رسالة محمد حسنين هيكل إلى «المصري اليوم»

عزيزى «ياسر»

إنك تفضلت بزيارتى، مساء أمس الأول، وذكرتنى أثناء جلسة مودة بيننا أن عيد الميلاد التاسع لـ«المصرى اليوم» يحل اليوم ولم أكن ناسياً، لأن هذه الصحيفة التى ترأس تحريرها الآن تظل واحدة من أبرز العلامات المستجدة على الصحافة المصرية فى السنوات الأخيرة الفوارة والجياشة الحافلة بالآمال العظام والمخاطر الكبار، وقد وجدتنى هذا الصباح - وعلى عجل - أجلس لكى أوجه إليك رسالة تهنئة مستحقة، راجياً منك مسبقاً أن تغفر ما قد يبين فيها من ظواهر العجلة، لأنى أريد لهذه التحية أن تصلك يوم العيد لا تتخلف عنه.

والتحية أولاً مستحقة بالطبع إلى حلم جسور، وجد إرادة تنفذه.

والتحية ثانياً أن جسارة الحلم وإرادة التنفيذ وجدت جماعات صحفية تقوم على تحويلها إلى كفاءة عمل وفعل.

لكن التحية الثالثة - والأهم - هى بالتأكيد لقارئ لمح جديداً فأقبل عليه وشجعه وأعطاه فرصة نجاح مشهود فى عمر محدود.

وشأن كل نجاح فإنه فى لحظة من تجربته أثناء حركة تقدمه - يحتاج إلى عملية تركيز وتعزيز، كما يحتاج فى نفس الوقت إلى عملية شحن وحشد تنطلق به إلى أوسع وأبعد، وهنا يجىء دورك فى مسيرة متواصلة باستمرار، متجددة طول الوقت.

دعنى على الفور أؤكد ثقتى فيك - وفى الجيل الذى تمثله - فقد سعدت بالتعرف عليه، والتواصل معه، ليس لمجرد المودة وهى قائمة، لكن لسبب مُضاف هو أن مستقبل المهنة فى يده، مرهون بقدرته وموصول باستعداده لمخاطر على طريقه، تفوق ما واجهته أجيال سبقت وحاولت قدر ما استطاعت فى زمانها.

وقد أهمس فى أذنك أنه لا شىء يطمئن رجلاً مثلى يقف على حافة الغروب، من أن يلتفت وراءه ليجد أجيالاً تسعى عند بداية النهار أو قرب الظهر مقبلة على المهنة، مؤمنة بدورها، عازمة على أن تعطى قارئها أفضل ما عندها، وكذلك تجدنى سعيداً بك - وبجيلك - راجياً وداعياً.

..........

أسباب الرجاء عندى قائمة بما أعرفه عن جيلكم، وأسباب الدعاء موجبها ما أستشعره من هواجس ألمح ظلالها وأخشى احتمالاتها!

والشاهد أن الصحافة العربية كلها - والمصرية بوجه خاص - تواجه مرحلة لم تقابل مثلها فيما سبق، ولكى أكون محدداً فإن الصحافة التى أتحدث عنها هى الصحافة الورقية - بالكلمة المكتوبة - حتى وإن حملتها ورافقتها وسائل من التكنولوجيا تضيف إلى الكلمة لوناً وحركة، تخدمها ولا تجور عليها.

كانت هذه المهنة دائماً خطرة، وفى شبابى الباكر أسميتها «مهنة البحث عن المتاعب»، وتحت هذا العنوان كتبت باباً ثابتاً فى «آخر ساعة» فى عز مجدها أواخر الأربعينيات من القرن الماضى، وفى الحقيقة فقد كان ذلك العنوان استيحاءً من مقدمة كتاب للصحفية الأمريكية الأسطورية تلك الأيام «فرجينيا كاولز»، ثم شاع العنوان، وجرى استعماله كثيراً حتى تهتكت حروفه.

لكن مهنة الصحافة - صحافة الكلمة المكتوبة على ورق - عاشت حياتها مع المتاعب بنشاط، وتحملت أثقالها بهمة، واستطاعت على اتساع العالم العربى كله - إلى حد ما - أن تقول كلمة حق فى مواجهة جبروت سلطة.

لكن العصور واجهتها بتحديات من نوع جديد، وأنت وأنا نعرف ثلاثة تحديات - على الأقل - جاءت بها حركة التطور الهائلة فى العلوم والتكنولوجيا.

- تحدى التليفزيون: حاضراً على ساحات الفعل، وجاهزاً لنقل الصورة مباشرة، بالصورة واللون وحتى المذاق!
- تحدى تكنولوجيا الاتصال: من التليفون المحمول إلى الآى باد، تحمل الأخبار والمعلومات والصور إلى طالبيها ومضات برق له سرعة الضوء قبل سرعة الصوت.
- ثم إن وسائل الاتصال الاجتماعى حوّلت كل مواطن مهتم إلى صحفى محترف.

وأظن أنه كان فى مقدورنا جميعاً، بقايا جيلنا، وطلائع جيلكم، مواجهة هذه التحديات، أو على الأقل إدراك أن وسيلتنا إلى حماية الكلمة المكتوبة على ورق هى أن نذهب بها إلى العمق الذى لا تستطيع العدسات أن تصل إليه، ولا تقدر التكنولوجيا بعد الومضات الأولى أن تغوص فيه، لأن مجال العقل الإنسانى وحده ولا أداة غيره تستطيع الوصول إلى هذا العمق، ولا أحتاج إلى تنبيهك أن العمق يختلف عن التقعر، وأن التعبير عن العقل لا يصح بالضرورة أن ينقض على الناس ألغازاً يصعب فهمها.

لكن التحديات لم تتوقف، فإذا بنا - أو بالأحرى إذا بكم - أمام عوالم لم تكن معروفة أو متصورة، وهنا الأرض المجهولة أمامكم بلا كشف وبلا رسم!

أنت تعرف هذه التحديات كما أعرفها، ومع ذلك فقد أتزيّد وأذكّرك - أو أذكّر آخرين - ببعضها.

مشكلة الصحافة فى العالم كله وفى العالم العربى بشكل خاص أنها مضطرة إلى علاقة مباشرة مع سلطة الدولة، لأنها الصانع الأول للأخبار، والسلطة بالطبيعة تريد أن تحجب أو تبيح بما يناسب هواها، وذلك يخلق بينها وبين الصحافة علاقة قُرب ضرورى ومسافة بُعد مطلوب فى الوقت نفسه.

وبؤرة الأزمة فى هذه اللحظة الراهنة والقادمة، أن السلطة فى العالم العربى أضاعت حلمها وأهدرت مشروعها، وعندما تصل أى سلطة إلى هذه الدرجة فإن الكابوس يجد طريقه سهلاً إلى طرد الحلم، كما أن المشروع - فى أحسن الظروف - يتحول إلى ذاتٍ متضخمة لحكام فقدوا الصلة بالحقيقة لأنهم تاهوا بعوالمهم التى صنعوها لأنفسهم عن الزمن الحقيقى لبقية الناس.

والحلم لم يسقط هذه اللحظة، والمشروع لم يضع هذا اليوم، إنما تلك عملية بدأت واستمرت وتزايدت معدلات تأثيرها بالهبوط على مدى يكاد يقارب نصف القرن.

فعلى هذه المساحة من الزمن نزلت وتراكمت وتكلست وتحجرت عوامل كثيرة أنتجت فى العالم العربى نظماً أظهرت من الجمود والبلادة والضرر قدر ما مارست من قهر وقمع وظلم، وذلك أنتج سلطة لا تصنع أخباراً، ولا تستدعى أفكاراً، إنما هى تأمر وتنهى، وتعد أو تتوعد!

ولكى لا أطيل فملخص الموضوع هنا أن هذه النظم كلها - أصلاً وإرثاً - لا تملك ما تطلبه الصحافة وهو الخبر: لا هى تصنعه، ولا هى تعرفه، ولا هى تتعامل به، وتلك مشكلة المشاكل!!

والمشكلة التالية أن الصحافة وبصرف النظر عن تحصيل خبر أو إنضاج رأى - أمامها مسؤولية أخرى أعرض وأوسع، وتلك هى أن تكون فى أقل القليل مرآة لأحوال مجتمعها كما هو، وأن تعرض أحواله كما تظهر لها.

لكن ما يظهر فى المرآة لا يعجب الناظرين إليها حين يقفون أمامها، ولا شىء يقنعهم أن الخطأ ليس فى المرآة، حتى وإن ظهرت بعض القشور المظلمة على أطرافها، وكذلك تتعمق المشكلة.

لا تصبح المشكلة مجرد أنه ليست لدى السلطة أخبار تُحجبها أو تُبيحها، كما أنه ليست هناك آراء توافقها أو تخالفها، إنما تطرأ على العلاقة بين السلطة والصحافة كتل من الشك وسوء القصد يتصور المرآة مقعرة وليست مستوية، ويصر على أن التشويه متعمد على أصل ليس به عيب.

لا يفكر الغاضبون من صورة الحقيقة أن الخطأ ليس فى المرايا وإنما فى الأصل، ولا يخطر على بال أحدهم أن يراجع حتى يتأكد من أن كل المرايا فى الإقليم، وكل المرايا فى العالم تعكس الصورة نفسها عندما تقترب من ذات الموقع، لا أعرف إذا كان البعض من أصحاب السلطة عندما قرأوا قصة «أوسكار وايلد» المشهورة «صورة دوريان جراى» صاحب الصفقة الشهيرة مع شيطان الشهوة.

عزيزى «ياسر»

إنك تستطيع أن تجعل القسم الأدبى فى «المصرى اليوم» يلخص لقارئك قصة صورة «دوريان جراى»، عندما أطل البطل على نفسه فى المرآة، ثم صرخ مذعوراً مجنوناً.

أصل معك الآن إلى المشكلة الثالثة، ومجملها أن الصحافة - على الصفحة أو على الشاشة - تريد أن تبحث عن الخبر فى مواقع صنعه، فهل بيننا - بينكم فى الحقيقة - من يعرف الآن بيقين أين تُصنع الأخبار؟ - ومن يشارك فى صنعها؟ - وكيف؟ - ولماذا؟ - ومتى؟! - دعنى أذكرك أن الخبر فكرة ومشروع - ثم سياسة وقرار - ثم خبر صالح للنشر قابل لإبداء رأى فيه.

قبل أن نبحث عن الأخبار، ألا تظننا فى حاجة إلى البحث عن الإطار العام الذى نبحث فيه عن الخبر؟! - بمعنى محدد التساؤل عن: أين الثابت، وأين المتغير فى حقائق حياتنا الراهنة؟!!

- من نحن، وماذا نريد، وكيف السبيل إلى هذا الذى نريد سواء فى مصر أو فى العالم العربى - أو فى العالم كله؟!!
- ما هو المرغوب فيه، والمطلوب تحقيقه، وما هو غير المرغوب فيه وبأى الوسائل؟!!
- ما هو مجال التهديد، وما هو مجال الأمن؟!!
- من هو العدو، ومن هو الصديق؟!!

أعرف أن تلك كلها قضايا معقدة، لكنى لا أستطيع أن أتصور، ولا أرى على اتساع العالم كله تغطية إخبارية دون إطار مرجعى.

لقد أضعنا فكرة الوطن أو هجرناها، ولم نتفق على بديل، وقُصارى ما رحنا نتحدث عنه هو استدعاء الدين بديلاً للوطنية وللقومية، والمشكلة أن الدين ملكوت إلهى واسع ليست له حدود وطن أو تخوم أمة.

ولأن المكان لم يعد محدداً، فإن الزمان تاه فى الفوضى!!

وإذا كانت الفوضى هى واقع الحال، فكيف السبيل إلى تقصى أزمة أو داء؟!. تتذكر أنه فى الطب العضوى مثل ما هو فى الطب السياسى، فإن الأطباء يطالبون بإخلاء باطن الجسد من كل العوالق والغازات قبل أى كشف دقيق، فكيف إذا كان باطن الجسد السياسى - أو على الأقل منذ بدايات هذا القرن الحادى والعشرين على اتساع العالم العربى - متضخماً بالرواسب والبقايا، وبأنواع كثيرة من الغازات المعبأة بالسموم، وفيها ما هو مؤثر على الأعصاب وعلى النظر وعلى الخلايا وعلى العقل أيضاً؟!!

أعرف أن التشبيه قبيح، لكنك تستطيع أن ترى معى أن المجال ليس صناعة تزويق، فإذا لم يكن فى الطبيعة جمال، فإن المرايا لا تقدر على اختراعه، لأن ذلك ليس دورها مهما استعمل الناظرون إليها من الأصباغ والمساحيق، أو لجأوا إلى مشارط الجراحة أو حقن السليكون!!

مشكلة رابعة، وليست أقل أهمية فى مناقشة ما هو أمامنا - أمامكم - من تحديات، هو أن فى هذه الأحوال من الفوضى فإن «الجريمة» أصبحت هى الخبر الرئيسى الذى يصطدم به الباحث حيث يدير بصره، وتلك طبيعة الحال فى أجواء الفوضى والتيه فى المجهول.

الجريمة ليست مجرد سكين أو بندقية، وإنما الجريمة فى الأصل أزمة تواجه بشراً لا يجدون لمشاكلهم أو لمطالبهم مخرجاً شرعياً، وكذلك يمدون أيديهم دون موانع أو روادع للإمساك به.

بالنية أولاً، وبالتدبير فى السر بعد النية، وبالاندفاع سواء بالانفعال أو بالقصد، وذلك يصدق فى عوالم السياسة، كما يصدق فى عالم الجريمة.

فى عالم الجريمة يحقق أصحاب الطلب لأنفسهم وبالعنف ما يريدون متجاوزين عن مواد القانون، وفى السياسة تحقق السلطة ما تريد بالعنف بالتجاوز عن روح القانون، حتى إن تملكت السلطة فرصة تفنين الهوى بفنون الصياغة أو الصباغة أو بالاثنين معاً!!

وإذن ماذا نفعل؟ - أو ماذا تفعلون وجيلكم يتحمل المسؤولية الآن - وهل تتحول الصحافة من ورقية أو غير ورقية إلى سجلات جرائم وحوادث؟!!

أخيراً تبقى مشكلة تخص الصحافة نفسها، وليس هناك مفر أمامنا جميعاً - بصرف النظر عن اختلاف أجيالنا - من الوقوف أمام سؤالها.

فإذا كانت الصحافة كما نتفق جميعاً جزءاً من منظومة العمل العام فى أى مجتمع، خصوصاً مجتمع السياسة، وإذا كانت أحوال التجريف قد نالت من هذا المجتمع السياسى وغيره «مجتمع الاقتصاد ومجتمع العلم ومجتمع الثقافة مثلاً»، على النحو الذى نراه أمامنا خلاءً وقحطاً - فكيف نستطيع أن نتصور أن نفس ظاهرة التجريف لم تصل إلى مجتمع الصحافة؟! ذلك ضرب من شبه المستحيلات، فما أصاب مجتمعات العمل العام كلها طال مجتمع الصحافة بالطبع ضمن ما طال!!

وهذه قضية تفرض نفسها عليكم، ولا تستطيعون إلا أن تجيبوا بأنفسكم على سؤالها، وفى كل الأحوال فإن إجابة السؤال ليست لصالحكم فقط، لكنها حقكم الحصرى لا يتدخل فيه غيركم لأنه لا يعرف، ولأنه لا يستطيع.

أعانكم الله على حقوق وواجبات مهنة تستحق كل إخلاص وتجرد.
بقى دعاء من القلب ومن عند حافة الغروب إلى رجال ونساء ينتظرهم طول النهار!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى