقول خيراً، وأنا الفخور بك وبشعرك، الفخور بهذه المودة والصداقة، ولا أريد أن أسترسل لأنك الذي تعلم ما بي من خلال كتاباتي، ولم يصلني أي كتاب من الأخ كلارك، كما انقطعت عني رسائل ألأخ كامل المر، وما زلت أحاول نشر الدراسات عن الأدب المهجري بمجلة ألأمة التي تصدر هنا.. لكني أراسلهم، ولا أستطيع الوصول إليهم ومقابلتهم.

فلم أتمكن حتى الآن من الحصول على سيارة مناسبة رغم ضآلة التقسيط أو الدفعة الكاملة لسيارة مستعملة، فأنت ألأدرى ما يكلف الدواء لمعالجة أم تميم، ففي كل يوم عليها أن تتناول ثلاث مرات الحبوب الخمس أو الست، ومن واجبي أولاً أن أهيىء لها العلاج والدواء وأقساط المستشفيات الثلاث. أقول هذا للتوضيح فقط، وليس المقصود به أي شيء.

وأردت من خلال نشر القصص ـ قصص الأطفال بالعربية والإنكليزية ـ ونشر الدراسة عن المتنبي أن نتقاسم معاً كل الذي يمكن أن يحصل نتيجة النشر والطباعة. أكرر طرح اقتراحي إليك، فإن وجدته مناسباً فتوكل، وإذا رأيته غير مناسب، فإننا نبقى إخوة متحابين، يجمعنا الشعر والقصيد، وخدمة هذا الفن، وإن وجدت أي حل آخر، لإأنا موافق معك على بياض.

واسلم لأخيك الذي يقدر فيك حرصك على هذه الاخوة، وأنا بانتظار رد منك. سامحني إن هفوت مع أحد، وإلى لقاء برسالة توقظ فيّ مواجع هذا الصبر المرير.

أخوك
محمد زهير الباشا

***

13 -

فرجينيا/8/5/1989

أخي الأحب شربل

سلاماً وأشواقاً وبعد

وصلتني الملصقات في اليوم الأول من عيد الفطر، وسررت بها كثيراً، وأمسكت القلم وسطرت كلمة زغيرة، لعلها تلقى بصوتك، وبنبضات قلبك. وثق أن القلب واحد في خفقاته، وزفراته، وغضبه، وهناءته، وكدت أضع تلك الكلمة بالبريد ـ وحدها ـ لكن مركز البريد لم نعرف موضعه بعد، وعندما عرفناه ما وضعنا الرسالة، إذ أقبل إلينا الزائرون، وجاءتني كلمتك في رسالتك، أبعد الله عنك الهموم، ولا أريد أن أثقل على أحد بأي شيء، فكيف بالأخ الأفى شربل.

كل ما في الأمر كان اقتراحاً، إن كنت على استعداد الآن لنشر ما لديّ من مخطوطات فليكن، وإلا فالزمن قادم لعله يضيء لنا دروب الخير.

ويا أخي الأحب..

أنا أعمل بهذا القول: لو تكاشفتم لما تباغضتم.. ومعاذ الله أن يكون بين شربل وزهير إلا المحبة الكاملة والصفاء والود والاخلاص..

سننتظر الفرج القادم إلى لبنان..وحينئذ لكل حادث حديث، وتبقى أنت، والله على ما أقول شهيد، الأخ المفضل، والانسان الذي جرت محبته في دمي وتفكيري، والحديث عن الهموم يطول ويطول.

وصلتني الملصقات، وشكراً بل ألف شكر لك وللاخوة الطيبين من أبناء بلدتي الحبيبة مجدليا، وهي المجد لله، ولا بد أن تصل إليّ الكتب خلال أيام، فاطمئن واشكر للأخ كلارك جهوده.

ولم يصلني إلى الآن أي جهد، أو أي نقد، أو أي دراسة حول دراستي المتواضعة، لا من دمشق ولا من غيرها، لا أدري ما هو السبب؟

تصور في هذه ألأرض أن أحدهم طلب مني أن أتحدث في التلفزيون لوجه الله، وكل حديث مدته عشر دقائق، فهيأت له عنواناً أسميته: مشاعل على دروب الحضارة.. وما طلبت منه أي شيء، سوى أن هذا البرنامج يتحدث عن العربية وروادها وعلمائها ومفكريها وأهل البصرة والكوفة، وعلماء النحو والصرف. وما زلت أحاول نشر دراسات متنوعة في مجلة الأمة الأسبوعية، والتسويف وارد..

حماكم الله من أي خسارة مادية، وأتمنى من صميم قلبي لو أن في اليد ما يسعف لما قصرت لحظة، فليبارك لكم الرب فيما تنتجون وتعملون وتعبرون.

أكرر شكري لك ولجهودك ولكل من عمل ويعمل من أجل إعلاء كلمة الحق والعدالة، ولا بد أن يأتي يوم لبنان.. يوم التحرر والتحرير. وأرجو أن تعتبر رسالتي تلك ملغاة من قاموس البريد، واصفح عني فأنت الأخ الأوفى على مدى الدهر.

تحياتي وسلامي إلى أفراد الأسرة، وإلى الأخ كامل، والأخ بو رزق، وإلى كل أبناء مجدليا.. أبناء بلدتي الحبيبة.

أم تميم تهديكم عاطر سلامها، وتتمنى أن تقرأ وتسمع قصائدك بصوتك الشاعري، ونحن جميعاً نؤيد هذه الأمنية.

ودمت أخاً وإلى اللقاء

أخوك
محمد زهير الباشا

***

14 -

فرجينيا/20/6/1989

الأخ الأحب إلى قلوبنا وإلى كل قلب.. شربل

تحية الصدق، والصدق مع أهله محنة عصر..

وتحية المحبة، والمحبة سجنتها أقفاص الذهب على شرفات الشانزليزيه، ومذابح آمون.

وتحية الاخلاص في زمن يشرئب فيه الضمير ليكون شبحاً، وصمتاً تؤرقه ليالي قيس بن ذريح.

وما أكثر ما يشدني إليك، والى الحديث عنك وعن شعرك، فكلما عرفتك، وعرفت شعرك ازداد قلبي حباً بك، وشغفاً للقاء بك..

عرفتك قبل أن ألقاك.. همت بدواوينك قبل أن أصغي لشعرك المسجل، بل سجل شعرك في أعماقي، وتعلمت منه الزجل والفن وقول الحق..

هذا ليس مديحاً، كما يحلو للبعض أن يفهم، وليثه يفهم معنى المحبة. خاف بعضهم أني لم أذكر سوى محاسن شعرك.. وهل قرؤوا ما كتبت؟ فلو فهموا ذلك لعرفوا أني حاولت كل جهدي إنصافك، ولعل بريق المحبة كان طاغياً في كتاباتي، فإذا أحببت كتبت، وإذا ـألمت سهرت وأرقت.. ,إذا اشتد بي الغضب صم، وخشيت على نفسي من أرق الليالي النابغية.

لا أضع نفسي موضع الاعتدال بالحب، فليس بالحب دوائر بيضاء وأخرى رمادية، وثالثة سوداء. إما الحب أو لا.. إما العدالة أو لا عدالة.. إما الصفاء أو ذلك البلاء، بلاء الطغاة.

القيم الانسانية لا تتجزأ، ولا توزع ببطاقات التموين والإغاثة كبطاقات شهرية بعدد أفراد الأسرة.. إذ ليس من الضروري أن يشبع أفرادها، والشبع والتخمة وكبرياء المواقف أمور للخاصة، والناس عبيد أرقاء لأوثان هذا العصر، ولكل عصر أوثانه.

ليت أولئك الذين كتبوا عن ملاحنا الشاحر عرفوا عن جدارة كما سطر أديبنا وأخونا أبو رزق، وتحدث به الأخ نمور، والسيدة ماري.. وطوني فقد عرف في مشواره ماذا سطرت يداي وقلبي. ولعلي، مهما شكرت لك ما قدمته بحفلة التكريم أوكون مقصراً بالاعتراف بفضلك:

اليد التي تعمل الخير بيضاء
والتي تعترف بالخير خضراء..
أما الناكرة لكل جميل فهي سوداء..
لعنة الفراعنة عليها منذ أن أعلن أخناتون توحيد الإله
في شمس أحرقت الكهنة المنجرين للجنة والثواب..
ثم قتلته على أيديهم..
وبقيت الانسانية تتلو الوصايا العشر
وهي لا تدري أي بشر يدفع ثمن الوصية.
وأنتم ونحن في صلواتنا نصب كل اللعنات عليهم،
لكن تشرذمنا كان أفدح المصائب..
فمتى نعود إلى إنسانيتنا التي تجمع القلوب تحت أفياء أرزة الرب؟

مرة، كتبت قصة: صمت المعذبين.. ثم قصة: من يحرق أغصان الياسمين؟ اعتذرت تلك المجلة المشهورة عن نشر أي منهما.. لماذا؟ لأن في القصتين ما ينافي سياسة تلك المجلة. كنت أتكلم فيهما عن الجراد الذي يستهلك طاقاتنا، يحرق مزروعات الخير في معابدنا، يجعل الياسمين رماداً، وبلفتة إلى سدوم وعمورة، عرفت أن الأيدز وحده كان لعنة على تلك وهذه.. ومن يلتفت إلى الخلف تذور أعضاؤه ليكون عموداً من ملح. فهل كان الملح وحده مطهراً للأيدز القديم، والملح لم يعثروا عليه ليعالج مدمني اللعنات.

ويا خيي شربل لقد أيدز العصر، رغم تلاقي العملاقين على استثمار خيرات العالم الثالث، وما لف في وثائقهما من وكلاء وعملاء، وبطريقة مهذبة اسمها: سحب الصواريخ والدبابات من ألمانيا المنقسمة على نفسها، المتآخية لغة ومصيراً ومستقبلاً.. والحمد والمجد لكل من ابتهل إلى أن تكون الأرض كرة غير مسحورة.

ثم قصة: النخلة في صحراء النقب.. لها ألف قصة وقصة!.. حوربت، منعت، سحبت، تداولها الاخوة مطبوعة كما وصلت إليك، ثم شذّبت، ولعلها ترى النور في صحيفة من صحف سيدني.

إنها تروي كما عرفتها.. لقد صورتها عقب نسخها في واشنطن، وأسرعت بإرسالها إليك. إنها غالية على قلبي هذه القصة.. سأتابع إرسال مجموعة قصصية علها ترضيك، وما يرضيني أن ترضى عن فن القصة الذي أسطره بكل الموجعات والآمال.

أكرر شكري إليك، فقد وصلت إلي جريدة صدى لبنان، ولا أدري ما هو رأي الدكتورة سمر، لعلها تتكرم فتسجل رأيها برسالة مباشرة.. وقد أسعدتني وأسعدت أم تميم بالشريط الذي ضم صوتك، وصوت الطفلة الياس، وصوت أهل الزجل والفن. وقد أرسلت رسالة لأخينا كلارك بعيني أشكر له جهوده التي يبذلها بمسلسله الوثائقي: شربل بعيني بأقلامهم.

وهنا بالاكاديمية عرضت على بعضهم بطاقة يوم 30 حزيران، فاستعجبوا.. فمنهم من أبدى اعتزازه، ومنهم من أصابته الغصة.. غصة الحقد، ومنهم من تمنى المزيد من عطائنا ألأدبي.

وسلمت يداك على الكتب الخمسة التي وصلت إليّ، وللعلم وافق أديب عربي هنا يتقن ألأدب الانكليزي على ترجمة قصص الأطفال إلى الانكليزية، ولعلي أجد بارقة أمل في نشر هذه القصص، قصص الأطفال.. وسأخبرك بما يحدث بشأنها.

المجلة التي كنت أنشر بها وهي مجلة (الأمة) توقفت عن الصدور منذ شهر.. ربما تعود إلى الصدور يومياً.

اعذرني إن أطلت، ولك مني ومن أم تميم كل المودة والتقدير، وإلى كل أفراد أسرتك ألف سلام. وإلى الاخوة الادباء الذين شاركوا في يوم الثلاثين من حزيران، والى كل من أيّد واعترض، واشترك بالدبكة وفرح وأطرب وغنى وابتسم.. والى كل الذين ساهموا في حفل التكريم كل التقدير والاحترام. وتأكد لو أن خروجي من هنا يكون على وجه قانوني، لجئت إليك سابحاً، أبحث عن مركب يقوده ملاح يبحث عن الله.

فإقامتي الآن بالطريق نحو الصبغة القانونية، إذ تحتاج إلى أشهر قادمة، والحمد لله أولاً وآخراً.

وإني على استغراب من أن أحداً بدمشق، حتى الآن، لم يبعث إليّ بأي جريدة. نشرت دراسة عن كتابي المتواضع، عفوك، عن كتابك أنت، فليس لي سوى الاسم على الغلاف، أما المضمون فهو أنت مع الارزة والله، مع الفن والحب والجمال..

فلم تعد تصلني أي رسالة من الأخ نعمان، ولا أدري ما السبب؟ لعله الخير!.. رغم أنه وعدني بكتابة نقدية، وبرسائل متلاحقة.

أحييك أطيب تحية

والى اللقاء

أخوك
محمد زهير الباشا

***

15 -

فرجينيا/17/7/1989

أخي الأحب شربل

حرسه الرب ورعاه وبعد..

فقد توالى الخير مبشراً بمهرجان يوم لبنان، وفي كل لفتة كريمة منه عبير من أشواقي إليكم، وفي كل كلمة عنجهية كنعان وفييقيا وأبجدية عمريت.

وكان حراماً على قلوبهم السرور، الذين ظنوا فذاقوا الثكل، فكأسنا واحدة مترعة بخمرة ألأبدية، فما تعجبت من لفظهم، نجوع ونحيا بقطرة منه، تظمأ النفس، وصرنا نستقي غمام المتنبي، والوغى في أرض الوطن يستقي المنايا، وحسب المنايا أنها باتت أمانيا..

وصلني الخير، فامتلأت الدنيا حبوراً، فكيف لو وصلني من يدك الطيبة نبأ عزمك الوصول إلى أرض الكولومبس، إلى بيتك.

وصلتني ثلاثة طرود بيومين متتاليين، الأول ليس به تاريخ سوى رقم 1750 على المظروف، وبه تعلن العزم على إقامة المهرجان.. ثم وصل إليّ طردان في أحدهما شريط تسجيل، وفي الثاني قلم الحبر الباركر المذهب، ولا أدري كيف أستطيع رد جميلكم الذي غمرتموني به..

فمن أشكر؟
هل تكتفي كلمة الشكر لأياديك الطيبة؟
هل تكتفي كلمة شكراً لأبناء مجدليا ولمختارها؟
هل يقبل مني كل متحدث بهذا المهرجان، يوم لبنان، كلمة؟

الشكر لك، وأنت الأدرى بأن واحداً من عشرة قد شكر السيد المسيح عقب شفائم.

المتحدثون بالمهرجان.. الصحفيون.. أهل الفن.. رواد المعرض.. المشاركون.. الطفلة ريما.. الثنائي الفكاهي.. رابطة إحياء التراث العربي التي هزتني مفاجأتها بموافقتها على منحي جائزة جبران في وقتها.

ولما وصلتني كلمتي المتواضعة التي وافقتم على أن تشارك احتفالكم، قرأتها أمام الحاضرين من ألأقارب، ولما التفت إلى أم تميم نعمة، وجدتها غارقة بدموعها، وتشاركها بالدموع والفرحة ابنتي لينة، أما أنا فقد استطعت أن أحبس آهاتي ودموعي، وعيب على الرجل أن يبكي، فبكى قلبي على وطني، وعلى عشيرتي، وعلى ألأهل في ديار الغربة، وكلنا بالهم شرق وغرب.

ولا أنسى الإهداء الكريم الذي ابتدأه أخونا كلارك بعيني، وأتمنى أن أتلو زجلياتي التي تشكر كل من قدم لي زجلياته إهداء وتأييداً.

وهذه رسالتك وفيها نبضات قلبك باللغة المحكية: مش رح أكتب لك بالفصحى.. والإذاعة تحدثت بالفصحى، مع كل الشكر للمذيعة ماري ميسي.

وتأكد يا أخي شربل أنه ما في لغة باالعالم كله تتسع لكلمة شكر أقدمها لك.. إلى اللقاء.. أرجو أن تتكرم فتشد على أيدي المؤيدين والمشاركين والمهنئين. فللجميع أطيب أمنياتي وعرفاني لهم بالجميل. ولتكن مشيئة الله في الخير لكل الناس، يا أحب الناس، ويا أكرم الاخوة.

أخي شربل..

1ـ عادت المجلة الأسبوعية الأمة للصدور منذ أسبوع، وقد نشرت لي مقالة: الواقعية السحرية في الرواية من ماركيز إلى نجيب محفوظ. وفيها نحدثت عن: شهرزاد، ودستويفسكي، وأحمد سنبل، ود. سمر العطار، ومحفوظ.. ولما أعلمت مدير التحرير بأمر المهرجان ـ يوم لبنان ـ طلب مني إرسال ما طبع عن المهرجان.. أرجو أن أوفق بنشر ما أرسلته عن المهرجان، وسأوافيك بما سيتم، وطلب مني موافاته بالدراسات والمقالات.

2ـ هل باإمكان التعرف على أخ مغترب من لبنان، يمكنني التفاهم معه على ألأمور الأدبية أو الثقافية أو غير ذلك، مما يخدم الفكر والعقل والآمال الطيبة، فالغريب للغريب نسيب، لأن الأخ الطيب بالغربة يخفف غلواء الغربة، مجرد رأي أرسله إليك فهو قابل للمناقشة.

أحييك، وأشكر لك جميع مساعيك الطيبة.

وإلى اللقاء
محمد زهير الباشا

***

16 -

فرجينيا/30/تموز/1989

أخي الأحب شربل

تحية طيبة وأشواقاً وبعد..

فشكراً، بل ألف شكر وشكر عمن قال ووفى، عمن صدق في كلمته، وفي شعره، وفي زجلياته، وفي مواقفه..

سلمت يداك.. فكل الطرود وصلت.. القلم الذهبي والكاسيت والصحف، وسلمت يداك.. والفيديو وصل مع الصحف والكتب.. ووضعنا شريط الفيديو عقب قراءتي رسالتك، لكنه لم يعمل، فهو على النظام الخاص.. خلال أيام سأراه بعد العثور عمن يضمن جهازه عملية التحويل من نظام إلى نظام.

لقد طوقتم عنقي يا أبناء مجدليا، ويا أدباء المهجر في أستراليا. كل كلمة ألقيت في يوم لبنان لا أستطيع أن أفيها حقها من امتناني وعرفاني بالجميل.

ويأتي إهداء الرابطة عملاً يطوّق عنقي إلى الأبد.. فألف شكر.. ولا أجد العبارة التي تعبر عن امتناني لكم جميعاً، وبهذه المواقف الانسانية قطعتم ألسنة الحسّاد والمخرصين.. قطعتم ألسنة الأثرة والنرجسية، ولما اتصل بي مدير التحرير المسؤول لصحيفة الأمة، يرغب إعادتي التعاون معهم عقب توقفهم ثلاثة أشهر تقريباً، أعلمته ما تفعل وفعلت أياديكم البيضاء بيوم لبنان، فطلب إرسال المنشورات إليه، وكان ما نشر في جريدة الأمة.. كما أرسلت إليه مقالة: مات الكرام يا شهرزاد.. فاتصل بي هاتفياً قائلاً: إنه عنوان تشاؤمي، فهل نأخذ العنوان من الحوار الجاري بين شهرزاد والمتنبي؟ فنشر كما تتكرم بقراءتها.

أعلمني الأخ نعمان حرب أنه نشر بالثقافة الأسبوعية كلمة عن كتابنا: شربل ملاح يبحث عن الله، لم تصلني الكلمة بعد.. مع العلم أني أرسلت إليه بعضاً من نماذج المنشورات حول يوم لبنان. كما أنه زار د. سمر العطار في بيتها في عرنوس.. ولمعلوماتك، وأنت الأخ الأعز الحريص على كل دقة من نبضات قلبي.. إذ بالأكاديمية تتصل بي لأشارك بتطوير مناهج الغة العربية للحضانة والابتدائي والاعدادي والثانوي، فقد جاءهم الصواب، لأنهم يتعاونون مع أساتذة الأكاديمية الذين عملوا معم منذ أربعة أعوام، وحضرت لأجد الانحراف باللغة والأخطاء التربوية والآراء المتعفنة، فوضعت في موقف حرج، إذ اتفقت الأكاديمية مع خبير تربوي، وعرضت عليّ دراساته، وهات يا أخطاء في اللغة، وفي التحليل، وفي وفي.. ثم أرسلت إلي الادارة ألا أرشده وألا أصلح له أخطاءه، فاستغربت، وطبعاً توقفت المناقشة بيني وبينه.

وغداً الاثنين.. تصل ابنتي وفاء من لندن، وسيلحقها زوجها بعد شهر فلم أره منذ خمسة أعوام، وعلى كل.. الحمد لله.. إن أم تميم تزداد نظرتها تفاؤلاً، وهي تقرأ كتاباتك، وتسمع ما هو وارد في شرائط التسجيل، وتدعو لكم بالخير والبركة.

وأتمنى، بل تتمنى أسرة الباشا، أن تتكرموا بزيارتنا في أرض الغربة، وكل غريب للغريب نسيب، ونتمنى كلنا أن تكون الأيام القادمة وقد تعافى لبنان، وعادت إليه صحته ونشاطه ومكانته، وقد محا عنه الصفحات السوداء من تاريخه.

كما أرجو أن تخبرني إذا كان الأمر متيسراً بأن تكون لديك أسماء لأشخاص يمكن أن أتفاهم معهم في حقل الثقافة والأدب والصحافة في أرض كولومبس.. هذه مجرد فكرة.. كنت كتبتها برسالة سابقة، فإقامة علاقات اتماعية مع أناس طيبين يخفف الكثير من عناء الغربة وعذابها.. ولي أمل كبير بأن تسعى جهدك فأسمع: شارع المواويل.. وقد شدت بها إحدى الحناجر..

وهذا المهرجان العظيم، لم يكن عظيماً لولا وقوفك الجبار، وشعرك المبدع، وأبناء (المجد لله) والطيبون من الادباء.. فالجميع كانوا وما زالوا وسيبقون يداً تعمل وتكتب وتبدع، وقلباً واحداً يزيل الضغائن من النفوس.

أخي الحبيب..

أحييك أطيب تحية.. ولكل الاخوة من أدباء وفنانين وصحفيين وإعلاميين أطيب تحية وسلام.

وإلى اللقاء..

فليعذرني كل صاحب قلم وأنامل فنية، فلا أدري كيف أرد صنائعكم؟

أخوك
محمد زهير الباشا

***

17 -

فرجينيا/24/9/1989

أغلى ألأحبة شربل

أحييك أطيب تحية وأصفاها وبعد..

فألف ألف شكر لما قمت وما زلت تقوم به أنت والاخوة من أهل الأدب والفكر من ذوي الخبرة بهذه الحياة، بمباهجها وآلامها، بأتعابها وأمنياتها، والحمد لله أني التقيت بصهري مع أسرته، فلو كنت في أرض الوطن لاستمر الغياب عذاباً وألماً..

وأشكر لك أياديك البيضاء التي غمرتني بالكتاب التذكاري وبسواه، اعذرني فلقد أتعبتك، لكنك والله تستحق كل خير، كل بركة، كل محبة من القلوب المتعطشة لكلمة صدق تقرؤها في شعر، في موقفك، في المبدأ الذي لن تحيد عنه: مبدأ الحرية، حرية التعبير، لا حرية التدمير، حرية القول لكل الناس، لا للغول الذي يفترس الضياء من عيون الأرامل، من أنات المبعدين، في زنازين الطغاة والجلادين..

ويوم الجمعة الماضي، زرت لأول مرة مكتبة صحيفة الأمة، واطلع المسؤولون هناك على صوت المغترب، فكانت لفتة طيبة منك ومن الجريدة التي نشرت: محرر الأمة ويوم محمد.. كما قمت بإهداء ذلك الكتاب إليهم وإلى المسؤولين في الأكاديمية، الذين لا يضحكون إلا ضمن أصول التربية والتعليم!!..

فألف شكر يا أخي شربل، وثق تماماً أن كل كلمة ألقيت قد اطلعت عليها وقرأتها بنبضات قلبي، وقدرت موقفك بأن تعطى الحرية لكل متحدث كما يريد دون أي توجيه أو إرشاد، فأستراليا أرض الأحرار، في يوم يجمع المبدعين والطيبين وكافة أبناء الجالية، في يوم الوحدة الوطنية، وكفى ما جرى في لبنان..

أرجو لو تكرمت بنشر الحوار الذي دار بين شهرزاد والمتنبي في أي صحيفة تجد من المناسب نشره، فهي ذات وذات وذات، واترك لك حق الخيار.. وذلك في العدد الذي ضم كلمة: من محرر الأمة إلى محمد..

وأما الاخوة الاساتذة الذين شاركوا، فلهم الفضل الكبير في هذا المهرجان الذي جمع القلوب على الكلمة، والكلمة إن لم تكن صدقاً اهترأت مضامينها.

أخباري، كما تعلم، التدريس يضني الأعصاب، لكن لقمة العيش بحاجة إلى كدّ ومتابعة، فالحياة لا ترحم المتقاعسين.

أرسلت للأخ حسن قياسي رسالتين، الأولى منذ وصلت إلى هذه ألأرض الجديدة، والثانية قبيل فترة، ولم أتلق منه أي رد، رغم أني أقدر فيه موهبة الرواية، التي تحتاج إلى ممارسة ودربة، أنت أدرى به، وإن ارتضى بموقفه هذا فلنا الرب وحده.. وهو حر بموقفه؟

الأخ نعمان حرب ما زال يراسلني، وما زال على وفائه وتمسكه بالاخوة، وهو الأفضل بين الذين يراسلونني من دمشق. دمشق هذه علمت أصحاب ألأقلام الجحود ونكران الجميل والأنانية المشبعة بالبغضاء، إذ كان كثير منهم على وداد وأنا معهم بدمشق، فما إن سافرت حتى غربوا عني، ولله في خلقه شؤون.

وأرجو الله أن يجمعنا في هذه البلاد، وإن كانت أعمالك لا تسمح لك وقت التدريس، فلننتظر الفرصة المناسبة لوصولك إلى بيتك هنا، إلى من يتلهف للقاء بك وأنت الأخ الأوفى.

أخي الاعز..

هل في واشنطن أو فرجينيا أخ من اسرة بعيني، فأتشرف بالتعرف إليه.. هل في واشنطن من هو من أبناء مجدليا، فأتمنى اللقاء والتحدث معه.. الغربة كربة يا أخي ألأعز.

على كل الأحوال أصبحنا وأمسينا ولا أحد يزعجنا ليلاً، ويبلغني وجوب الحضور إلى... أو يجب السير معهم إلى... ألا يكفي أن هذه الأرض رحبت بنا دون مقابل؟ ويبقى في القلب غصّة كبيرة (حب الوطن) مغروس في كل خلية فلن ننساه.

تحيات أم تميم وأسرة الباشا التي قدرت فيكم الوفاء يا أبناء مجدليا. وتحياتي وأشواقي للاخوة أعضاء رابطة إحياء التراث العربي، وللجميع أطيب الأماني بالتوفيق والنجاح.

والى اللقاء

المخلص
محمد زهير الباشا

***

18 -

فرجينيا/5/11/1989

أخي شربل..

يا أحب الناس عَ قلب زهير.. كيف لا.. وقد اخترت الكلمة الطيبة في مزاج صدق ونبل ووفاء؟

كيف صحتك، وصحة الاسرة، وصحة الاخوة الأدباء والكتّاب؟ أرجو أن ينعموا جميعاً بالخير والبركة.

وصلتني من يدك الكريمة السمحاء كل ما تفضّلت به، وأرسلته إليّ، فليبارك الرب عملك.

وما زلتَ أيها الأخ الأصدق منارة لكل من يبحث عن ألهوة التي مزقتها أيدي العابثين بالذهب وبالجنس وبالمتع الحسيّة وحدها، ولن يتخلص هذا العالم إلا بعودته إلى الشعر، الشعر المنطلق من الذات العليا، هذا الشعر الذي يداعب ألحلام فيكون حلماً.. ويتراقص على أجفان الصبايا فيكون صبراً وتعزية عن فراق.. ويلتمع في جبين العالم وهو يقدر ليالي الشوق بالحسبان. لقد قتلوا قصة قيس وليلى.. كثير وعزة، باختلاق مواقف ليست من حياة الإنسان.

الوفاء يا أخي أنتم رموزه وحقيقته وواقعه.. وكم يحتاج هذا الوجود المادي إلى لمسات الوفاء بتعاملكم وبنبل مقاصدكم.

آه.. بل ألف آه وآه على الحياة المزدحمة بالساعة تلو الساعة للنتاج المادي، أما الروح.. أما الوفاء فهو نسغ الروح، فقد مزقته أيدي اللصوص، وارتدى أهل اللصوصية أقنعة القراصنة، فلا ندري هل نحن في كرنفال مستمر، مسموم بلا بطاقة تموين.. وبطاقات دون تموين.

من أخبار الصحافة هنا: انني أوصلت التحية الطيبة من قلبك الطيب إلى رئيس تحرير صحيفة ألأمة.. لكنه أعلمني أن هذا الاسبوع هو ألسبوع ألأخير لصدورها. وهكذا تتساءل الأمة عن مصيرها؟ فما هو المصير القادم؟ أحروب جديدة في بقاع جديدة ونحن وقودها؟ والأسباب عديدة أهمها عدم تفاهم أولي الأمور فيها.. وسياسة التطاحن بمن سيكون ممثلاً لهذه الأمة.. حتى هذه الأمة ستغلق أفواهها وألسنتها وجرأتها.

المهم أننا أصبحنا بلا أمة.. فتصور أدباء وشعراء وروابط فكرية دون أمة أو شجرة للأسرة!.. بعثرة الجهود هذه مهمة الأمة في هذا العصر الرمادي.

حتى الآن لم يتكرم الثلج بالسقوط، لكن درجة الحرارة مالت إلى دون الصفر، ويا رب البرد مع الصبر، فالغربة والوطن يكويهما الجمر بعد الجمر..

الجديد في ألأمر/ أن الاذاعة البريطانية أنشأت محطة خاصة بها، تسمع في الشرق ألأميركي، وكنت قد تحدثت مع مسؤولين في الاذاعة المسماة صوت أميركا والتي تتوجه إلى أرض الوطن، أن يتوجه فرع منها إلى الشرق الأميركي والى كل الولايات.. لكنهم لم يقبلوا رأيي، وهذا الذكاء الانكليزي المعهود ينشىء محمطة اسمها الشركة العربية الاميركية، وبدأت بإذاعة أغنيات عربية، أما الاخبار فتنقل من لندن مباشرة في وقت يتناسب ونشرها الى البلاد العربية، واليوم اجريت اتصالاً بمسؤول في هذه الإذاعة لعلي أصل فيما بعد إلى تقديم برامج عن أعلام في التراث العربي.. في النحو واللغة، والادب والفكر. أرجو إن وصلت إلى يدك الكريمة جريدة الأنوار أن تتفضّل فترسلها لي ولك مزيد الشكر والامتنان.. ولسوف تنشر مجلة الثقافة بدمشق كلمتي المتواضعة حول يوم لبنان.. بهذا أخبرني الأخ نعمان.

أما هؤلاء المتشدقون الحاسدون فلهم الله وحده.. فالحسد يقتل صاحبه إن لم يجد من يقتله. لقد كان موقفك وموقف الجالية والرابطة أكبر رد على تخرصاتهم.

إنني أسعى كثيراً لتقديم أطروحة دكتوراة في جامعة جورج تاون، أو في إحدى جامعات لندن.. آمل أن تصل إلى الرب دعواتك الصادقة ونحن نسير في طريق الكلمة المجامر، وما في هذا الطريق سوى الوفاء العظيم الذي غمرني، وما زال يغمرني، وأرجو أن أستطيع فأرد جزءاً يسيراً مما طوقتم به عنقي.

سلامي وسلام أسرة الباشا إليكم، وخاصة اسرتكم الكريمة، وأسرة الرابطة والجالية..

وإلى اللقاء وأنتم جميعاً برعاية الرب.

أخوك
محمد زهير الباشا

***

رسائل محمد زهير الباشا الى شربل بعيني - تابع ( 19 - 25 )

19

فرجينيا/30/11/1989

أخي شربل..

كيف صحتك وأحوالك؟

اعذرني أولاً لهذه الكلمة السريعة التي كتبتها الآن.. ولا أدري كيف جاءت، فقد كانت أم العيال أم تميم هي التي تنقد كل ما أكتب، لكنها منذ 9/11/ حتى تاريخه، وهي مصابة بفقدان الوعي والحواس بسبب نزيف الأوردة بالمخ، مما جرى عملية فتح الجمجمة مرة أولى ثم ثم ثم ثم جرت لها ست عمليات جراحية..لا نطق ولا تحرك سوى النبض والتنفس فقط.

والآن هي راقدة بالمستشفى جورج واشنطن بالعاصمة، بعد أن تم نقلها من المستشفى بفرجينيا إلى جورج واشنطن بطائرة الهليكوبتر، فاعذرني إن لم أكتب.. وثق تماماً لولا أخوتك ومودتك وصدقك لما استطعت أن أخط هذه الكلمة العجلى فاعذرني، وليعذرني كل من يقدّر ما يجري معي.. فكيف أتمكن من جمع أفكاري؟.. أخرج من البيت الساعة السابعة إلا الربع، وأعود في العاشرة ليلاً أو الثانية عشرة.. واليوم عدت إلى البيت الساعة التاسعة وأنا متعب أشد التعب.. ووجدت معزوفتك وكتبك والجريدتين، ورحت أبحث عن رسالتك حتى قرأتها في صدر معزوفتك.. وحاولت أن أكتب هذه ألأسطر وقد لفتت نظري حروفك في رسالة سابقة (بالي مشغول عليك كثيراً كثيراً).. فقلت في نفسي ما الذي سيحدث لنا؟ إنها نبؤة شربل.. ما الذي سيحدث؟ وكان تاريخ رسالتك 9/10/1989، والجواب سطر إليك 4/11/89 وبعدها بأيام فقدت أم تميم الوعي والإدراك، وراحت في غفوة عميقة لا يعلم مداها إلا الله.. أكرر اعتذاري لك وللأخوة الأدباء.

لعل الصبر وحده يرحمنا من عذاب الجسد.. أما عذاب الروح في الغربة فأين نجد له الصبر والرحمة؟

سلامي إلى الجميع مع تحياتي ألأخوية

المخلص
محمد زهير الباشا

***

20 -

فرجينيا/5/2/1990
أخي الأحب شربل..
يا أعز الأحبة..
أين كلماتك في رسائلك التي انقطعت عني؟ فهي كالغيث على صدري، تجعل أنفاس النبض يصحو ويأمل، ويحمد الرب أن في الحياة من ينبض بقلب عاشق كل القلوب المتعطشة للنور.

معزوفة الحب، في العين والقلب، معزوفة هي سيمفونية المستضعفين القابعين وراء أسوار القلاع التي غرسها الظلم بأنيابه.

استمعت لمعزوفتك، وما استطعت المتابعة، فقلبي مشغول بأم تميم، أركنت معزوفتك تحت طي أنفاسي، أفتح رموزها، فأصغي إلى أنين الآلة التي تمنح صدرها الأكسجين.. أربعة أشهر.. ثلاثة منها في مستشفى جورج واشنطن، وشهر في غرفة ما حلمتْ يوماً أن يتمدد جسدها وهي تنظر إلينا بفتح أجفانها، ولا ندري وراء حركة عيونها أي معنى.. لا أحد يدري!!

الأخبار هنا، تركوا لها التماثل للشفاء، لهذا اضطرّت (تيري) زوجة ابني تميم، ألأميركية الجنسية، أن تترك عملها لتراقب وتشرف وتقوم بمهمات صعبة، أعانها الله، فهي تقوم بالعمل ليلاً ونهاراً، وتساعدها ابنتي لينة، وأساعدهم قدر إمكاناتي.

اعذرني إذا اتجه قلمي يشكو إليك أمري.. ليس لي إلا الصبر والثبات، ولم يكن يتوقّع أحد توالي ألأحداث المؤسفة والأليمة خلال هذه الفترة.

أين كلماتك التي ترطب قلبي ولساني وأنا أتجوّل فيها؟ أين مشاريعك الأدبية التي تثلج كل قلب يتطلع إلى نتاجك؟

أين.. أين.. فلا جريدة تصل إليّ من سيدني لأعيش في ظلالها، فليسامحني الله على تساؤلاتي؟

رغم كل الغيوم والآلام اليومية التي نراها ونشارك بها ولا نستطيع لها رداً، وأم تميم صابرة، صامتة لم تتكلم منذ 4 أشهر، لا تأكل إلا عن طريق أنبوب إلى المعدة مباشرة. أضع على شفاهها حسوات من القهوة، و قطرات من الشاي، أو قطرات من الماء فقط.. رغم كل هذا، فإن ضوءاً أرجو أن يتسع ليكون نوراً لها، فهي، كما نشعر نحن، بدأت تسمع ، ولكن إلى أي مدى؟ لا أحد يدري. إن هذه الغيبوبة أليس لها نهاية؟

ورغم ما نحن فيه فإن هناك فكرة بطباعة ما كتبته عن المتنبي، إن شاء الله، سنبدأ بالشهر القادم بطباعة أولى، ومعرفة التكاليف وعدد النسخ.. التفصيلات ستكون جاهزة بالشهر القادم، وستعقبها طباعة قصص الأطفال، مع أساليب جديدة لدراسة اللغة العربية. دعواتك الطيبة لتكون الأمور على الأسهل فالأسهل..

ما هي أخبار الرابطة وأخبار الإخوة الذين غمروني بفضلهم وحسن وفائهم؟

لكن الذي استغربته أن صاحب رواية العرس ما زال لا يرغب بالرد على رسالتين كنت أرسلتهما إليه، ولله في خلقه شؤون.

كما أسفت كل ألأسف على قدوم د. العطار إلى فيلادلفيا ولم تتصل بي، وكأنها تعاملني معاملة الغرباء.. سامحها الله.. بينما أفتح صدري وبيتي لاستقبالها واستقبال أي أخ قادم من أرض الوطن الغربة إلى أرض الغربة.

أحييك أطيب تحية، وأتمنى لك وللاسرة وللأخ كلارك، وللاخوة أهل ألدب والقلم الحر أسعد الأيام.

واسلم لأخيم
محمد زهير الباشا

***

21 -

فرجينيا/2/4/1990
أخي الاعز شقيق الروح والقلب شربل
تحيّاتي وأشواقي وبعد..
فألف شكر لما قدمته وتقدمه إليّ رغم هذه المحيطات التي تبعد شواطىء الأطلسي عن شواطىء أستراليا، لكنها ما استطاعت ذرة من المحيط أن تبعدك عني لحظة.
وسلمت يداك، فقد وصلت إليّ الكتب مع الشريط، فأكرر لك امتناني، وهذا ما أملكه ، هو الاعتراف بما غمرني به أهل مجدليا، وأهل الأدب في الرابطة، ولم يبقَ أمامي سوى الانغماس أكثر فأكثر في الكتب والدراسات والكتابات لأغيب عن الواقع الذي أفردني في الظل وحيداً.. فالأمل كل الأمل أن أواظب الغوص على اللآلىء في مظانها.

أخي الأعز..
ما زلت إلى الآن أحاول أن أشد نفسي إلى قلبي، فينغمس القلب في ثنايا معزوفة حبك، فالحب معزوفة مغناة بين أناملك، فدعني أغني زجلياتك، وتحلو لحظات استيعابها، وقد اشتد بك البوح، لكنك اختصرت وأوجزت فأعجزت.. وأنا المنتظر منك أن تطول نفحات هذا الحب لأتنعم به، فلماذا جاء ديوانك على الإيجاز والقصر؟ ففي كل زجلية درة ذات وهج سابح في خيال مجنح من واقع، فما أن تبدأ أناملك العزف، والوجد يضني، والشوق يضني، حتى تنتقل بنا الى معزوفة جديدة، وطبعاً لا قيمة للشعر إلا بدرره ولآلئه لا بعدد كلماته وصفحاته.

وأنت تعيش في هذا الديوان على أرق مبدع، وقلق ينطلق بك إلى عالم السحر، عالم الغناء والعشق، وسيكون بين يديك ما تقرؤه من ترانيم مستقاة من ديوانك وزجلياتك، فنحن في درب الهوى، هوى الكلمة الصادقة، هائمون.. وفي درب العزف على أوتار المحبة صامدون، صامدون هذه مسروقة من أهل السياسة فاعذرني، إذ بقي أهل السياسة وغاب الصامدون.. وفي الساحات الصامتون وحدهم يعزفون نشيد الحرية.

رب أنطقنا بالصدق وحده، ونحن على درب الحق مسالمون، لكن كلمة الحق سيف في وجه فرعون.

أخي شربل..
حمك الله وحفظك وللوالدة الكريمة كل تحياتي، راجياً لكم دوام الصحة والسعادة والهناء.

ملاحظة: تحت إلحاح الأكاديمية بدأت بالتفكير جدياً حول انشاء مسرحية تعتمد على المقامة البغدادية للهمذاني، فتقدم على خشبة المسرح بالأكاديمية، وتليها مقامة حول مهاجر تلاحقه الفواتير، سأنهيها، وسأخبرك بالذي يحدث.. فما رأيك؟

كما أنهم طلبوا مني أن أكتب زاوية في المجلة الأسبوعية للأكاديمية واسمها الرسالة، إذ لم يستجب للرسالة أحد من المدرسين، فتقدمت بهذا العنوان الدائم: نقطة ضوء من حبر.. وإليك نسخة من هذه النقطة التي أفسدت العلاقات بيني وبين بعض الأساتذة الين يحتجبون عن تقديم أي اشتراك، لوجه الله، فهم يودون أن يدفع لهم على كل كلمة، أما أنا ولله الحمد، فلا أتجمد أمام رغبات الأكاديمية، فليس بالخبز وحده يحيا الانسان، لكنه بالحب وحده تحيا البشرية ولله في خلقه شؤون.

أحييك وإلى اللقاء..

مع هذه الرسالة بعض الملامح عن الشعر والكرامة، وشاهدنا ما ورد في ديوان المتنبي أستاذنا الاول في الشعر.

أخوك
محمد زهير الباشا

***

22 -

صحة القلم
فرجينيا/9/6/1990
أخي الحبيب أعزه الله وأبقاه ذخراً للكلمة الشريفة: الشاعر شربل بعيني المحترم
وإلى الاخوة والاصدقاء وبعد..
فقد عدت من زيارة ابني وسيم إلى البيت المهجور من البسمة الضاحكة، لأنقض على الورقة والقلم، وأبدأ بتسطير هذه الكلمة، ولا أدري والله ما الذي دفعني إلى هذه ألأسطر، وأنا أصغي ولا أصغي إلى مسرحية صوتية ـ قطر الندى ـ وكيف زفت إلى ابن الخليفة العباسي، وكلفت ما كلفت من بذخ وعطور وحراير وإبل وفرسان، وهل هي صرخة في وادي التاريخ الذي ندفن به الانهزام والانكسار، ولم يعد أحد يفرق بين اللون الأبيض والأخضر.. هل أصبحت الكلمة تسير على حصير من درر وياقوت؟ وهل بقي للأديب إلا الحصير دون الياقوت والدرر؟

كم أسفت وللأسف، كم كثرت كلمة (آسف) لم ننتصر في معركة غير متوازنة، لا أريد أن أغوص في الألغاز وكأن الكلمة مكممة، والسيوف مكحلة، ، والأقلام مصون!

كيف صحتك وصحة الأسرة أولاً وأخيراً؟ كيف هي صحة القلم؟ وللقلم جسده وروحه وفيضه ودموعه وأفراحه..

كيف صحة المشاريع الأدبية والفكرية؟ وشكراً للأخ نعمان في مقالته عن الأخ كلارك بعيني، فهو يستحق كل الشكر لما بذله في كتبه حول: شربل بعيني بأقلامهم.

كيف أحوال الاخوة في رابطة احياء التراث: الأخ كامل، والأخ فؤاد ونعيم والأيوبي، فلهم علي فضل الأخوة والوفاء ما دام القلب يتطلع إى نور القمر حتى يحيا بموجاته؟

ما زلت أنتظر نهاية المرحلة الأولى من الطباعة الأولى حول المتنبي يجلو مقلتي نسر. الشيء الوحيد الذي أنجز هذا ألأسبوع تلوين ورسم الغلاف. كما تناول الفنان الرسام قصتي الأولى للأطفال بعنوان العصفور الجريء. أرجو أن أنتهي من هذه الخطوات لتبدأ الطباعة قريباً.. ولقد أرسلت إليك كلمتي عن معزوفة الحب التي أسمع نبضاتها في أعماق فؤادي، وفي هذه الرسالة أو معها كلمة صرخة في الذكرى المشؤومة الخامس من حزيران 1967، عنوانها: من أنت؟ وبين حروفها شواظ من غضب على كل من ادعى أن الهزيمة ما حدثت، فالحرب معركة واحدة، فإن هزمنا بمعركة ليس معناها هزيمة في حرب. هذه الفكرة كان قد أطلقها الجنرال ديغول ونحن أعجبتنا وتبنيناها بكل ما فيها من فكرة سياسية جريئة أعادت لفرنسا حريتها، رغم هزيمتها الأولى على يد المارشال بيتان. فكم لدينا من مارشالات يا أخي؟ وكلما كثرت العروش، وكلما كثرت النجوم على الاكتاف تخاذل الشعب، وانحسرت الانسانية وفنيت عزة النفس، ونحن ندور في فلك غريب الدوائر!

لعل الناس لم يقرؤوا ما قاله أستاذنا الشاعر المتنبي:
كل يريد رجاله لحياته = يا من يريد حياته لرجاله

وضعنا، فلا رجال ولا حياة، وبقي الكل بالكل.. والله أعلم.

وأنتظر ظهور النادي العربي للصداقة بواشنطن لأسهم ب على قدر استطاعتي، وأهل الادارة يفكرون كما ذكرت لك إنشاء مجلة شهرية أو فصلية، وعرضت على المسؤول فكرة مساهمة إدباء الرابطة فرحب. نرجو أن تتم الامور على خير وسلامة.. أرجو ذلك.

آه يا أخي.. جئنا في عصر لا تستطيع أن تعرف فيه حقائق الأمور ومن المسؤول عنها؟ من أوجدها؟ لمن اتخذت؟ لمن أصبحت؟ ألف اشارة استفهام والاجابات متعددة وكلها مقبولة.

قل لي بربك ما هي نتائج حرب العراق وإيران؟ ما هي نتائج الاقتناص والاقتتال في أرض الرب.. الارز؟

ما أسبابها المباشرة وغير المباشرة؟
لماذا ألغينا العقل والقلب والاصغاء إلى كلمة الحق؟ لماذا؟
أيجب علينا أن ننتظر السنين والسنين لنعرف المخبآت في الجلسات المغلقة؟
لماذا تغلقون أبواب قاعات جلساتكموقد ذهبتم والتقيتم لتبحثوا قضايانا؟
أم التقيتم لتبحثوا قضاياكم؟

نحن في عصر الأسرار التي لم يعرفها بعد علي بابا والاربعون لصاً.. فاللصوص حين تحكم أو تسرق تخفي ما سرقت وما فعلت وما ستفعل.

أخي الأعز..

اشتقت لكلماتك ولحروفك النيّرة الغاضبة فلا تبخل عليّ.. وأنت في شعرك ونثرك واحة تسقي العطاش، فكيف بقلبي الذي اعتاد أن ينهل من صفاء نفسك وطيب مروءتك.

وإلى اللقاء..

ألم تفكر بزيارة هذه الأرض الجديدة؟ مجرد فكرة أرجو مخلصاً أن تنفذها، فأنا لا أستطيع مغادرة هذه البلاد لأمور أنت تدري ما أسبابها، لأني أنتظر حصولي على البطاقة الدائمة للإقامة. والله الموفق . واسلم لأخيك.

أخوكم
محمد زهير الباشا

***

23 -

فرجينيا/13/7/1990
أخي الأحب وشقيق الروح والقلب شربل
تحياتي إليكم وإلى الأسرة وإلى الاخوة أعضاء الرابطة، وإلى كل من حمل قلمه للدفاع عن الحق والانسانية.
كيف صحتك أولاً وصحة الوالدة الكريمة؟ أرجو أن تكونوا بصحة وسعادة ولله الشكر دائماً.
وليبارك الله قلمك المسرحي في مسرحيتك (ضيعة الأشباح)، وهي المسرحية الرابعة.. ليتك تروي لي أفكار هذه المسرحيات، ومن هم الشخصيات الذين اخترتهم: قصة لبنان مثلاً، الأزلام، والأصنام.. ضياع البلد ليبقى الأشباح حكاماً، ولينقلب الشعب إلى مرتزقة.

طلبت الأكاديمية هنا مسرحية أقدمها مجاناً لله تعالى، وكنت خلال هذا الطلب مغموساً كلياً بالذهاب إلى المستشفى، إلى الصيدلية، إلى البيت، إلى العمل، فقدمت لهم نشيداً، وكانوا ينتظرون مني مسرحية ما، ورغبت أن أعوض عما فات، وقدمت للمسؤولين فكرة بأحداث ليلة مسرحية يدعى لها السفراء والمسؤولون وأولياء الأمور، فقبلوا، ووضعت خطوطاً موجزة للمسرحية فجاء الرد: اتركها للعام القادم.. وهكذا تجري الأمور..

أشكر لك وصول ديوانك أحباب، حياك الله، فأنت حريص على الوفاء والإخلاص بتعاملك مع الناس المخلصين.. لكني لم أجد مقطوعات زجلية موجهة من قلبك إلى قلبها.. من هي لا أدري؟ فهل كانت معزوفة حب وحدها كافية؟ ربما.. وأنا أفضل أن أعرف، إذا سمحت لي، المكنونات الخاصة التي تدغدغ أحلامك.. إذا سمحت.. فاعذرني لهذا التدخل في الشؤون الخاصة، وهذا ليس تطفلاً بل محاولة لمعرفة كل الجزئيات التي تدفعك إلى قول الشعر، إلى الغزل، إلى الحقيقة.. فأنت مشدود إليها، وهذا طبيعي، ومشدود إلى أرزة لبنان، وهذا بديهي، ومشدود إلى الشعر ليكون موطن الاستقرار، وأنت العاشق في كلٍ.

اعذرني، فلم أستطع أن أطبع دراستي المتواضعة حول أحبابك، فأنا مضطر لأن أرسلها إليك بخطي التعيس، وليعذرني من يطبع حروفي، ومن يقرأ أسطري، أعانه الله. ولعلي أفوز برضاك ورضا الاخوة أعضاء الرابطة في كل ما أقدمه بتواضع وأمانة، ومن حسن الحظ أن النادي الذي سيرى النور قريباً أصبح اسمه: نادي التراث العربي في واشنطن.. وسيحاول المسؤولون أخراج وإصدار مجلة شهرية أو فصلي..

لكني أجد الصعوبة بإصدار القصة الأولى للأطفال من حضرة الرسام، سأصبر على هذا ريثما تصدر القصة الأولى، وأرجو أن أتابع إصدار سلسلة للأطفال.

صوت أميركا أخذ مني حديثاً عن الأدب المهجري في أستراليا، وكيف كانت أصول هذا الأدب، متمثلاً في دواوين الشاعر شربل بعيني، وكيف كانت كلمة الأخ كامل حول مخطوطاتي، التي لم ترَ النور في بلدي، لأنني لم أكن إمعة، وشرحت للإذاعة سبب ذلك، وسيذاع هذا الحوار في الشهر القادم ضمن برنامج أهلاً وسهلاً.

دعواتك الطيبة بأن تنهي المطبعة الخطوة الأولى من طباعة (المتنبي شاعر يجلو مقلتي نسر)، وما زلت منهمكاً بغزل المتنبي، وهو غزل رائع، مع كتاب قصص للأطفال، فاعذرني إن تكلمت عن كيفية أمضي أيامي في هذه العطلة الصيفية، فها أنذا أضع كل ما تعرف عني بين ناظريك.

تحياتي وأشواقي للوالدة وللاخوة أعضاء الرابطة، راجياً الله عز وجل أن يحمي الوطن من أشراره، وأن يعيد البسمة على شفاه المقيمين والمغتربين والاحباب.

والى اللقاء..
واسلم لأخيك
محمد زهير الباشا

***

24 -

فرجينيا/21/8/1990
أخي الأعز شربل
تحياتي وأشواقي.. بل ألف تحية وتحية وبعد
فكم سعدت بسماع صوتك، وكم آلمني خبر وفاة إبن أخينا هشام، وهذه هي أحوال الدنيا، لا ندري كيف تطحن منا الفلذات وضحكاتنا تسير في مهب الريح.. فكيف نعزّي أنفسنا بأنفسنا في ديار الغربة؟
ونحمد الله أن مسرحيتك (ضيعة الأشباح) قد جعلت منك مؤلفاً ومخرجاً ناجحاً، ولعلنا، بإذن الله، نتعاون بالمستقبل على تقديم مسرحية تضم النماذج المعروفة التي غاصت بأعمالها في مستنقع المادية والدنايا.. فالوطن اليوم، وطن الأشباح، في كل ضيعة ديكتاتور صغير هو الشبح الذي لا يموت، فهو الخالد بعنجهيته وطغيانه.

وكم تألمت لأن أعصابك تلفت وأنت تعمل في الإخراج المسرحي، أعرفك صابراً متجلداً، فلا تستسلم لأي إرهاق أو تعب.. فالأطفال دوماً ممثلون ناجحون يتقمصون الدور مهما صعب ببداهة وعلى الفطرة، وبعطاء لا زيف فيه، فهنيئاً لك بهذا النجاح.

وكم تألمت لحادثة أخينا الشاعر نعيم خوري، فشلّت يد الغادرين.. أيلحقنا الغدر والتمزيق إلى دار الغربة؟ أما امتلأت أيامنا بأصناف اللؤم والخسة؟

عصرنا تطحنه النوازع الشريرة، وويل لمن يدعو إلى إيقاظ الضمير، أو إضاءة طريق يسلكه الناس في سعادة وفرحة. وإنها لعبة قذرة في الخليج، فجميع المصالح والأمن الدولي والاستراتيجي والبترولي يجب أن تبقى وتزداد وتحميها كل القوى.. وأين نحن؟ نحن غارقون في ليالي الأنس في فيينا، في لوس أنجلوس، في أكسفورد ولندن، في الطائرات المذهبة مفاتيحها، في الرياء الذي غطى كل الحقائق، ثم بالوقوف مرددين: آمين آمين.. والرب لا يجيب، لأنه يعرف أنه ليسوا من رعايا الله. ويبقى الخير كل الخير في الضمائر الحرة!!

أحييك أطيب تحية، مع تحياتي إلى الوالدة الكريمة وإلى الاخوة أعضاء رابطة إحياء التراث العربي، خاصة الأخ كامل، وفؤاد، وعصمت، وأكرم، وجميل، وجوزاف، ونعيم..

بانتظار رسائلك التي تشفي قلبي في الغربة الجديدة، ما زلت أتضرع إلى الرب أن يحمينا من مفاسد القلوب، وآثام الرجال وحقدهم، إن بقي على الأرض رجال.. فعلي بن أبي طالب خاطب جماعته مرة فقال:

يا رجال.. ويا أشباه الرجال.. ولا رجال.. كان ذلك منذ 1390 عاماً تقريباً، فهل تغيت قلوب الرجال؟ لنكون رجالاً في عصر نحمل فيه مشاعل حضارة وإنسانية تجمّل وتحمي مستقبل العالم.

أخي الأحب..

إلى لقاء في رسالة قادمة، وقد أرسلت للأخ كامل رسالة تعزية يوم أمس.

أخوك
محمد زهير الباشا

***

25 -

13/10/1990
أخي الأحب شربل بعيني المحترم
سلام الله ورحمته وبركاته وبعد..
فكيف صحتك وصحة الوالدة الكريمة؟ نسأل عن الصحة أولاً فما وراء الصحة الجسدية سوى الصحة النفسية التي نبحث عنها لترتاح أعصابنا وخلايانا من خبايا هذا الزمن.

وكيف أعمالك في التدريس؟ إن شاء الله تكون مرتاحاً .. ألا يكفي الشاعر تزحلقات الدهر حتى يصاب بزمزمات التدريس؟ فهل بقي شيء اسمه الصبر؟

وألف شكر لك وللأخ نعيم برسالته القيمة التي جمعت كل المآسي والجراح وصدأ الدهر على أسنة القلم، فكان جوابه نعم الجواب في أرض اليباب، أرض كولومبس والعنطزة.

بمناسبة العنطزة، أذكر أني كتبت مقالاً عن أناس جعلت عنوانه: المتعنطزون في الأدب.. سأبحث عنه بين اروراقي المصنفة بالفوضى، وهي بالتبعية ضياع فوق ضياع.

الحمد لله أن أخانا كامل في تحسن مستمر، فالموت يبدأ كبيراً وينتهي صغيراً وهذه سنة الحياة.

أعلمني عن مشاريعك الأدبية.. شعرك، زجلياتك، مسرحياتك، لأطمئن على إبداعك، وعلى خط النمو التصاعدي لمؤلفاتك.. إذ من الفطرة بمكان أن يستمر هذا النمو عطاءً متجدداً كلما مرت بك معاناة، أو تحاورت الخواطر والأحلام. وأرجو أن تبلّغ امتناني للبيرق بنشرها: أنت الأحباب فيا سلوة المحزون. فأين هم الأحباب يا أعز الأحباب؟ هل هؤلاء الذين يراؤون؟ هل أولئك الخائفون على مصير عروشهم من أن تنهار؟ هل الاحتلال والاجتياح والمساندة إلا لعبة شطرنج نحن ضحاياها، ونحن باسم الشعب والملك والمستقبل والدين ندفع ثمنها؟ أيجوز لرئيس دولة إمارة أن يكون راتبه، عفواً دخله السنوي 300 مليون دولار، وتنكة البنزين في سورية بـ 300 ل س. تتحدث عن العدالة، فيقولون ويزعمون: العدالة في السماء.. فأقول لهم وعلى الأرض السلام؟.. وهل يعود العقل إلى الادارة والتصميم؟

أما مجلة الانطلاق، فشكراً للدكتور عصام حداد على تفضله، فيذكر لي بعض أسطر من مقالاتي. كقد كنت على صلة وثيقة بالشاعر المهجري الكبير شفيق المعلوف، رحمه الله، وأنا بعد في أول طريقي باتجاه النقد والاطلاع والبحث عن أسرار هذا الأدب المهجري.

أما الآن: فإنني أنتظر إنهاء الأخذ والعطاء بطباعة سلسلة النجباء، قصص للأطفال، إذ يود الناشر ان يستنزف دمي من اجل طباعة القصة الاولى، وأرجو أن تتم طباعة المتنبي قريباً، في حال الانتهاء من الطباعة ستكون أولى النسخ بين يديك. لكنني أفكر.. هل إذا أرسلت للأخ عصام حداد بعضاً من قصص الأطفال فيتمكن من طباعتها وإخراجها ونشرها وتوزيعها؟ وهل يمكن أن أوافيه بنفقات معقولة عن ذلك، ونتفاهم بالأمر معاً؟ لا أدري.. فأحوالي المالية لا أفقه بها شيئاً ولله الحمد.. أم أستمر مع دار النشر هنا وليكن الطوفان. سأجرب. فما هو رأيك؟ وهل تفضل أن تكون الطباعة والنشر والتوزيع بإشراف أخينا د. عصام حداد؟ ربما تتم طباعة كتاب: بحبك زينت أشعاري. ثم أنتقل إلى طباعة كتاب: في ألدب المهجري، مع الاستمرار بطباعة قصص الأطفال.

نبضة حب أقرؤها برسالتك تشجعني على أن أكتب رغم شجرة البؤس التي تستيقظ في أعماقي، لكني لا أسمح لها أن تبني للأنياب أوكاراً.

لك من قلبي المودة والأخوة، وللإخوة الشعراء والأدباء كل الاحترام والتقدير، وللوالدة الكريمة كل التحية والسلام والدعاء أن يجمعنا الله في أرض الأرز.. أرز الخير والبركة.

مع هذه الرسالة (نظرية الانسطاح الزيتي) فإن أعجبتك انشرها وإلا فارمها في المحيط الهادي، فالزيت على الماء يطفو.

واسلم لأخيك
محمد زهير الباشا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى