صفاء عبد المنعم - السيدة العجوز.. قصة قصيرة

عندما تتداخل الصور، وترتبك الرؤية، يصبح من حق السيدة العجوز أن تزيح بعصاها كل الأشياء المحيطة بها، وتصرخ بأعلى صوتها فى الصباح الباكر، الباكر جدا(يامعين)ثم تخرج من حجرتها الداخلية متجهة نحو البهو الواسع للبيت وتنادى بعلو صوتها مرة أخرى(يامعين) لا أحد فى البيت الآن مستيقظا كى يمنع خروجها المباغت من البيت، فهى منذ فترة طويلة وهى معتزلة الحياة، أعتكفت داخل حجرتها البعيدة فى نهاية الممر على أمل أنه سوف يأتى يوما ويأخذ بيدها خارجا بها إلى البراح والحياة الواسعة إنه أبنها البكرى، الذى أنجبته منذ حوالى نصف قرن تقريبا، ظلت تجاهد وتجاهد كى يصير لها ولدا من صلب زوجها الراحل.
لقد فعل الرحيل المبكر برجال عائلتها أفعاله الكثيرة، توفى عمها الكبير وهو فى شرخ الشباب كما قالوا لها وهى طفلة صغيرة، وتوفى أباها بعد مولد أخيها الثالث، وتوفى زوجها بعد إنجاب الولدين والبنت.
كان الولد الأكبر لم يبلغ العاشرة من عمره بعد، والبنت مازالت طفلة صغيرة على يديها، عندما قالوا لها : ياجارية، لقد توفى زوجك فى الحرب هناك، فى البلاد البعيدة.
أغلقت عينيها للحظات بعد سماع الخبر، ثم فتحتهما على صندوق كبير موضوع أمامها، أفاقت من فورها ووضعت أطفالها بين ذراعيها، ولم تنتحب مع النائحات، بل قالت بصوت هادىء ورصين وقوى : لله الأمر من قبل ومن بعد.
ومن يومها.
صارت الجارية حزينة، لا تفتح فمها إلا لكى تصدر الأوامر للأبن الكبير الذى صار منذ ذلك اليوم هو رجل البيت، وحرمت عليه أرتداء ملابس أبيه.
وعندما جاء عمه الكبير وقال لها : يا جارية، هاتى الأبن لكى يعمل معنا فى تجارة أبيه.
بكت وقالت : أبنى لن يذهب بعيدا عنى، وأغلقت الباب عليهم، ولم تخرج منه إلا بعد سبع سنوات صار فيها الأبن رجلا وزوجته أبنة أخيها، وأغلقت البيت عليهم ثانية، ثم زوجت الولد الثانى، وبعده بسنوات زوجت البنت، وصار البيت يمتلىء بالصياح والشجار وأصوات الأطفال وهى سعيدة بهم.
وعندما يقولون لها : يا جارية، لماذا أغلقتى البيت؟
تقول بصوت واثق : كى أربى أبنائى.
ثم ذهب الأحفاد بعيدا عنها بعد أن كبروا، ورحل من رحل، وبقى من بقى، وهى مازالت هناك فى حجرتها الداخلية، لن يشق الضوء عينيها مرة أخرى، وترى أبناءها كما كانوا حولها ذات يوم بعيد، يمرحون ويلعبون.
ولكن الضوء الشحيح الذى ترى به خطواتها البطيئة لم يسعفها فى تحقيق الأمانى، فصارت تدعو الله كثيرا وهى مازالت تناجيه صارخة(يامعين).





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى