موشيه سميلانسكي - عطالله.. قصة قصيرة - ترجمة: لمياء عصام مرسي

كان عطالله ملحد القرية. كان ينتهك كل المقدسات علنًا. كان يتيمًا. جاء مع أبويه من مصر، وعندما ماتوا بقي وحيدًا ومنعزلًا.
كان الولد المدلل للقرية بسبب صوته الجميل والعذب. عندما كان يغني أناشيد دينية، كان يستمع إليه كل شيوخ القرية في فرح وبهجة، ويهتفون له في لحظات نشوة: الله، الله! وعندما كان يغني أغاني الغزل المعروفة "يا ليلي" أو أغاني "بغدادي"، المليئة بالشوق والرغبة، كان يستمع له كل بنات القرية وقلوبهن تخفق وتذوب من العذوبة.
كان عطالله مهمًا جدًا في أعين بنات القرية في ذلك الوقت. وعندما كان يمر عطالله في الشارع ويغني، لم يكن يشاهده أحد من شقوق الأبواب.
لكن الشيوخ غضبوا منه منذ أن حاد عن الصواب. – ومن أين جاء بكل هذا؟- هكذا كان شيوخ القرية يتساءلون ويتهامسون، أثناء جلوسهم على "المزبلة".
- مستوطنات اليهود، المستوطنات هي التي تُفسد شبابنا – قال الشيخ شوربجي والشتيمة تنفلت من بين شفتيه. وعطالله قد حاد بالفعل عن طريق الصواب.
في رمضان، يجتمع شيوخ القرية، الحجاج والدراويش، قبل المساء في غرفة المسجد الصغيرة. الجميع وجوههم شاحبة، ونظراتهم مُتعبَة، يتهامسون أحيانًا ويرددون أدعية دينية. كان الشاب بينهم ينظر خلسة إلى الغرب، ليرى غروب الشمس، وعندما تلتقي عيناه بشيخ غاضب، يخفض نظراته ويحمرّ وجهه... حول الجامع يتحلق "أصحاب البيوت" في نصف دائرة كبيرة، أرجلهم مُربعة وآذانهم تنصت لحديث الشيوخ.
يمر بجانبهم، النساء القادمات من البئر، والراعي العائد من الحقل، الذي يحث بهائمه على التحرك ويبعدهم عن الجامع، كيلا يقلق راحة الشيوخ...
بعد الصيام الشاق يسود شعور بالراحة النفسية في المنطقة بأكملها.
وها هو عطالله يأتي من بعيد، بابتسامة على شفتيه، وسيجارة في فمه. وهو يتجه ناحية الشيوخ... وبمجرد أن بدأ في غناء أغنية "بغدادي" قفز الجميع من أماكنهم في فزع وسدّوا آذانهم في خوف...
هكذا ينتهك المقدسات!
وأمام الجميع، - عطالله يشرب الخمر علانيةً!
في الظهيرة ، يتجمع كل شيوخ القرية حول "البركة" ليدفئوا أنفسهم وليتوضأوا قبل صلاة الظهر، والنساء المُسنات جالسات يُصلحن الملابس البالية. والبنات العذراوات تأتين لملأ جِرار الماء. وعطالله يبسط "عباءته" على "البركة"، يجلس ويُعدّ طعامه. أحضر من المستوطنة "سردين" وزجاجة خمر. بحذر شديد يفتح الزجاجة ويشرب منها على الملأ... والجميع يراه! في البداية ينظر إليه الشيوخ بدافع الفضول وبعد ذلك يشيحوا بوجههم بعيدًا، يبصقون في غضب ويقولون: شيطان! والفتيات يختلسن النظرات، حتى لا يراهن الشيوخ، ووجوههم متوردة! ولم يكن يخشى أحدًا..
يزداد عطالله سوءًا بعد سوء. وأعمال الإلحاد يفعلها عن قصد، كأن روحه تسمو بذلك.. وخاصة عندما يفعلها في العلن، وخاصة في أوقات النهار، وخاصة أمام الكثير من الناس، كي يروا ويسمعوا. إنه ينشر الإلحاد.
كان عطالله أيضًا "اشتراكيًا"، وقد عانى الرأسماليون منه في القرية. كان يسخر من الحمقى، الذين يبيعون أنفسهم للفلاحين الأغنياء من أجل الخبز والملبس. عندما كان يجتمع كل أبناء القرية، يبدأ عطالله في سب الأغنياء، لأنهم يستغلون إخوانهم الفقراء، ويدعوهم لتعلُّم الأخلاق من "اليهود"، الذين يدفعون لنفس العمال العرب أجر مضاعف.
وعندما كان يخرج الشيوخ لتقسيم الأرض أو لجباية ضرائب الحكومة، يقف عطالله لهم كالشوكة في الزور. في الصباح، تذهب مجموعة كبيرة من القرية إلى الحقل، يتقدمهم الشيخ متكئًا على عصاه الغليظة ولحيته الكبيرة والبيضاء تداعبها الرياح، ووجهه تعلوه تجاعيد قلق ورهبة، وكأنه يذهب لتقديم أضحية... وخلفه يسير كل شيوخ القرية، جميعهم يمشون في هدوء. وخلفهم كل القرية، ومن ضمنهم النساء أيضًا. دار بينهم جميعًا جدال خافت... في ليلة أمس، عندما تم تقسيم الأرض، حدث هذه المرة مثلما يحدث في كل عام: أصبح الجزء الأفضل من الأرض من نصيب الأغنياء. الآن سوف يضيفون حدود. سار فلاحان طوال القامة كالأشجار وأقوياء كالحديد، حاملين أدوات قياس الأرض في أيديهم، بالقرب من الشيخ، مستعدون لتنفيذ أوامره.
- بسم الله الرحمن الرحيم! – هكذا قال الشيخ في خشوع ورفع عينيه للسماء.
- لا إله إلا الله وسيدنا محمد رسول الله! – هكذا أجاب على الشيخ جميع أهل القرية. وبعد لحظات سُمع تهامس بين الشيوخ.
أخذ الشيخ أدوات القياس لكي يقيس قطعة الأرض الأولى.
- قام الشيخ بتوسيع المسافة بين كل مقياس وآخر. لتصبح قطعة الأرض هذه مِلكه أو مِلك أحد أقاربه... فجأة سُمع صوت عطالله وهو يخرج من بين الحشد وترتسم على شفتيه ابتسامة خفيفة.
أربدّ وجه الشيخ. وساد عتاب صامت بين الحشد كالموجة الهادئة:
- لقد حظيتم بالنصيب الجيد بما يُرضي الله، ولكن لماذا تتوسعون في القياس؟
عندئذٍ ساد هرج ومرج بين الحشد، وهناك مَن عاد إلى بيته خاوي اليدين، وهناك مَن أصابته بعض اللكمات.
- الشيطان يتكلم بفمه الحقير. هكذا تهامس الشيوخ.
- لو لم يكن يتيمًا!... هكذا قال أحد الأغنياء الطامعين.
كان عطالله أيضًا "سياسيًا" خبيرًا. وفي الأيام التي تنتشر فيها أحداث سياسية، يصبح عطالله ذو قيمة كبيرة في أعين أبناء القرية. وقتئذٍ ينصت الشيخ شوربجي جيدًا للأخبار التي يحكيها عطالله الجالس في الفناء، قبل المساء، على "المزبلة" بين كبار القرية. يحب العرب ويفهمونها كيفما اتفق. وكانت مصادر الأخبار لدى عطالله لا تنضب.
في المستوطنة، وقت الظهيرة وقبل المساء، بعد العمل وفي يوم ممطر، يأتي عطالله إلى المستوطنة ويتحدث مع الشباب في السياسة وعما يُكتب في مجلة "الجازيت" كان عطالله يتحدث عما يُكتب في مجلة "الجازيت" برهبة، وكان يغتاظ جدًا لأنه لا يعرف القراءة والكتابة.
- من أين تأتي مجلة "الجازيت" بكل هذه الأمور؟ هكذا كان يسألني عطالله وينظر إليّ باهتمام شديد، وعندما كنت أشرح له سر مجلة "الجازيت"، يُفغر فاه ويتلقى كلامي كأنه وحي.
كما كان يتفقد الأخبار من يافا.
يحب عطالله يافا ويزورها من حينٍ لآخر. لسببين: أولًا، لأنه هناك يستطيع أن يقضي وقته مع النساء بشكل أكثر حرية، وثانيًا، لأنه هناك يستمع للأخبار.
يحب عطالله المقهى أسفل الثكنة، كان يجلس هناك على أحد المقاعد ويبدأ في الغناء أمام نفسه.
في المساء، تغرب الشمس ناحية البحر، تصبغ أشعتها الأخيرة السماء والجدران بلونٍ ذهبي، وترسم طريقًا ذهبيًا في وسط البحر. البحر هادئ ويداعب رمال الشاطئ. الهواء يُهدّئ وينعش النفس بعد يوم حار. يمتلئ المقهي بالرواد. بدأ الشعور العام في إيقاظ نفس عطالله، وأيضًا السفينة الكبيرة، القابعة في وسط البحر والتي تُخرج دخانًا من مدخنتها العالية، توقظ في نفسه رغبة دفينة... تبدأ روحه في التدفق أثناء غنائه، يستمر في غنائه، وينتقل إلى الجو العام، وإلى البحر، ويملأ الهواء... يجذب غنائه مجموعة من السامعين، يحب العرب الغناء كثيرًا. "الفتى الغاضب" هكذا يقول شخص لزميله، ويزداد السامعون. وعندما يغني عطالله، يتحلق حوله الكثيرون بقلوبٍ مفتوحة. ولا يطلب أي أجر سوى "الأخبار"، أخبار من العالم الواسع، من البلاد الأخرى، من أعمال الملوك هناك في الناحية الأخرى للبحر... والناس يحكون.
كانت أحاديث عطالله السياسية تلقى اهتمامًا كبيرًا، وأيضًا ينصت إليه الشيوخ باهتمام كبير، لكنهم أحيانًا ينظرون حولهم، ليروا إذا كان أحد يسترق السمع لهذا الكلام الخطير. يكره عطالله "البيروقراطية" العثمانية وهو مؤيد متحمس للملكة الإنجليزية. وللعجب كان يحكي عن كل "الإصلاحات" التي تقوم بها الملكة الإنجليزية في مصر. وفي ساعة العمل تنفجر من فمه السباب ضد الحكومة، وضد السجن، وضد الجنود.
كان يحب عطالله أن يتفلسف. وكانت النساء هي موضوع أحاديث الفلسفة. حلم كثيرًا بالحب. ومن التفلسف ينتقل عطالله للغناء... وعندما يغني أغاني وليدة اللحظة كان يغني عن الليالي السوداء كعيون المرأة وعن العيون السوداء كالليالي...
واحتفظ أغنياء القرية ومتشددينها بكرههم لعطالله سرًا. ومع الوقت نفد نصف صبرهم- وفي النهاية نفد كله.
وهناك أمرًا سيئًا وهو أن عطالله لم يتم تجنيده في الجيش. لقد كانت الحرية بالنسبة له كالهواء الذي يتنفسه، لا يستطيع أن يعيش بدونها. ولم يتم تجنيده بسبب عمه، أخو أبوه العجوز، الذي لم يكن له أبناء ذكور، وكان لديه ابنة فقط، وتمت خطبة الفتاة لعطالله وفقًا لتقاليد العائلة، وبفضلها تم إنقاذه من التجنيد: فهم لا يأخذون للتجنيد مَن تكون زوجته بلا أخوة ذكور.
لكن الشيوخ لم يقفوا مكتوفي الأيدي.
كان هناك شابًا من أبناء القرية تعلّم في القاهرة وسيُنهي عن قريب دراسته، والآن يعود إلى بيته وينتظره مستقبل مشرق. وسعى الشيوخ في خِطبة "المتعلم" لابنة عم عطالله، وبالفعل نجحوا في ذلك: ودفع المهر ألف فرانك.
وتمت الاجراءات في صمت. ولم يعرف عطالله أي من هذا. حتى أنهى الشيخ شوربجي الأمر مع عمه.
ولم يعرف بهذه الكارثة إلا عندما جاء رجال السُلطة لتسجيل أسماء المرشحين للتجنيد، ودوّن العمدة اسم عطالله في خانة يتيم وحيد: ولم يدون عمه اسمه في خانة الصِهر!
واليتماء الوحيدون هم مَن يتم تجنيدهم.
استشاط عطالله غضبًا. لكنه لم يستطع أن يفعل شيئًا. أخذه رجال التجنيد وأحضروه لغزة.
أقسم عطالله على الملأ، أن يهرب من التجنيد وينتقم.
لكنه لم يستطع أن ينفذ وعده وينتقم.
هرب من الجيش، لكنهم طاردوه، استهدفوه وأردوه قتيلًا..


- موشيه سميلانسكي
- ترجمة: لمياء عصام مرسي


------------------------------------------
* موشيه سميلانسكي: (1874 – 1953) هو فلاح وصحفي وأديب عبري. ولد في أوكرانيا، وهاجر إلى فلسطين عام 1891 واستقر في رحوفوت. في عام 1898 نشر أول مقال له بعنوان "الصافرة"، واستمر في وصف حياة المستوطنات في فلسطين تحت اسم مستعار "ابن حواء". وكتب مقالات عديدة في صحف مثل "هامليتس" و"هاتسوفيه" وفي دوريات مثل "هآارتس" و"هاشيلوح" وغيرهم. أكثر سميلانسكي من الكتابى عن حياة العرب في فلسطين ولذلك لقبوه بـ"الخواجه موسى". من أعماله (הארבה الكمين) 1930، (ספורי סבא قصص الجد) 1946، (בהר ובגיא في الجبل وفي الوادي) 1949.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى