رسالة من أحمد بوزفور الى ادريس الناقوري

أخي العزيز الأستاذ إدريس نقوري، أخصب الله عقله ولسانه، ونصب أعماله معالم للهدى ومنارات للمعرفة ومناهل لضوال الحكمة ترتوي منها الأجيال.
أما بعد، فقد كنت نائما ليلة الواحد والعشرين من آذار، فرأيت في المنام حلما غريبا أفزعُ في تأويله إليك سيدي، فقد عودْتَني أن تكون حاضرا عند الفزع غائبا عند الطمع، ناقعا لغلة السؤال، محيطا بسعة المدلول على غموض الدال. فقد أُريت كأنا ـ سيدي إدريس وأنا ـ مسافران في صحراء، راجلين وحيدين كنا، وبدون زاد و لا ماء. بلى, كنت أعرف أن مع الأستاذ قربة ماء، وكنت واثقا من أنه سيتقاسمها معي، بل وقد يوثرني بها عند الضرورة. فأنا أعرف أنه من أحفاد كعب بن مامة، والعرق نضاح. كلا، لم يكن الماء يشغلني، بل القافلة، إذ كنت أحس بأنا أضعنا القافلة التي نسافر فيها.
الشمس شمس أصيل، لطيفة الضوء والحرارة، كأنما نحن مقمران. ولكن المعالم غائبة: لا جمل في المدى ولا شخص في الأفق. والريح الحنون أو القاسية قد محت الخطوات وسوت الاختلافات، وصنعت من الرمل زرد. ( أيُّ درع لقتال لو جمدْ)، أو هكذا قال الشاعر. أم تراها شاعرة؟ والصمت! يحتاج هذا الصمت الصحراوي إلى ناي.
( والنااااااي, على الشط غنى و القدود).
لا قدود ولا شط ولا ناي. ليس إلا الصمت والضوء المقمر والشساعة والأفق الواعد المتواطئ معك وعليك في نفس الوقت.
فجأة، وقبل أن نفكر في الاستنباح، نبت أمامنا قصر: سور أبيض حليبي، لا باب فيه ولا نافذة، ومن ورائه تبدو القباب والأسطح الملونة ورؤوس الأشجار. هو قصر فعلا أم هي خيالات الصحراء؟ ( هل صنع الوهم من الرمل إرم؟) ولكن سيدي الأستاذ يدق على ما لعله توهمه بابا، وينادي، كأنما يعرف السكان. وها هو الباب يفتح، والحراس المتجهمون يخرجون و يحيطون بنا، ويسوقوننا بالإشارة إلى داخل القصر: دهليز معتم تخفق في جوانبه شعلات قنادل غير مرئية. أرضه من الحجارة، وطوله لا نهاية له كما يبدو، فقد ظللنا نسير فيه زمنا على إيقاع قرقعة حديد الحراس ووقع أحديتهم المعدنية على الحجر الصلد. ثم انفتح الدهليز المعتم عن قاعة فسيحة مضاءة بآلاف الثريات، خيل إلي، وغاصة بالناس. هل هؤلاء ناس؟ كائنات لطيفة خفيفة ناعمة كأنما جبلت من أثير أو فطرت من نور، تتحرك في الهواء دون أن تخطو كالفراشات، وفي الجو موسيقى خفيفة خافتة كخفق أجنحة الملائكة، وفي قلب القاعة تجلس على سريرها الملكة. لا بد أنها الملكة هذه التي أوقفنا الحراس أمامها وتراجعوا. أشارت الملكة إلى سيدي الأستاذ بالجلوس على كرسي وحيد بجانبها. لم تنظر إلي ولم تشر. ولا مقعد آخر في الجوار... فبقيت واقفا.
أشارت الملكة إلى شخص خلفها في الكواليس، فتقدم ووقف في مواجهة سيدي الأستاذ الجالس، وأخذ يقرأ من صحيفة في يده دون استهلال كأنما يتابع قراءة سابقة قطعت:
(...سلم المسلمون من لسانه ويده، وانتفع الناس من علمه وخلقه، لم يحقد على أحد ولم يكره أحدا، ولم يخرجه عن طوره الهادئ الحكيم أحد. وسع صدره الموافق والمخالف، وسما قدره عن مزالق الهوى ونزوات الغرض. كان من عقله الواسع في مكتبة, ومن روحه الورعة في محراب, ومن نفسه السمحة وحلمه الغامر وأدبه الجم في بحيرة دهاق لا ضفاف لها ولا قرار....) وظل يقرأ ويعد مزايا سيدي الأستاذ، والملكة تسمع وتنبسط أساريرها... حتى إذا انتهى من قراءة الصحيفة، التفتت الملكة هاشة باشة إلى الأستاذ وقالت له :نعمت بك إرم.
وفيما هي تأخذ بيده و تتهيأ له, وأعوانها من حولها يهمّون بالمغادرة... صحت: وأنا؟! فالتفتت الملكة كالمفاجأة وهي تسأل: ومن هذا الزَّوْل؟ قلت أنا فلان الفلاني من سكان العين الحمئة خلال القرن الخامس عشر لهجرة الرسول محمد عليه السلام. قالت الملكة: فماذا تقول صحيفته؟ قال القارئ وهو ينظر في سجل كبير بين يديه:
سجلك صفر من المكرمات. فما لك في إرم من مقام! قلت: بلى, قد كانت لي مكرمة أيام الحداثة: كنت أستاذا للأدب العربي, وكنت أدرس الشعر الجاهلي, وأطلع الطلبة على أسرار العربية. قال القارئ بمرأى ومسمع من الملكة وأعوانها, وسيدي الأستاذ واقف ينظر وينتظر: لنر حظك من هذه المكرمة وخبرتك بأسرار العربية. خبرنا يا أستاذ العربية عن (إرم) هذه, هل هي من أصل عربي أو أعجمي؟ وإذا كانت عربية,فهل هي من الأرومة بمعنى الأصل, وتجمع على أروم كما قال زهير:
لهم في الذاهبين أروم صدق = و كان لكل ذي حسب أروم
أو هي من الأرام: حجارة تنصب في المفازة يهتدى بها. أو هي من قولهم: ( ما بها إرم) أي أحد كما قال المرقش:
أمست خلاء بعد سكانها = مقفرة ما إن بها إرم
أو هي من الأُرّم, بمعنى الأضراس أو الأنياب. ومنها قولهم: ( يحرق عليه الأرم) أي يحك أضراسه ببعضها من الغيظ. وإذا كانت أعجمية غير مصروفة للعلمية والعجمة, فهل عجمتها مغرقة في القدم قبل وضع العربية؟ وقبل عاد وتمود, كما قال ابن الرقيات:
مجدا تليدا بناه أوله = أدرك عادا و قبلها إرما.
أو هي عجمة محدثة من عجم ما بعد إسماعبل؟ وهل علميتها علمية شخص إذ يقال إن إرم شخص, وإنه إرم بن سام بن نوح عليه السلام, أو هي علمية أمة, فتكون إرم هي عاد أو إحدى قبائل عاد؟ أو هي علمية مكان, إذ يقال: إن إرم هي مدينة شداد بن عاد بتيه (أبين) بصحارى عدن؟ أو هي بلاد عاد, ويدل عليه قراءة ابن الزبير: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم) على الإضافة. أو هي مدينة متنقلة كما يقال, فكانت باليمن زمنا, ثم بالشام, ثم ارتحلت إلى بلاد المغرب لتحقق الأمر الإلهي بالكينونة ، فهي تراوح بين منطقة الكاف في المغرب الأدنى وبين واد نون في المغرب الأقصى؟ ثم خبرنا عن (إرم) هذه, هل هي على وزن (فعل) أو على وزن (إفل) أو على وزن (إفع) أو على وزن (إعل)؟ وعلى الأوزان الثلاثة الأخيرة, ما هو الحرف المحذوف؟ ولم حذف؟ وهل هي مفرد فيجمع على أرام وأروم كــ (ضلع) التي تجمع على أضلاع وضلوع؟ وما الفرق حينئذ بين أرام جمع إرم وأرام جمع ريم, أي غزال؟ أو أن إرم جمع كحِكم ونِعم, مفرده إرمة. وما هي الإرْمة؟ إذ لم نسمعها في مروياتهم, إلا أن تكون الميم في لهجتكم بدلا من الباء, فيكون أصلها الإرْبة, بمعنى الدهاء والحيلة. وعلى هذا ما المانع من أن تكون الميم عندكم بدلا من الباء في كلمات أخر, فتقولون مثلا ( وافق شن طمقة) و(الصيف ضيعت اللمن). وقل لي: كيف تصغر إرم؟ وكيف تصوغ منها فعل التفضيل؟ وكيف تتعجب بها؟ وكيف تناديها؟ وكيف تنسب إليها؟ وكيف تقول لو أدخلتها في الإتباع على غرار (حسن بسن), و(شيطان ليطان)؟ ولو لثغت بها, فأي اللثغات أحلى: (إلم) أو (إيم) أو (إغم)؟
وإذا كان من السهل أن تقفي بها الطويل والكامل والبسيط, فكيف تقفي بها الوافر والمتقارب والرمل؟ ولو عجزنا مطلع مفضلية المرقش:
هل بالديار لأن تجيب صمم = لو كان رسم ناطقا كلم
فقلنا:
هل بالديار أن تجيب صمم = إذ سألت عيناي أين إرم
فكيف تقفي بإرم مطلع مفضليته الأخرى:
هل تعرف الدار عفا رسمها = إلا الأثفي و مبنى الخيم؟
وإذا كان لكل أمة إرمها, فما هي آرام العجم و الروم؟ وما هي آرام الأحباش والمغول وبني الأصفر؟ وما الفرق بين إرم الفلاسفة وإرم الصوفية وإرم القصاصين وإرم الشعراء؟وإذا كانت إرم العرب هي ما وراء البحر في أوربا, و إرم الأوربيين هي ما وراء البحر في أمريكا, وإرم الأمريكيين هي بلاد العرب وثرواتها, فكيف تفسر هذه الحلقة المفرغة من الآرام التي يعكس بعضها بعضا, ويفضي بعضها إلى بعض؟ وهل للجن آرام كما للإنس آرام؟ وإن كانت, فهل بناها سليمان أو كانت قبل سليمان؟ وما علاقة بلقيس بها؟ وهل كان الذي عنده علم من الكتاب إرميا؟ وما الذي يعنيه الحارث بن حلزة حين جعل عمرو بن هند إرميا في قوله في المعلقة:
إرمي بمثله جالت الجــــن = فأبت لخصمها الأجلاء؟
وخبرنا عن قول عدي بن أمية الضبي في فرسه ( العرن):
ليت شعري و ليت أهلكت إرما = هل يجزيني بما أبليت العَرَن
كيف أهلكت ليت إرما؟ وكيف تستحيل الأمنية منية؟
وظل القارئ يخوض في هذا وأمثاله حتي بعلت بأمري, واختلط عجري ببجري, ودخل حيصي في بيصي, وخماسي في سداسي في أحادي, ونيطت لييلتي بالتنادي. ولقد وددت لو ابتلعتني الأرض فغُرت مع مائها الغور, أو حلقت بي في عنان السماء عنقاء مغرب, أو أدرك شهرزادي الصباح, أو دقت الساعة ونفخ إسرافيل في الصور. حتى إذا سكت القارئ وأغلق السجل وساد الصمت, وأدركت أنني على شفا العودة إلى الصحراء, صحت:
" لكن لي مكرمة أخرى هي مكرمة المكرمات, ولا يستطيع هذا القارئ المغرّق أن ينكرها أو أن ينتقدها أو أن يغمطني حقي فيها. قالت الملكة: وما هي؟ قلت: هي أني صاحب الأستاذ إدريس. ولقد عرفته منذ قرابة أربعين عاما, لم يكدر صداقتنا مكدر, ولا شابتها شائبة وبل كانت تزداد على الأيام قوة وعمقا, وتصفو وتشف, وتسمو فوق ما قد نختلف فيه, حتى لكأننا الكميت والطرماح اللذان تقول الحكايات إن صداقتهما ظلت قوية حتى ماتا بالرغم من خارجية هذا وشيعية ذاك. وصاحبي هذا الذي تحتفون به اليوم هو شفيعي لديكم فاسألوه! فالتفتت الملكة وأعوانها جميعا إلى سيدي الأستاذ, فابتسم و هو يقول لا فض فوه: أنا لا أخلع صاحبي. ولقد قالهاـ عطر الله لسانه ـ بلهجة صافية بريئة قد خلت من مكر عمرو, وتحلت بتقوى ابي موسى. أما القوم, فقد ابتسموا لي... واما أنا, فأية خلعة خلعها علي سيدي الأستاذ. لكأني ساعتها كعب يختال في البردة, أو أيوب يرفل في الصحة, أو إبراهيم يرتعش ثم بعد الأمر الأعظم ينتعش وسط النار. و هزتني الأريحية فقلت مرتجلا:
لئن عدم الناس الشفيع لديكم = فإن شفيعي ـ صانه الله ـ إدريس
دخلت ومثل الصفر تعتبرونني = فقام معي, فأصبحت نقطتي ديسُ
فانبرى القارئ المغرق لي مستنكرا: وما ديس داستك الفيلة؟ و ما النقطة ها هنا؟ ثم ما هذا الكلام؟ هل تخلط العربي بالسرياني؟
وقبل أن أجيبه, دقت طبول الملكة، فانتبهت من المنام.
إدريس أيها الصّدّيق, افتنا في حلم إرم هذا, فما نحن بتاويل الأحلام بعالمين. وما تفسيره على رجل مثلك/ له في كل علم سهم, وله في هذا الحلم بالذات دور/ بعزيز.
حفظ الله سيدي الأستاذ, وحفظ به العلم والحكمة والأدب والأخلاق, وأسعده وأسعد به محبيه, متعني الله بصحبتهم, وحشرني في زمرتهم.
والسلام عليكم ورحمة الله.
أحمد بوزفور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى