أدب السجون بلال فضل - سيرة فوزي وثريّا!

«لكن ما ذنب ثريا؟»، هكذا سأل المعتقل السياسي المهندس فوزي حبشي نفسه في أول حبسة له في عهد فاروق عام 1948، حيث لم يكن قد مضى عام على اقترانه بزوجته ثريا شاكر، وهو سؤال تكرر في الحبسات التي تعرض لها في عهود ناصر والسادات ومبارك، قبل أن يقود النضال. ثريا شريكته في الحياة إلى السجن لسنواتٍ، لعلها سألت نفسها فيها معه: «لكن ما ذنب الأولاد؟»، ليكبر الأولاد بدورهم، فيتعرض بعضهم لتجربة السجن والملاحقة، وتكتب هذه العائلة المصرية ملحمة نضال مشرفة، قدمت مثلها عائلات من تيارات سياسية مختلفة، لن تسمع للأسف عن تضحياتها المبهرة، في وطن تحكمه وتعكمه عائلات الضباط وقضاة الزور ولصوص الأعمال.
عرف فوزي حبيبته ثريا في بيت جدتها في شارع طوسون في شبرا، أحب عينيها اللامعتين منذ رآها خلال زيارة لجدتها التي كانت تحب الكلام في السياسة، فكان كلما هم أحد أفراد أسرته بإنهاء الزيارة، يؤجج النقاش بسؤال الجدة أو معارضتها، ليطيل النظر إلى عيني ثريا، فيبدأ بينهما حبٌ لم تهزمه تصاريف السنين ولا وحشة المعتقلات، كتب عنه في الثمانين من عمره قائلاً: «كثيرا ما أفكر أن تلك المحبة لم تخمد، لكنها صارت الآن كاللهب الذي يشيع الدفء ولا يحرق».
بعد أن تزوج فوزي ثريا اكتشف أن اهتمامها بالسياسة أخطر من اهتمام جدتها، فقد صارحته بعضويتها في تنظيم «حدتو» الشيوعي، وفي يوم الصباحية فوجئ العريس فوزي بباب الشقة يُطرق، ليدخل بعض رفاق عروسته لعقد اجتماع تنظيمي سري لن يثير بالتأكيد شكوك البوليس، وحين استفحلت الانشقاقات اليسارية في ما بعد، طلبت زعيمة تنظيم ثريا منها أن تهدد زوجها بقطع علاقتها به لو لم ينضم إلى تنظيمها، فرفضت وكتبت له في محبسه: «رغم اختلافنا في المواقع التنظيمية إلا أننا سنكافح قوات الظلم معاً».
كان ضباط المعتقل يوقعون على هوامش رسائل الحب المتبادلة بين فوزي وثريا بكلمة «نُظِر»، وحين جاءه منها خطاب غرامي مصحوب بتعليق من ضابط المراقبة «عقبالنا زيك»، اكتشف فوزي أنه محسود في محبسه على ما يصله من حب، ففكر في طريقة للإفلات من الرقابة، واستخدم طريقة الضغط المائي ليكتب رسالته خلف رسم لقطعة موبيليا، وبعد أن أرسلها تذكر أنه لم ينبه ثريا إلى غمر الرسم في الماء لتقرأ رسالته، وحين أدرك عدم تنبهها للأمر، أرسل إليها رسائل قصيرة متكررة تتحدث عن حلمه بأنه يمسك فرشاة مغمورة بالماء، كلما دهن بها الموبيليا ظهرت عليها نقوش جميلة، مختتماً كل رسالة بعبارة «يا للعجب يا للعجب»، ففطنت ثريا للعبة، وعادت إلى خطاباته لتقرأ ما بها من أسرار وأشواق بعيداً عن عين الرقيب.
في معتقل الطور أعجب فوزي بقصيدة لرفيقه في المعتقل أستاذنا وعمنا عبد العظيم أنيس، يقول مطلعها: «يا مهجتي هل تسمعين، صوتاً يروح مع السنين»، فقام بعملية سطو بالتراضي على قصيدة صديقه، مغيّراً مطلعها إلى «أثُريّتي»، وأرسلها إلى زوجته، فأثارت القصيدة خوف العائلة على قواه العقلية التي تأثرت لدرجة كتابة الشعر، وحين وصلت القصيدة إلى زوجة عبد العظيم أنيس، بحكم ما يربط زوجات المعتقلين من صداقات، استكبرت أن يقوم زوجها ببيع ما كان قد كتبه لها من قصائد، فكتبت إليه معاتبة وسألته عن ثمن بيع القصيدة، لتتحول الحكاية إلى مسخرة يطيب استدعاؤها في وحشة ليالي المعتقل.
حين اصطدم عبد الناصر بالشيوعيين، وبعد مطاردات أمنية مخزية في دناءة أساليبها، وصلت إلى حد قيام ناظرة مدرسة ابن فوزي باستدراجه لمعرفة مكان أبيه، ألقي القبض على فوزي وثريا، ليتركا خلفهما ثلاثة أطفال: ممدوح في الثامنة، وحسام في السادسة، ونجوى الرضيعة في عامها الأول، التي رفض الضباط طلب أمها باصطحابها إلى المعتقل، فتركتها عند الجيران، ليتنقل الأطفال بين زيارة الأب والأم كل في سجنه، وحين أذاع الراديو تصريحاً لعبد الناصر ينفي وجود أي معتقل سياسي، قامت ثريا مع معتقلات سجن القناطر بالاعتصام في غرفة رئيس الحرس للمطالبة بالإفراج الفوري عنهن، فاستدعى المأمور أضعاف عددهن من السجينات في قضايا المخدرات والدعارة لينهلن عليهن بالضرب، وبدوره تعرض فوزي للتعذيب الوحشي في سجنه، لكنه نجا بمعجزة من القتل كرفيقيه فريد حداد وشهدي عطية الشافعي.
تصادف أن يزور الأولاد فوزي في مستشفى سجن القناطر، في اليوم نفسه الذي كانت ثريا قادمة من سجن النساء القريب، لتعالج عينيها في غرفة لم يكن يفصلها عن غرفته سوى حوش صغير، فحاولت ثريا رؤية أولادها من ثقب باب الغرفة، لتفاجأ بالضابط سامي دويدار يقف أمامها بكل خسة، ليسد فتحة الباب بجسمه، ليمنعها من رؤية أبنائها، وبعد سنوات طويلة يتصادف أن يلتقي فوزي وثريا بذلك الضابط على كورنيش الإسكندرية، فيفاجآن به وقد أقبل على فوزي ليعانقه، وحين مد يده لثريا رفضت مصافحته، وذكّرته على مسمع من زوجته وأبنائه بدناءة موقفه، فلم يجد ما يرد به عليها، وإن كنت أظنه لن يعدم الرد المتبجح حين يسأله أبناؤه عن حقيقة ما حدث.
خرجت ثريا من المعتقل في عام 63، وخرج فوزي بعدها بسنة، ووجدها في استقباله مع أبنائه الذين كبروا واختلفت ملامحهم، وحين وقعت هزيمة 67، كان قد تجاوز الخمسين، لكنه قرر الذهاب مع ثريا إلى نادي بنك مصر في أمبابة للتدرب على السلاح والانضمام للمقاومة الشعبية، بعدها بأربع سنوات وجدا نفسيهما وقد تحولا من نزلاء للسجن، إلى زوار لابنهما ممدوح، الذي تم اعتقاله بعد اقتحام الأمن لكلية الهندسة، وقد وقف خلف القضبان يطمئنهما بثبات. بعدها بأعوام قال فوزي لثريا مداعباً: لقد زرت سجون مصر كلها ما عدا أبو زعبل، فردت غاضبة: فال الله ولا فالك بناقص أبو زعبل يا سيدي، لكن السلطة كعادتها حققت لفوزي ما تمناه، فوجد نفسه في عام 75 معتقلاً في سجن أبو زعبل، بتهمة إحياء الحزب الشيوعي المصري، وفي إحدى زيارات ثريا للسجن، طلب منها أن تحاول تهريب جبس وأسمنت وبلاط قيشاني له عن طريق أحد الضباط، ليستغل مواهبه الهندسية في عمل نافورة داخل السجن.
بعد هدنة قصيرة تكرر اعتقال فوزي في عام 79 بعد أن تم اعتبار مئتي مارك ألماني أرسلها ابنه ممدوح من ألمانيا الغربية كتبرع للشيخ إمام، بمثابة تمويل خارجي للحزب الشيوعي المصري، ليعتقل فوزي مجدداً في مارس/آذار 81، ثم يحكم عليه في مايو/أيار 86 بالسجن لعامين، وحين جلس في الثمانين من عمره، ليكتب وقائع رحلته المريرة مع الاعتقال السياسي، سأل نفسه عما كان يريده من هذه الحياة، فأجاب: «كن سعيدا لأنك ترى ثريا وترى أولادك وأحفادك، وتمنى لمصر الخير، كل الخير، لقد فعلت كل ما في وسعك من أجلها ، وما الذي يريده المرء أكثرمن ذلك».
قبل أيام مرت ذكرى الأربعين على رحيل ثريا، التي لم تهزم المعتقلات قصة حبها لفوزي ولوطنها ولمبادئها، فكم قصة حب تحيا الآن رغم المعتقلات؟ وكم قصة حب ستميتها المعتقلات؟
….
ـ «معتقل كل العصور: حياتي في الوطن» ـ فوزي حبشي ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ 2011


بلال فضل



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى