أ. د. عادل الأسطة - محمد نفّاع: "التفّاحة النهرية" وبقايا أدب المقاومة

آخر إصدارات القاصّ محمد نفّاع مجموعته القصصيّة "التفّاحة النهرية" (2011). وإذا ما أمعن القارئ النظر في الصفحة 7 من المجموعة لاحظ أن آخر مجموعة قصصية أصدرها القاصّ قبل هذه المجموعة (2011) كانت مجموعة "أنفاس الجليل" (1980)، وأن آخر عهد نفّاع بالإصدارات كان العام 1998، حيث أصدر أعماله القصصيّة السّابقة المنشورة وغير المنشورة من قريته بيت جن. لمحمد نفّاع مجموعة قصصيّة عنوانها "الأصيلة" (1975)، وثانية عنوانها "ودية" (1976)، وثالثة عنوانها "ريح الشمال" (1978)، ورابعة عنوانها "كوشان" (1980). ويلاحظ أن هناك فجوة واسعة ما بين 1998 و2011، وهذا قد يُثير السؤال التالي: لماذا كان محمد نفّاع يصدر، في بداية عهده بالكتابة، مجموعات متقاربة زمنياً، فيمَ خفَتَ إصداره بعد العام 1980؟ لماذا انقطع عن النشر، لا عن الكتابة، ولماذا خفّ إنجازه وخفّت كتابته بعد أن كان غزيرهما؟
لا أعرف الكثير عن محمد نفّاع، وإن كنت أُتابع موقعه السياسي، ويُخيّل إليّ أنّه سار في اتجاه معاكس لإميل حبيبي. حقاً إن الأخير كان يحمل بطيختين في يد واحدة، بطيخة الأدب والسياسة، ثم انحاز للأدب، فقد أدرك متأخراً أنه لا يستطيع الجمع بينهما، وقد لا يختلف نفّاع عن حبيبي في أمر جمع البطّيختين في يد واحدة، وإن كان في 60 و70 ق20 يميل إلى كفّة الأدب، دون أن يغفل الأمر السياسي، ولكن، فيما يُخيّل إليّ، أنه في 90 ق20 وبداية ق21 أعطى للسياسة أكثر مما أعطى للأدب فخفت نتاجه وقلّ، وقد يكون لعامل السنّ دور، وإن كان هذا العامل، لمناضل شيوعي يحتلّ مركزاً / موقعاً مهماً في الحزب، ليس ذا تأثير يُذكر. هل رأى نفّاع أن نشاطه السياسي أكثر جدوى من كتابته القصص؟ علماً أن الماركسية ترى أن كلاً منهما يناضل بوسيلته: الحزب والمؤتمر والاجتماع للسياسي، والقلم للأديب. ربما وجب أن نسأل الكاتب عن رأيه في الأمر. ربما.
الدّارسون وقصص نفّاع الأولى:
التفت الدّارسون، وهم يدرسون القصة القصيرة في فلسطين، إلى محمد نفّاع ومجموعاته، وربما لم يشذّ عنهم إلاّ محمود عبّاسي في كتابه ـ رسالة دكتوراه ـ "تطور الرواية والقصة القصيرة في الأدب العربي في إسرائيل (1948 ـ 1976) (1998)، حيث لم يُدرج اسم نفّاع في قائمة مراجع عباسي ولم يراسله الكاتب كما راسل غيره، ربما كان الناقد نبيه القاسم أو من تناول قصص محمد نفّاع، تلاه في ذلك فخري صالح في كتابه "القصة الفلسطينية القصيرة في الأراضي المحتلة" (1982)، وقد عاد نبيه القاسم ليكتب، من جديد، عن نفّاع، وذلك في كتابه النقدي "مراودة النص: دراسات في الأدب الفلسطيني" (2001). ويشار هنا إلى كتاب د. محمود غنايم "المدار الصعب: رحلة القصة الفلسطينية في إسرائيل" (1995)، وللأسف لم أطّلع على كتابات حبيب بولص الذي أدرج في "موسوعة القصة العربية القصيرة في إسرائيل" قصصاً لمحمد نفّاع. وربما يكون هناك دارسون آخرون أتوا على نتاج الكاتب وخصّوه بدراسات نقدية في فهرس كتابه "القصة الفلسطينية المحلية: جيل الروّاد" (2009) لم يورد د. محمد خليل اسم محمد نفّاع ولم يضئ بعض قصصه، وإن ذكر في هوامش كتابه اسم الكاتب وذكر عنوان مجموعته الأولى "الأصيلة".
ما الذي لفت نظر الدّارسين في قصص نفّاع؟
كتب نبيه القاسم في "مراودة النص" عن لغة القصة لدى محمد نفّاع. ثمّن الناقد مكانة القاص والتزامه وتعبيره عن واقع الريف وإظهاره عادات أهل القرية وتقاليدهم وعلاقتهم بأرضهم.. إلخ.. إلخ، ثم أتى على علاقة نفّاع باللغة ورأى أنها علاقة تكاد تكون لافتة، بل تكاد تكون الميزة البارزة له، "فهو يبدو في إبداعه القصص ذا إحساس مرهف باللغة وبمكانتها الأساسية في المجتمع الإنساني كأداة اتصال أولي" (ص144)، وذهب غنايم في كتابه "المدار الصعب" " إلى أنه في بعض الأحيان يصعب فهم بعض الألفاظ التي تنحصر في قرية بيت جن وضواحيها"(ص192)، وذهب إلى أن نفّاع من الكُتّاب الذين تتكرّر لديهم المضامين، وأنه كاتب ينتمي إلى التيار الأيديولوجي" (ص192).
أما فخري صالح فقد كتب عن مراوحة القاص بين الواقعية والتسجيلية في مجموعة "ودية". وحين كتب عن مجموعة "ريح الشمال". فقد ذهب إلى أن نفّاع قاص له عالمه الخاص وبنيته القصصية المتميزة التي تتكئ إلى تاريخ شامل يسجل كافة المسائل الأساسية التي يدور حولها تاريخ الريف الفلسطيني (ص93).
هل انتهى أدب المقاومة في فلسطين 1948؟
غادر محمود درويش فلسطين في العام 1970، وهكذا لم يعد يدرس ضمن أدباء المقاومة في الداخل. أنا أخذت أُدرّسه على أنه غدا من أُدباء الثورة، وتعدّ قصيدته "أحمد الزعتر" ذروة قصائد الثورة. وترك سميح القاسم الحزب وأخذ يكتب قصائد تختلف عن قصائده التي كتبها يوم كان في الحزب. أخذ يكتب قصائد مديح في هذا الحاكم العربي أو ذاك "حافظ الأسد والملك عبد الله"، بل إنه ارتدّ إلى طفولته ومشاربه الثقافية الأولى: الدين. وأما سلمان ناطور فقد ساءل ماضيه الشيوعي في العديد من الكتب التي أصدرها بعد تركه الحزب الشيوعي، وساءل مفهوم أدب المقاومة ورؤية أبنائه هو لما كان يكتب. بدا ذلك في كتابه "هل قتلتم أحداً هناك؟" (2000)، وجاءت روايته الأخيرة "هي، أنا والخريف" (2011) لتقول لنا: إن ما غدا يأسره هو رواية الحكاية لا الحكاية نفسها، وهو بذلك يختلف عمّا كان عليه في أكثر كتبه الأولى. ووحده محمد نفّاع، فيما اطلعت عليه من كتابات أُدباء 1948، وحده هو الذي ما زال يكتب أدباً يأتي فيه على الحزب والحزبيين ونشاط هؤلاء ودورهم في الصمود والدفاع عن الأرض وفضح المتعاونين ـ أي أدب مقاومة بكل ما تعنيه المفردة من معنى: مقاومة ظلم الدولة واستبدادها ورفض روايتها ومحاولتها عبرنة الأرض واللغة وتغيير المعالم الطوبوغرافية لفلسطين. كم من قصة يبدو فيها دفاع نفّاع عن الحزب وعن الاشتراكية وعن حق الفلسطيني في أرضه؟! إنها كثيرة.
"التفّاحة النهرية": وحدة السارد ووحدة المجموعة
وأنا أقرأ قصص "التفّاحة النهرية" تذكرت سطراً للشاعر توفيق صايغ ورد في تقديمه لمجموعة جبرا إبراهيم جبرا "عرق وقصص من حرف الياء" (1956)، سطراً لافتاً يعلق بالذاكرة هو "كعودة المؤلف مرة تلو مرة إلى ذات العالم الذي استمد منه وراح يخلقه، وكشخص البطل الذي هو أبداً هو وإن سميّ أسماء مختلفة وتبدلت الأدوار التي أُعطيها (البطل) قيمة بين قصة وأخرى، وكالرمزية الواحدة وإن اختلفت فيها الظلال" (ص7/ط5 دار الآداب 1989). هل يمكن قول الشيء نفسه عن مجموعة محمد نفّاع؟ أعتقد ذلك، فلو تتبعنا السارد في غير قصة فلن نجده سوى محمد نفّاع نفسه. هل يمكن القول: إن القصص كلها متشابهة؟ أعتقد ذلك ـ أنا لا أرى عيباً في الأمر. أنا أفعل ذلك ـ إن سارد محمد نفّاع ـ وهو هو السارد / المؤلف ـ يسرد عن القرية وأجوائها وأهلها ونباتاتها وفصولها وله تقريباً الموقف نفسه من التراث، حيث يبدو مُلمّاً به بتفاصيله، ومن الحب، فثمة إشارة إلى علاقة السارد بالمرأة في غير قصة، ومن الماضي، وغالباً ما يحنّ إليه، ومن الغرب والحداثة ودولة أبناء العمومة، حيث يبدو ساخطاً ناقماً لا تروق إليه سلوكياتهم وتصرفاتهم، ومن الأرض، فالسارد يبدو خبيراً بنباتاتها وطيورها وحشراتها، أيضاً. والسارد يبدو مثقفاً في أكثر القصص وقارئاً للآداب العالمية وللأدب العربي القديم. وإذا كان بعض الدارسين قال: إن إميل حبيبي هو ملك التناص بلا منازع، فأرى أن محمد نفّاع هو من يستحق هذا النعت. هل ثمة أدلّة على ما أقول فيما يخصّ وحدة السارد؟
أحياناً كثيرة يرد المحفوظ الشعري والمقروء النثري على لسان السارد في غير قصة. خذ (ص42) و(ص236) ففي كلتيهما يرد بيت الشعر العربي القديم نفسه. وخذ إشارته إلى قصة "الفجر هادئ هنا" (ص51) في قصة "عمشق الوادي"، إن القصة نفسها ترد على لسان سارد قصة "كبوش البطم" في (ص84).
هل الأفكار التي وردت في القصص جديدة كل الجدّة؟
ذكرتني قصة "الجرمق" (ص18) بقصة محمد علي طه "وصار اسمه فارس أبو عرب"، فموضوعهما واحد: دفاع السارد عن الأرض واشتباكه مع من يريد مصادرتها / الاحتلال. وذكرتني قصة "المخبرون" بقصة أكرم هنية "كل شيء وهذه النظرة بالذات" (1986) بل وبقصة وليد أبو بكر الطويلة "الوجوه". محمد نفّاع يحتقر المخبرين الذين تعاونوا مع السلطات الإسرائيلية، فآذوا معارفهم وجيرانهم، وربما احتاجت هذه القصة إلى مقاربة خاصة. وتبقى مجموعة "التفاحّة النهرية" مجموعة قصصية يندر أن يكتبها إلاّ شخص عاشق للأرض حد التوحد و... و... .

د. عادل الأسطة





1626349141966.png






أعلى