أحمد الطرس العرامي - ثنائية الظلام والضياء في «نجمة تقود البحر» لعبدالفتاح إسماعيل

يعد الظلام والضياء أساس دورة الحياة والطبيعة، فإذا كان البياض والسواد هما أساس اللعبة اللونية فذلك لأنهما يجسدان النور والظلام، وحركتهما في الطبيعة المتمثلة في تعاقب الليل والنهار، فالليل والنهار يشكلان بدورهما الزمن باعتبار أنهما يقتسمان رقعة اليوم الذي على أساسه يتم حساب الأسبوع فالشهر فالعام.... وهذا التعاقب يمكن تسميته بالدورة الكونية فحضور الليل يعني غياب النهار، وحضور النهار يعني غياب الليل، وهكذا فإن كلاً منهما يعد نقيضا للآخر وعلى هذا الأساس تقوم العلاقة بينهما فهما نقيضان في الحضور والغياب، في اللون، في الشكل والهيئة، في الجوهر والماهية، وبالتالي في الدلالة السيميائية، فقد تكوَّنَ لكلٍّ منهما هالته الخاصة به في الميثولوجيا الإنسانية.

وفي هذا الديوان موضوع القراءة ينتشر كلٌّ من الظلام والضياء، ويفرضان حضوراً قوياً كرمزين شعريين تخليا عن مدلولاتهما المعجمية وتلبسا بثياب دلالية رمزية بعد أن تعرضا لفاعلية التخييل الشعرية التي فجرت من طاقاتهما الكامنة لتستطيع السمو بوظيفة اللغة إلى أعلى مستويات التعبير عن المحجوب والمغمور في قرارة الشعور الإنساني بطريقةٍ غير مألوفة ترتفع عن فجاجة النثرية والتقريرية، بل وتنطلق من إيماني بعجز اللغة العادية النثرية عن التعبير عن الكامن والمستور، فضلاً عن الاستهلاك الذي أصابها فأضعف من قدرتها التعبيرية وطوقها بالسطحية والابتذال، ولعل ما يميز اللغة الشعرية هو أن المفردة داخل النص الشعري تكتسب أبعاداً جديدة ومعانٍٍ إضافية غير تلك التي تشير إليها مدلولاتها المعجمية أو أصلها اللغوي.

و«يظل الظلام والضياء من لوازم الطبيعة النفسية، لأن للنفس عالمها المزيج بين الظلام والضياء. ومن هذا التأليف بين النقيضين يترعرع الحس الشعري والعالم المليء بصراع النقائض. فأنا لا أرى ظلاماً ولا ضياءً، وإنما أتصور - تحت تأثير الحالات- هذا الضوء وهذا الظلام” د.جميل حمداوي، السيميوطيقا والعنونة، مجلة عالم الفكر، المجلد الخامس والعشرين، الكويت 1997، ص 79.

وهما في هذا الديوان ينتشران ليحتلا مساحةً كبيرةً في جغرافيته الشعرية سواءً عبر الحضور اللفظي لهاتين المفردتين(الظلام، الضياء) أو عبر المفردات والعلامات التي تشير إليهما أو تقترب من عوالمهما الدلالية الإشارية مثل (النور، النهار، الشمس، النجمة، الفجر، النار، الضوء، البدر، القمر، المصباح، الشمع بالنسبة للضياء، و(الليل، الظلمة، الأسود، الغسق....) بالنسبة للظلام، وهما بذلك يصبحان من أكثر الرموز الشعرية استخداماً لدرجة أن بعض القصائد تكاد تكون مبنيةً على أساس الصراع بينهما أو التعاقب، وهذا الحضور لكلٍّ منهما يتجلى بدايةً في عنوان الديوان الذي يعد بمثابة العتبة الأولى للنص (نجمة تقود البحر) ففي هذه الصورة الشعرية يتجاور حضور كلٍّ من الظلام والضياء فإذا كانت النجمة ترمز إلى الضوء، فإنها نفسها أيضاً تشير إلى الظلمة، إذ إن النجمة مرتبطة أساساً بالظلام إذ إن وجودها في الطبيعة يقترن بوجود الليل الذي هو مصدر الظلام وتجسده الأكبر، وهذا التجسد يكون بالطبع بشكل انتشاري، واسع، ثم إن حضور البحر كعلامة شعرية في هذا السياق يجسد بعضاً من دلالة الظلمة ويقويها بدليل أن البحر يشبه الليل في كثير من الأوجه، ففي القرآن الكريم {ظلمات بعضها فوق بعض} وفي كثير من الأدبيات أيضاً يُشَبَّهُ الليلُ بالبحر أو البحرُ بالليل، إذ إن ثمة قواسم مشتركة بينهما منها الانتشار والامتداد شبه اللامحدود وخطورة السير فيهما كونهما قد يحملان للإنسان الموت والهلاك، ومن ثم حاجة السائر فيهما لهدايةٍ تنجيه من الهلاك والتعرض للمخاطر، ومن وسائل الهداية وأكثرها شيوعاً النجمة التي شكَّل حضورها في العنوان مفارقة شعرية غاية في الجمال ودقة التصوير(نجمة تقود البحر) فالمفارقة قائمة في كون النجمة تقود البحر ومن المعروف أن النجمة تقود(تهدي) السائر في البحر، لا البحر نفسه، غير أن قوة العنوان لا تكمن في ذلك وحسب، فلو استبدلنا كلمة البحر مثلا بالليل لما بينهما من قرابة (نجمة تقود الليل ) فإن المفارقة ستظل قائمةً أيضا كون النجمة تقود السائر في الليل لا الليل نفسه، غير أن قولنا (نجمة تقود البحر) يجعل المفارقة أكثر قوةً والصورة أكثر قتامةً وتوتراً لأن الليل في هذه الحالة سيكون موجود وحاضراً ضمنياً وإن لم يحضر لفظياً، بالإضافة إلى حضور علامة البحر اللفظي والدلالي، فقد اجتمع في هذه الصورة كل من الليل والبحر(وهو ما لا يتحقق في قولنا «نجمة تقود الليل» بما يوحيانه من الدلالات الشعرية المتجاورة والمتشابهه، وبالتالي فقد اتسعت مساحة الظلام وأصبح أكثر قتامة، فكان حضور النجمة الدلالي خافتاً كضوئها، إذ إنها لا تستطيع بضوئها المحدود أن تقلص من مساحة الظلام الواسعة، (بالإضافة إلى أنها قد جاءت هنا نكرةً بينما لفظة البحر معرفة) وفي هذا كله تكمن المفارقة التي بني على أساسها العنوان ولكنها رغم ذلك تكتسب أهميتها في أنها تعد بمثابة الهدى أو الفنار أو الصوى للسائرين، أو بمعنى آخر أنها تشير إلى الأمل وهذا هو الاشعاع الدلالي الذي ينبثق منها أو الذي تتمظهر به في هذه الصورة الشعرية.

ومن بين نصوص الديوان التي يكاد كثيرٌ منها ترتكز في بنائها الرمزي والإشاري على ثنائية النور والظلمة أو الظلام والضياء، نقرأ هذا النص:

شمس الفكر
أجنحة الليل بعد تسامقها،
بعد إحاطتها أكثر ببقع من جسد النجمة
وببعضٍ من موجات البحر،
كانت تتراكض منشرحة....
لكن فرسان البحر، وعشاق النجمة
كسرت ساقيها فهي الآن على وشك أن تغرق
فالنجمة المنزرعة في رحم البحر
أفقياً تكبر، عمودياً تكبر،
صارت فجراً يتصاعد نوره في الآفاق تولد منه
الشمس الفكر.
الشمس الفكر.....
رغم بقايا أجنحة الليل،
ومهما كانت تدب الآهات
لكن أشعتها تخصب فينا أملاً، تسقي دمنا فرحة
يا لبسمتها بسمة الأطفال، زدنا وثوقاً بالنجمة
زدنا حباً للبحر، زدنا دفئاً للتربة، زدنا...
فمهرتنا مشرعة بجناحيها تتقدم
نحو البسطاء تتقدم، نحو الواحات الخضراء
فيا شمس الفكر، فلتنتشر بسماتك كتباً.
كي تنضج أكثر، كي تكبر،
كي تتصلب نجمتنا الحمراء
لتقود، تهمز مهرتنا نحو شط النور الآخر
بلا وجلٍ، بلا رجعة، فنجتاز محن اليوم وما يتعرض
الغد ونواصل السفر الآتي، حيث الأحلام
الكبرى مترقباً بها نظفر.
(الديوان/ص: 64،65)

وفي هذا النص يتجلى أيضاً ثنائية الظلام والضياء:

أجنحة الليل بعد تسامقها،
بعد إحاطتها أكثر ببقع من جسد النجمة
وببعضٍ من موجات البحر،
كانت تتراكض منشرحة....

ففي هذا المقطع تكاد سلطة الظلام تبسط رداءها على هذه الرقعة، من خلال تموضع الليل كعلامة ابستمولوجية ذات أبعاد دلالية سلبية مرتبطة بالخوف بالمجهول بالخطر بالضياع بالظلم بالقهر بالكبت وغيرها من الدلالات السلبية التي زادت من قوتها البنية الاستعارية (أجنحة الليل) التي منحت الليل القدرة على التحليق على المراوغة والاحتواء، بالإضافة إلى العلامات الأخرى المرتبطة بالليل كالتسامق والإحاطة، غير أنه ورغم ذلك فإن تأثيرها كان ضئيلاً جداً فهي لم تحط إلا (ببقع من جسد النجمة) و(ببعضٍ من موجات البحر) وفوق هذا فإن هذه الظلمة سرعان ما تتبدد:

لكن فرسان البحر، وعشاق النجمة

ففي بقية النص يطغى النور على الظلمة ويبددها وتشكل علامات الضياء والنور السيميائية حضوراً يكاد يكون طاغياً على النص، وهنا تتجلى النجمة مصحوبة بقوة الصراع(فرسان، عشاق، يكسر) الذي يكون نتيجته قرب نهاية الليل (على وشك أن تغرق ) فتكون النتيجة أن يرتبط البحر بغرق الليل(الموت) ويمثل بالنسبة للنجمة أرضاً خصبةً (فالنجمة المنزرعة في رحم البحر) وذلك من خلال (منزرعة، ورحم) كعلامتين على الخصوبة والنمو والولادة، وهكذا فإن قوة الصراع تؤازرها دلالات الخصب والنماء والتجدد التي لا تقف عند ما ذكرناه بل تتسع وتتنوع، وهذا ما يشي به الفعل المسند إلى النجمة، (تكبر أفقياً، تكبر عمودياً) وهذا وسع من انتشار ضوء النجمة وبالتالي دلالاتها الإيجابية داخل النص، لتضاهي بذلك صفتي الانتشار والتوسع التي يمتلكها الليل بطبيعيه، فتستمر علامات الضياء في الاحتشاد لتتسع دائرة النور وتكبر وتقلص من مساحة الليل وسواده:

صارت فجراً يتصاعد نوره في الآفاق تولد منه
الشمس الفكر.
الشمس الفكر.....

(الفجر، نور، الشمس، الشمس) بما تبثه هذه الرموز من اشعاعات رمزية غنية بدلالات النور والبهاء والخير (يتصاعد، آفاق) السمو الارتفاع الرحابة .....(تولد) الخصوبة والنماء............

وهكذا فإن الليل بما تبقى له من أجنحة يتقهقر ويضعف وينهزم أمام النور.. ويطغى النور في بقية النص من خلال (أشعتها، النجمة، شمس، نجمتنا الحمراء، النور) وتؤازرها حشد من العلامات الكلمات ذات الدلالات الإيجابية (تخصب، أمل،تسقي،فرحة،بسمتها، بسمة، أطفال، دفء، الواحات الخضراء،.........) بل إن من الملحوظ أن الليل منذ بداية النص قد كان حضوره باهتاً جداً ليمثل ليس سوى مقدمة ممهدة للنهار، والنهار ((هو مقوّم دال على حَصْحَصة الضوء؛ أي على انتشار هذا الضوء في أرجاء الأرض؛ حيث ينزاح الظلام مجردَ إصْباح الصباح؛ فبين هذين المقوّمين الاثنين تباين طبيعي.

بيد أننا نلحظ فيهما، مقابل ذلك، تشاكلاً طبيعيّاً أيضاً يقوم في دلالة كلّ منهما على مدىً من الزمن معيّن. ويزداد هذا التشاكل تلاحماً أنهما يتقاسمان، كلّ يوم، زمناً واحداً بينهما؛ هو أربع وعشرون ساعة. وإذا استأثر أحدهما بزمن أطول من الآخر فإنّ ذلك لا يكون إلا موقوتاً؛ إذ سرعان ما يستعيد الآخر حقّه في هذا الزمن. ويستمرّ هذا الصراع بينهما أخذاً وعطاءً، وتزايداً وتناقصاً، على مدى الدهر. ولا يكادان يستويان في الأخذ من أطراف هذا الزمن إلاّ في أيام قليلة معروفة من العام.))*التحليل السيمّائيّ للخطاب الشعريّ [تحليل بالإجراء المستوياتيّ لقصيدة شناشيل ابنة الحلبيّ] د. عبد الملك مرتاض،اتحاد الأدباء والكتاب دمشق /2005م /ص:28 .

وإذا كانت هذه النصوص في المجموعة التي بين أيدينا نصوصاً شعريةً لا تخلو من المضمون السياسي بل إنها ترتبط به ارتباطاً وثيقاً فما الذي يمكن أن نستشفه من ذلك لو ربطنا تلك العلامات الشعرية بسياقها أو بالخلفية الفكرية والرؤيوية التي انتجت في ضوئها فإنها ستحيلنا وبلا شك إلى النضال الذي كان يقوم به عبد الفتاح في سبيل الفكر الاشتراكي وتكريسه كونه من وجهة نظره الحل الأوحد والأنجح في سبيل تحقيق السعادة والرخاء وزرع الحرية والمساواة والعدالة الإجتماعية للبشرية، وبناء الحضارة والمدنية.....

وهذا هو الذي يجعلنا وبشكل عام نقرأ علامات الظلام والضياء على أساس أن الضياء الذي تنبثق منه دلالات الخير والسعادة والحرية في مختلف مستوياته الرمزية، يمثل الفكر الاشتراكي الذي كان يراه أصحابه ومنهم صاحب هذه المجموعة الحل الأنجع لتحقيق السعادة والرخاء للبشرية، وقد جسدت ذلك كثير من الرموز الشعرية ذات التمثل الضوئي بدلالاته الإيجابية فالنجمة ربما تحيلنا مباشرةً إلى النجمة الحمراء رمز الاشتراكية وشعارها، وعلى هذا يمكن أن تقرأ باقي الرموز الأخرى مثل الشمس والنور والضوء والبدر والقمر وغيرها على أساس أنها تشير إلى الفكر الاشتراكي والنظام الماركسي الذي يجب أن يحكم العالم ليعم الخير والعطاء والحرية والعدالة ولا بد أن يتغلب على غيره ويقصيه كما يقصي النهار الليل وكما يبدد النور الظلمة، والسبيل إلى ذلك هو الصراع وحتميته، الصراع الذي تجسد في الواقع بين المعسكرات الفكرية السياسية، وتجسد في النصوص بين كلٍّ من قوتي الظلام والضياء كشيءٍ لابد منه، وأخيراً بما أنه لايجوز لنا كما أننا لا نحبذ أن نخوض في مناقشة الأفكار والرؤى ونبدي اتفاقنا أو اختلافنا معها لكي لاتقع هذه القراءة المحكومة بسياقها الأدبي في فخ الأيديولوجية الذي نحاول تجنبها قدر الإمكان ونتوخى الموضوعية ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، أقول بما أنه لا مجال لذلك فإن طفلاً ما جاء من أقصى القصيدة يسعى أبى إلا أن يذيل هذه الأوراق بسؤالٍ كهذا:

كيف استطاعت كلٌّ من الكلمة والفكرة والرصاصة أن تنطلق جميعاً من فوهةٍ واحدة؟!.
أعلى