أدب السجون علي أحمد - مذكرات سجين مصري (١): حين تسللت الحياة لأروقة السجن

1- نافذة جديدة

ليس أثمن من انفتاح نافذة جديدة – خاصة هنا – على الدنيا.. على الحرية، ما الدنيا – أصلا – إلا قدر ما نملك من حرية: "ربما ننفق كل العمر، حتى نثقب ثغرة.." اشكالنا المعقد هنا، أصله، ثخانة الحيطان، ولا قابلتها للانخراق.

صحيح أن هذه النافذه، أحادية الوجه لم تزل، إلا أنها أول الخطى (أقول لروحي، وامنيها)، مربك أن ينُظر إليك، ولا تقدر على النظر. مربك جدا. لكن احتمال أن تُرى، يعني، أهم ما يعني، أنك حي وقادر رغم كل شيء، وهذا ينسف مراد السجن والسجان (ما أشبههما جمودا وقساوة، وعداءً للحياة).

اسمحو لي، إذاً، أن أتنفس، معكم، هذه المساحة، تنفسا مجردا، دون غرض أو غاية، كما أدخن سيجارة في شرفة بيتي (الذي هدمه الغياب) أو كما أقبل حبيبتي (أتلفت الآن فلا أجدها) أو – حتى – كما أصلي (نافلة اشتياق، لا فريضة انسياق)، فقط: اغمض عينيَ، افرد جناحيَ.. واستنشق هذا البراح. على مهل. وبعدها، ربما، أتعلم على يدكم النطق والكتابة من جديد، فمنعك عن كل شيء أنت مفطور على ممارسته، لسنين طوال، يحيلك لمبتدأ الأشياء، في بكارتها الأولى. لا عندك إلا ما ستتعلمه، أو سيعلمك الظرف إياه قسراً.

"تاته.. خطي العتبة. تاته واحدة واحدة." دعونا – سويا نتهجأ الحياة (تلك التي لا تشبه غيرها) حتى يحين موعد الحرية.

2-الأماني الصغيرة للفراش:

للهزيمة ملامحها. تنطبع على وجوه المتهمين فيتماثلون، كأنهم نبت رحم واحد، ولو فصلت بينهم أميال الجغرافيا، وفصول التاريخ.

كان الطابور للكشف الصوري للكورونا مهيناً، جارحاً. (في أهون الصياغات)، عراة (من كل حماية) منكسرين (كان الأمل يسندهم) شيبتهم الخسارة (عندما تخسر حلم العمر: تخسر العمر كله ولو كنت شاباً في العشرين). يساراً (كأن اليسار قدرنا حتى في المشفى)، أمام مكتب يجلس خلفه الطبيب/الضابط. طابور طويل كنت فيه ومن حولي الرفاق.

الكل من شباب الثورة. الكل أبناء الميدان.. والكل مرضى (مع سبق الإصرار)، لو رأيت النظرة الجماعية للأرض (أي قيد حقير يدفع للأرض تلك الأعين التي ما تطلعت الا للسماء؟)، هرباً من أعين الرفاق _ربما_ ومن الاعتراف للنفس بحقيقة الواقع الجديد، لو رأيت أثر الابتسامة القديمة، وقد حلت مكانها كآبة قاتمة غويطة، حفرت خطوطها على الوجوه، كأنها ما عرفت الا لحزن (لو رأيت ضحكات النصر الخادع/الفائت، لما صدقت انهم.. هم).

أهو أثر انسحاق الصبح تحت أقدام ظلمة الأمس الذي ظنناه غار واندحر؟ أم هي صور الصاعدين من الرفاق إلى السماء، وذكرياتنا معهم. نسوها لنكتوي بها من بعدهم، فلا نحن صاحبناهم وصعدنا بشرف ولا قدرنا على النسيان ولو بوقاحة؟ لعله اكتشاف أن: "الحلم خوان/وأن الله لا يعبأ بالأماني الصغيرة للفراش".

3- رمضان كريم

"*** هو انتو فاكرين نفسكو في النادي؟"

استنكار في محله تماما، المشهد مناقض لما وجد المكان والشخص لأجله، سجن، وسجان. وكآبة، لا ألوان. فقط كلاحة الاسمنت وصدأ الحديد (ناهيك عن بقع الوسخ المتراكم دهرا فدهر)

الجدران قابضة، تخنق من حشر بينها – قسرًا – بتوحش لا مفر منه. وهل خلقت الجدران الا لتخنق؟ وبياض (البدلة الميري)، لا يشبه بياض الصفو، أو الطمأنينة في شيء لن يذكرك بالسحاب، بالحليب، أو حتى بالأرانب أبيض اللا لون هو. ابيض اللا معنى، محايد.. مائع.. وباهت وهو لبياض الكفن أقرب، لولا أن الكفن انتقال ليقين، وذلك انتظار في شك لولا أن الكفن يوصلك لملائكة – أو زبانية، ينفذون أمر الحق عدلا أو رحمة أما ذلك فيسلمك لمن ينفذون أوامر طاغية، لا رحمة فيها، ولا – حتى – عدل.

مشهد كئيب، خانق، خاصة لو أضفت إليه وجوها أزاغ الظلم أبصارها وهدلت التجربة ملامحها؛ فشيبتها، في عز الشباب. (كانو حتى وقت قريب: الورد اللي فتح في جناين مصر) هذا ما اعتاده في كل مرور صباحي. إلا اليوم؛ صعق السجان لمشهد الزينة التي ملأت "الحوش" ألوانا وبهجة، صحيح أنه شهر رمضان. إلا أننا في سجن: كل شيء ممنوع. كل شيء مميت، فكيف عبرت الحياة غلظة الجدران، فغافلت الحراس وتفجرت هنا على هذا النحو؟ كيف صنعناها؟ ومتى؟ كان السؤال. كيف لم نزل قادرين على المقاومة ولو تحايلا؟ كانت الصدمة.



أما نحن: فمن حقنا أن نضحك الآن – من أعمق نقطة في القلب – على انتصارنا المتواضع هذا والذي لم يكلفنا سوى بضعة أمتار خيط، قطع قماش، أكياس بلاستيكية.. ورغبة صادقة في الفرح. و.. رمضان كريم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى