رسالة من خالد المعالي الى سركون بولص

أخي العزيز سركون بولص

أكتب إليك بعد فترة صمت وهمود تامّين، فقد كنت عاجزاً عن كتابة اي شيء! صدّقني! كنت عاجزاً حتى عن قراءة الكتب، وصرت متبطحاً كقط، أكتفي بقراءة الجرائد والمجلات! إذ بعد عودتي من الإمارات العربية في شهر تشرين الثاني نوفمبر كنت أشعر بحالة من التشمّع الخارجي، لا أدري ان كان هذا الشعور سببه البرد؟ لهذا كنت احاول دائماً غسل وجهي بالماء البارد طيلة النهار، او ان اشعل المصابيح في الشقة لكي ازيح الظلمة الشتائية ولكي ارى فسحة الأمل، في ان امسك بهذا الخيط الملعون، من دون ان افلح، إذ أضحيت عاجزاً حتى عن تحريك نفسي قليلاً، مثلما كنت افعل سابقاً، وذلك في ان اتمشى قليلاً على شاطئ نهر الراين، والذي يذكّرني بألم، بتلك الأيام، ايام المراهقة عند نهر الفرات، فهذا النهر لم يعد طافحاً كما كان، بل مجرد مسرى ضيق لماء مرّ، يمكن عبوره كما تعبر الساقية! لقد عجزت حتى عن عبور جسر من جسور الراين الكثيرة، فأنا مكبّل باليأس، لا حول لي ولا قوة إلا إلقاء نظرة عاجز على العالم! فقد ضاقت الحياة بنا هناك، في العراق، وهي ضاقت وضاقت بعد خروجنا حتى لا يمكن للحامل اليوم والتي توشك على الولادة، أن تدخل المستشفى إذا لم تدفع مبلغاً طائلاً لا يوازيه راتبها وراتب زوجها السنوي، هكذا تحوّلت عملية ابصار النور الى عملية ابصار للظلام، وتحوّل رحم الأم والأمومة الى قبر افتراضي مبكّر لكل جنين ولكأن ماء الفرات الذي اتخذ المرارة طعماً لا يرتاح إلا ويذيقها لكل جنين تسوّل له نفسه اللاواعية الحلم بالولادة في عراق اليوم. ولا يختلف عن هذا، مصير ذاك الذي يحالفه الحظ ويعبر الحياة حقاً يحالفه الحظ! ويموت، فلا تحصل جنازته على الموافقة بالدفن إلا بعد دفع مبالغ طائلة مماثلة لتلك التي تُطلب عند الولادة!
هكذا ترى يا صديقي وكأن حياتنا قد ارتبطت بهذين النهرين، ومجرد تفكيري بهذه المدن التي جئنا منها وقد صارت نفقاً مظلماً لكل حيّ، يحيل قوتي ضعفاً ويشلّ حركتي... أي قصيدة بإمكانها ان تصف هذ الكابوس الذي صار جزءاً من حياتنا الواقعية؟
بل هناك أشياء مأسوية اخرى تضاهي الضحك حقاً، إذ طالما تعرّض كتابك "إذا كنت نائماً في مركب نوح" الى تعليقات قاسية وإلى منع بسبب القصيدة التي اسمها "أودية الرسالة" والتي كُتبتْ كما اعتقد قبل اكثر من عشرين عاماً، لكن ماذا في تلك القصيدة؟ غير هذا الواقع القاحل الذي أحدثك عنه الآن، هذه المدن النفق والأنهار المرّة وكأن من يقرأ القصيدة غير موجود بيننا ولا يرى ما نحن فيه، وكأن الموجود بيننا لا يقرأ القصيدة:
"... في تلك الأيام
كان هناك طغاة في الأرض..."
هنا، وحتى لا نشكو هذا الشعر العربي المزعوم ولا شعراءه المزعومين، كان علينا أن نصمت كثيراً وأن نبتعد من هؤلاء المكشّرين عن انيابهم، فتجدهم في كل حدب وصوب، وكأن القصيدة قد أودعت نفسها هناك، وكأن المعاني كمأ منثور في الفراغ!
فالقصيدة، وأنت أعرف بهذا، لم تكن ولن تكون إلا في مناطق غير متوقعة لا يعرفها إلا من خبر تجربة الحياة حقاً وذاق مرارتها، أي ذلك الذي أكل من الحنظل، ولن يكون بإمكانه ان يقطف القصيدة إلا حينما يحين وقتها، لكن لِمَ أكتب هذا؟
في السابق كنت أعزي نفسي بأبيات للشاعر أبو الشمقمق:
برزتُ من المنازل والقباب = فلم يعسُر على أحد حجابي
فمنزلي الفضاء وسقفُ بيتي = سماءُ الله أو قطعُ السحاب
فأنتَ إذا أردتَ دخلت بيتي= عليّ مسلماً من غير باب
لأني لم أجد مصراع بابٍ = يكون من السحاب الى التراب
والآن، اهتزت حتى هذه الصورة وضاع وهم الإقامة في الفضاء، في الخلاء، فقد انهدمت حتى لا نهايات الطبيعة وبانت لنا الهوة الكبيرة التي ربما نستطيع ردمها حينما تلد القصيدة!
اني اكتـــب إليــــك شاكـــياً لك عجزي، واصــــفاً لــــك علامــــات الطريق التي لا يمكنــني إلا الـسير فيها!
تحياتي ومحبتي ...
أخوك خالد المعالي
كولونيا المانيا 16/12/2001

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى