كمال خليل - الحلقة رقم (7) عن انتفاضة يناير 1977

مرت الأيام بسجن الاستئناف يومًا وراء يوم.. وذات يوم نزلنا جلسة سماع أقول بمحكمة الإستئناف... وفي داخل القفص بالقاعة (كنا حوالي 25 زميلاً من سجون مختلفة) كنا نتصافح جميعًا ونتبادل السلامات والأحضان... ووجدنا شخصًا معنا لا يعرفه أحد منا... فلما سألناه أجاب:
أنا أحمد مصطفى إسماعيل... فصرخنا في وجهه:
- وكيف تشهد علينا بكل هذه الشهادات الباطلة؟!!! لقد كان أحمد إسماعيل شاهدًا على الجميع... قال أحمد إسماعيل وهو في حالة من الارتباك الشديد... أعطوني الفرصة سأحكي للقاضي ما حدث... أنتم مظلومين وأنا مظلوم كمان... أنا وقعت تحت تهديد مباحث أمن الدولة وضعفت ففعلت لهم ما يريدون... أعطوني فرصة لأصحح أخطائي... وفعلاً في الجلسة حكي أحمد إسماعيل تفاصيل الضغوط التي وقعت عليه في قصة مفادها:
لقد أنفق جهاز مباحث أمن الدولة أكثر من (ستة أو سبعة ملايين جنيه) طوال العامين السابقين على انتفاضة يناير 1977، وكان الهدف هو تحديد أعضاء اللجنة المركزية لحزب العمال الشيوعي وضبط الجهاز الفني للتنظيم الذي يتم عليه طباعة كافة الأوراق التنظيمية..... ولما حدثت الإنتفاضة وكان قد تم إنفاق كل هذه الملايين على بغددة ضباط أمن الدولة في صورة بدلات وإمتيازات كان لابد من تقديم تحريات عن تنظيمات شيوعية كانت وراء الانتفاضة...... وبالفعل تم الضغط على أحمد إسماعيل وتهديده وإجباره على القيام بكتابة منشوربخط يده ضد النظام الحاكم وموقع باسم حزب العمال الشيوعي ليقوم بتوزيعه أمام مصنع المحلة الكبرى، وحينما يتم القبض عليه يعترف بعضويته لحزب العمال الشيوعي ويعترف أن أعضاء اللجنة المركزية هم فلان وفلان وفلان وبعد ذلك بشهر أو فترة ما يتم القبض على مجموعة ثانية بتهمة الجهاز الفني لحزب العمال الشيوعي.....
كان مخططًا ملفقًا من قبل حفنة من تيران أمن الدولة... ولم يكن أحمد إسماعيل عضوًا في حزب العمال... ولا كان من شهد عليهم جمعيًا أعضاء في اللجنة المركزية لحزب العمال الشيوعي.
جهاز عفن يستخدم كل سطوته وجبروته في تلفيق أي شيء... جهاز كلب حراسة للنظام الحاكم... البشر في ظله أدوات وماكينات... لا ضمير لجنرالاته... فهم خدم مطيعون... وهم أشخاص مختارون بعناية.... يعرفون ما المطلوب منهم..... دون أية أوامر علوية... وكل لبيب بالإشارة فيهم.
ذهب كل منا إلي سجنه... وجاء لنا بعد أسبوع أحمد إسماعيل في سجن الاستئناف وحكي ما حدث له في سجن القلعة عقب الجلسة التي أعترف فيها بالحقيقة أمام القاضي:
- لقد جلدوني بالكرابيج، وأجلسوني على خازوق من الخشب...... وكانت أثار الدم بملابسه وأثار الكرابيج على ظهره.
لقد أعتدى بعض الزملاء بالضرب على أحمد إسماعيل عقب دخوله سجن الاستئناف، وكان ذلك موقفًا خاطئا ( من وجهة نظرى )...
وللحق فإن أحمد إسماعيل أستمر على موقفه (في تصحيح خطأ أرتكبه تحت ضغوط شديدة من قبل هذه الأجهزة) طوال القضية ولم يتزحزح عن موقفه وهذا شيء يحسب له... فكم من الناس تموت ضمائرهم ولا يقدرون على تصحيح أخطائهم.. لقد دفع أحمد إسماعيل ثمنًا غاليًا منذ الجلسة التي روى فيها الحقيقة أمام القاضي... وفي نفس الوقت كانت شهادته فضحًا عمليًا لجهاز أمن الدولة، وكانت قصة أحمد إسماعيل وشهادات حاتم زهران (مخبر أمن الدولة) كافيتان لتعرية حجم التلفيات التي قام بها جهاز أمن الدولة في قضية 18، 19 يناير لدرجة أنها وصلت إلى السنيما في رائعة عاطف الطيب "زوجة رجل مهم"...
أصبت في سجن الاستئناف بمغص كلوي شديد واحتباس التبول، وتم نقلي إلى مستشفى سجن طرة، ووصلت إلى حافة الموت الذي أنقذني منه أحد المساجين الجنائيين يدعى (محمد سكلانة) بعمل خلطة خاصة من الأعشاب وغليها لعدة ساعات، وأعطاهاني على هيئة فنجان بطعم العلقم مما أدلى إلى فك حالة الاحتباس....
أين أنت يا سكلانة... أكيد دهستك الحياة كما دهست صديقك محمد فتحي السجين الجنائي الذي كان يتحدث بطلاقة عن جيفارا والثورة والمجتمع والذي تعلم كل ذلك من الأستاذ/ فريد عبد الكريم حينما ألتقى به في مستشفى سجن طره أعوام 73، 74، 75.
حصلت على إفراجين من القضاء، وفي أفراج المرة الأولى أعترضت مباحث أمن الدولة على قرار الإفراج، ونزلت خلال 15 يومًا لجلسة أمام قاضي يدعي الصدفي فأمر بإستمرار الحبس، وبعد شهر حصلت على إفراج ثاني... وأثناء وجودي بمستشفى سجن طره وكان موعد جلسة الصدفي التي سيتم الاعتراض فيها على الإفراج قد تحدد، أقترح على محمد فتحى "السجين الجنائي" بأن أتناول وجبة "حلاوة طحينة بالشطة"... قلت له: لماذا؟... فقال لي:-
- هذه الوجبة ستجعل حرارتك مرتفعة جدًا في الصباح... وسيشخصها أي طبيب بأنها حالة حمى.. والحقيقة أن الارتفاع في درجة الحرارة يكون ظاهريًا فقط ... فسيضطرون إلى عدم نزولك الجلسة... وتنزل بعدها بأسبوع يكون الصدفي أتغيرت دائرته.
تناولت الحلاوة الطحينية بالشطة في المساء (أعدها لي محمد فتحي) "رحمه الله"، وفعلاً في الصباح كانت درجة حرارتي 4o م، وجاءت عربة الترحيلات ولم أذهب للجلسة لسوء الحالة كما قال أطباء المستشفى.. لكن الخبر جاء في عصر اليوم..... لقد أعطاني الصدفي إستمرار حبس رغم عدم مثولي أمامه وسماع أقوالي وفشلت خطة محمد فتحي ضد الصدفي.
لقد توفي محمد فتحي بفعل هذه الوصفات الطبية... فقد أعد لنفسه خليطًا من مواد غريبة كان يتفنن في تصنيعها داخل السجن، ووضعها في حلقه ليلتهب البلعوم.. وفعلاً حينما ألتهب بلعومه نقل إلى مستشفى القصر العيني، والتي كان يعد منها خطة للهروب (فقد كان محكومًا عليه بالسجن لمدة 25 عامًا في تهمة قتل خطأ لم يرتكبها وإنما لفقت له) إلا أن جرعة المواد التي أعدها كانت زائدة.... فأدت إلى إنسداد البلعوم مما نتج عنه حالة الوفاة (رحمك الله يا محمد يا فتحى أنت وصديقك سكلانة)..... لقد أنقذتما حياتي وكنتما خير صديقين لي من المساجين الجنائيين.
ثم عدت إلى سجن الاستئناف مرة ثانية.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى