رسالتان بين طه حسين و أندريه جيد

- رسالة من أندريه جيد إلى المترجم

باريس في 5 يوليو 1945

سيدي
طالما أبنت في كتاباتي السحر الذي شغفني به العالم العربي ونور الإسلام، ولقد أطلت عشرة كثير من المعنيين بالشئون العربية والإسلامية. وكنت بلاري خليقا أن أكون شخصا آخر لو لم أتلبث في ظلال النخيل بعد أن تذوقت حتى الهيام سعير الصحراء المحرق. فهنالك استطعت أن أجرد ثقافتنا الغربية من ثيابها وأن أهتدي إلى حقيقة إنسانية كانت مضاعة. ولكني وقد أفدت كثيرا وتعلمت كثيرا من العالم العربي، لم أكن حتى اليوم أقدر أن من الممكن أن أعطي كما أخذت. ومن أجل هذا يدهشني اقتراحك ترجمة كتبي إلى لغتكم!..إلى أي قارئ يمكن أن تساق؟ وأي الرغبات يمكن أن تلبي؟ ذلك أن واحدة من الخصائص الجوهرية في العالم المسلم، فيما بدا لي، أنه وهو الإنساني الروح يحمل من الأجوبة أكثر مما يثير من أسئلة. أمخطئ أنا؟ هذا ممكن.
ولكن لا أحس قط كبير قلق في نفوس هؤلاء الذين كونهم القرآن وأدبهم. إنه مدرسة للطمأنينة قلما تغري بالبحث، وهذا فيما أظن هو الذي يجعل تعليمه محدودا!
وأخيرا، فأحسب أن ليس بين كتبي كلها أبعد عما يشغل نفوسكم من كتابي “الباب الضيق” فبم يستطيع هذا الظمأ الصوفي الذي صورته هنا أن يمس نفوسا هي قعيدة اليقين؟ أي صدى يمكن أن تلقاه بينكم هذه الصلوات وهذه الابتهالات المسيحية؟ بل إن في هذه الصلوات والابتهالات من خصوصيات “الجانسينية” و”البروتستانتية” ما يجعل من الخطأ العظيم أن يتخذ هذا الكتاب مرآة للنفس المسيحية العادية. فهذا الشكل من التصوف استثنائي حتى بيننا نحن، أهل الغرب أو الشمال، بل بين النفوس التي كونها المذهب البروتستانتي. أتراني أودعت كتابي “الباب الضيق” حظا من الإنسانية الصادقة العامة، ومن الحب، كافيا ليهز أولئك الذين استطاع اختلاف ثقافتهم أن يؤمنهم من مثل هذا البلبال؟
إنني أنتظر نجاح ترجمتك لأعرف ذلك. ومهما تكن النتيجة فتفضل بقبول عواطفي الخالصة الود.

***

* رسالة طه حسين على أندريه جيد

القاهرة في 5 يناير 1946
سيدي
لم تخطئ أنت، وإنما دفعت إلى الخطأ. لقد خالطت كثيرا من المسلمين ولكنك لم تخالط الإسلام. فليس على الإسلام بأس مما ألقى في روعك خطاؤك المسلمون. ولقد عرفتهم في عصر مؤلم من تاريخهم، عصر انحطاط في العلم بالدين، وفي الشعور الديني جميعا.
ولم يكن من اليسير أن يظهرك الذين لقيتهم من المسلمين عن حقائق الإسلام. فلو قد تعمقوا الدين تعمقا دقيقا لأظهروك على ما يثير القرآن من مسائل وما يعرض لها من جواب. وإنما كل الذي يستطيعونه أن يعرضوا عليك ما شاع من أحاديث واساطير في بلادهم التي تتأثر بما يجاورها من الصحراء.
اما الذين أشرت إليهم من المثقفين في الإسلام فهم فيما يظهر يحسنون الثقافة الغربية أكثر مما يتقنون الثقافة الشرقية. فلم يتح لهم ولا للمستشرقين الذين تضطرهم صناعتهم إلى العناية بالنص أكثر من العناية بالروح – أن يستخلصوا جوهر الإسلام ويبينوا تأثيره في العقول والقلوب، فالإسلام لا يغري بالدعة ولا بالخمول، وإنما يحث على التروية والتفكير، ويدعو إلى التدر والاستبصار.
وأي شيء أدل على ذلك من القرون الخمسة الأولى في تاريخه؟ وما ينبغي أن تحمل على الإسلام بل على مؤثرات أجنبية تبعة ما رأيت من ميل إلى التسليم يدهشك، وحد في التفكير يسوءك واستسلام إلى الدعة يؤذيك.
وهناك حقيقة لم يظهرك عليها العرب ولا المستعربون، وهي هذا القلق الديني الذي أثاره الإسلام في النفوس أثناء القرن الأول والثاني للهجرة، وهذا القلق الديني الخصب الذي منح الآداب العالمية من شعر الحب العذري والطموح إلى المثل العليا ما ليس له في الآداب الأخرى نظير.
لقد أعطى الإسلام كثيرا لأنه تلقى كثيرا. تلقى اليهودية والمسيحية أول الأمر ثم وسع ثقافة اليونان والفرس والهند. تلقى هذا كله ثم أساغه، ثم صاغ منه ثقافة عربية، ثم استخرج منه خلاصته، ثم أهداه إلى الغرب قبل القرن الخامس عشر بوقت طويل. وإذا كان الإسلام قد استطاع أن ينهض بهذا العبء الخطير فهو قادر فيما أعتقد على أن يتقبل الثقافة الأوربية الحديثة وإنه ليتقبلها بقبول حسن.
أأدهشك يا سيدي إن قلت لك إن “الباب الضيق” ليس أول كتاب ترجم إلى العربية من كتبك؟ فقد ترجمت “السيمفونية الريفية” منذ أكثر من عشر سنين ، وطبعت ترجمتها غير مرة. وترجمت بعد “الباب الضيق” “مدرسة النساء” وفي النية أن يقدم “المزيفون” إلى قراء العربية. ومن يدري لعل “أقوات الأرض” أو “روميتيه” أو “بالود” أن تترجم في وقت قريب.
إن الشرق العربي جدير أن تثق به. إنه يذيع أدبك كما أذاع من قبل آداب قادة الرأي في العصر القديم.
وإنا لنبتهج إذ نراك بيننا في الوقت الذي يقدم فيه كتابان من كتبك إلى قرائنا ويسعدنا أن ينبئك نجاحهما بأن الإسلام يحسن اللقاء كما يحسن الإعطاء.

طه حسين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى