يوسف إدريس - مارش الغروب

كانت دقات "الصاجات" تخرج صاخبة زاعقة و على دفعات كهدير الديك الرومي، و كنت تستطيع أن تسمعها من بعيد حتى إذا ما وصلت إلى كوبري شبرا البلد عثرت على مصدرها.. على بائع "العرقسوس".
كان رجلا ً مسناً كمعظم بائعي "العرقسوس" و يرتدي زيهم التقليدي .. فوطة حمراء قديمة نظيفة لفها حول وسطه، و فانلة "بمبة" بأكمام، و لاشيء غير هذا يستر الجسد خلال السروال الطويل الذي يترك الساقين عاريتين.
و كان للبائع لحية طويلة و لكنه لم يكن سنياً، كان واضحاً انه يطلق لحيته كنوع من "عياقة" الكبار، أو ليحيط نفسه برهبة مصطنعة، أو على اقل تقدير ليوفر ثمن حلاقتها كل يوم.
كان واقفاً في وسط الكوبري تماماً و هو و إبريقه يكادان يسدان الطريق، فالإبريق كان ضخماً قديماً و كأنه هو الآخر عجوز مقعد ، كتب على البائع أن يحمله فوق صدره مدى الحياة ، و كانت له " بوز" رفيعة ممتدة و ملتوية عند أخرها و كأنها يد العجوز التي عوجها الشلل حين تمتد لتستجدي.
و كانت يدا الرجل مدلاتين خلفه و يده اليمني لا تكف عن دق" الصاجات " ، و يخرج صوتها له ضجة و صراخ. و كان يدق على دفعات كل دفعه دقتين متتاليتين ثم يصمت برهة، و يعود إلى الدق و يقول " يا منعنش " و كان ينطق " منعنش " بلهجة لا " نعنشة" فيها و لا حماس، فالدنيا كانت شتاء، و الشمس غابت من هنيهة، و الكون يعبق بذلك الجو المريض الذي يتبع مغرب الشمس و يسبق حلول الظلام. و كان الناس يمضون فوق الكوبري صامتين مسرعين.. في إسراعهم كآبة يوم يموت، و برودة شتاء.
كان الناس يمضون و لا أحد يلتفت إلى البائع أو تسترعيه دقاته، فالدنيا شتاء، و من يشرب "عرقسوس" في الشتاء ؟ من يفكر حتى في فتح فمه أو التلكؤ لأخذ شفطة ؟!
و رغم هذا استمرت الصاجات تعمل و تهدر "بزعيقها" المتوالي، و كلما حدق البائع في الكون و رأى الناس يختفون من حوله و يتسربون و كأنما تبتلعهم مخابئ سرية.. و كلما رأى الجرح المدمم الذي أحدثته الشمس الغائبة في السماء حين اخترقتها إلى عالم الظلام.. كلما رأي هذا، قصرت المسافة بين الدقات و أصبح صوتها أعلى و أكثر حدة، و انطلقت حنجرته تعضد الدقات و تقول يا "منعنش"، تقولها حنجرة متقلصة مثنية على نفسها و كأنما انحنت تستخلص" منعنش " وهي عاصية في قاع حنجرته لا تريد أن تخرج، فالإبريق كان لا يزال راقداً فوق صدره كالمصيبة الثقيلة، و لا يزال ممتلئاً و كل ما باعه منذ الصباح كان لم يتعد بضعة قراريط لا توقد مصباح و لا تغمس لقمة.
و الدقائق تمضي بسرعة، و الوقت يتسرب تسرب الناس كأنما أصابه البرد هو الآخر.
و تدق "الصاجات" عالية صاخبة هستيرية تريد أن تتحدى و تستوقف الأسماع، و الظلام يتكاثر و تصبح له دنيا كبيرة، و برد السماء يطبق على الأرض، و الناس يصغرون و يصغرون، و كل شيء تصبغه رمادية زرقاء و يبرد و يصبح لا حياة فيه. و تزأر الحنجرة يا"منعنش"، و تخرج "منعنش" حادة تكمل صخب الدقات، و بين كل آن و آن يقول : يا كريم سترك و يمد الكاف و كأنه يصنع منها حبلاً رفيعاً يمده حول الكوبري ليوقف الناس و يتبعها بسترك مقتضبة خارجه من الصدر و كأنما يسترضي الناس بعد هديرة و يصالحهم بها.
و الناس رائحة غادية "ميتانة"، "سقعانة"، ناشفة، وجوههم شاحبة فيها غضون، و عيونهم ذابلة فيها شتاء و لا يريد أحد – رغم وجوده في وسط الكوبري – أن يلقي عليه نظرة.
و أطلق الرجل يا "منعنش" و أتبعها بيا كريم سترك، و أطلقهما عاليتين صاخبتين مدويتين كاستغاثات أخيرة لسفينة تغرق.
و أيضاً لم يلتفت أحد.
و الوقت يمضي و المارة يقلون و السماء تزداد إطباقاً على الأرض و عالم الظلام يكبر و يكبر و الجرح الذي في السماء يلتئم و تذهب حمرته و شفقه و الناس يتحولون من كائنات إلى أشباح.و بدأت دقات "الصاجات" تنخفض و لم يعد الرجل يقول يا "منعنش" كان فقط يردد يا كريم سترك و كان يقول يا كريم متضرعاً يقولها لكل شيء حوله للأرض و السماء و عربات "الكارو" و حتى لصاحب "الغرزة" الجالس هو الآخر يرتعش و يستعد للرحيل.
و كان ما في صوته من ضراعة ينتقل إلى نحاس "الصاجات" فتخرج الدقات متتابعة في نغم و على دفعات و لكن فيها بحة و كأنه يرجو الناس فقط أن ينظروا إليه..فقط ينظرون إليه و لا يشترون ..لماذا يزورون عنه يشيحون بوجوههم يتهربون و كأنهم يفرون من واجب ثقيل ؟ ماذا عليهم لو فقط يلتفتون ؟
و لم تفلح الدقات و لا أفلح النداء في جلب نظرة.
و هنا كست وجه العجوز تكشيرة طيبة فيها يأس و تهدل حاجباه فوق عينيه في عتاب صامت و كانت يداه لا تزالان مدلاتين خلفه و لكن الدقات همدت حدتها و تباعدت و أصبحت كدقات قلب المشرف على الموت تسكت طويلاً ثم تبرق فجأة و كأنها تقاوم الفناء و بين الحين و الحين يلقي الرجل نظرة على القراريط التي باعها و آلاف القراريط التي لم يبعها ثم يتمتم من بين شفتين ترتجفان بالبرد : يا كريم سترك.
و ظل الرجل واقفاً هكذا و كأنما ينتظر شيئاً ما، معجزة تحدث و تفرغ الإبريق و تملأ جيبه. ثم خفت القدم و خطى الكوبري على يرزق و لم يرزق ووقف على جانب يحدق في الأرض و السماء و الأضواء البعيدة و القريبة و لاشيء يحدث و لا معجزة تهبط.
و هبط عليه يأس كامل فارتفع حاجباه المتهدلان و مضت التكشيرة إلى غير رجعة و انبسطت ملامحه و بدأت الدقات المتباعدة تتباعد و تتآلف و لكنها اتخذت طابعاً غريباً..
قلم يكن لها ضجة الهدير المتتالي الذي يشبه صراخ الإوزة المذعورة. تآلفت الدقات و صنعت نغمة أخرى .. نغمة خافتة راقصة حزينة .ظل الرجل يدق بيديه دون وعي، و تخرج النغمة دون وعي أيضاً، تخرج هامسة تتستر بالظلام و لا أحد يسمعها حتى فطن الرجل إلى ما تحدثه أصابعه فأنصت برهة و ابتسم و رفع حاجبيه و كأنما أعجبته النغمة و جاءته على الوجع فأوغل فيها و مضى يضبطها و يسنها و هو الخبير بدق "الصاجات" حتى استحالت إلى همسات فيها بحة تخلع القلب و ترهف الأنفاس و أطربته النغمة إلى الدرجة التي راح يهز رأسه هزات خفيفة وقورة على وقعها ثم ما لبث الاهتزاز أن وصل إلى شعيرات ذقنه فأخذت تتأود و تتراقص.
وقف طويلاً يرمق الناس و الدنيا بلا مبالاة تامة و يده اليمنى تهمس بالنحاس إلى النحاس، و الطرب قد وصل إلى الإبريق و "بوزه" فاخذ يرتعش هو الآخر و يتمايل و لا أحد يسمع سواه و هو منتش لأن أحدا لا يسمع سواه و لا أحد يلتفت إليه و النغم يخرج حنوناً دامعاً حلواً في سكون المساء.
ظل واقفاً إلى أن أحاله الظلام المتكاثر إلى شبح من الأشباح.
ثم بدأ الرجل يتحرك مروحاً في اتجاه شبرا البلد .
تحرك بطيئاً يائساً مثنياً إلى الوراء و يداه خلفه و "الصاجات" تدق و هو يتحرك على وقع نغمتها الهامسة كل خطوة بهمسه ..همسة موجوعة ثكلى.. وكل خطوة بدقة ..دقة ناعمة فيها شجن و يذوب شبحه في الليل حتى يختفي تماماً و لا تعود الأذن تسمع سوى همس النحاس إلى النحاس و هو ينخفض و يشف و ينخفض.
و الدنيا كبيرة كبيرة، و الظلام كثير كثير.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى