أمل الكردفاني - الجزء الأول من رواية الوسامة

الجزء الأول من رواية "الوسامة"..

رواية الوسامة
الوسامة (1)




(1) من القرية إلى المدينة


كثبان التراب ناعمة، وبثينة تقود حمارها عابرة القفر الذي يتوسط بين الحقل والقرية، حيث تتراص قطاطي القش، يسير الحمار الهوينى، وبثينة لا تفكر في شيء كعادتها، فبثينة ولدت بعقل رجل، لا بقلب أنثى، ولدت لتؤدي عملها في الرعي بالماشية، وطبخ الطعام، وتشييد القطاطي، وتشغيل معصرة الجمل، ثم تنظيف قطيتها والحوش وقطية الجيران، بصمت ووجه صارم، رغم جماله، مما أخاف منها الشباب، حيث لا يجوز الاقتراب منها إلا لمسألة تتعلق بالعمل أو لخبر جاد عن دخول النهَّابين لحدود قريتهم وسرقة بعض الماشية، إذ كانت في هذه الحالة تترك كل شيء من يدها، وتهرع لتعقب الآثار، ثم تحدد مكان اللصوص بدقة، بل والمكان المتوقع تخييمهم فيه، فيسارع الفرسان بحمل سيوفهم، وامتطاء أحصنتهم للحاق باللصوص، استرداداً للمسروقات وقطع عراقيب اللصوص جزاءً لهم، فيهلكون في الصحراء إما عطشاً وإما بافتراس الوحوش لهم. بثينة الشابة التي لم تبلغ العشرين، كانت كبيرة القرية، تقتفي أثر النَّهابة، ترسم الحلول للمشاكل في جملة أو جملتين. لذلك لم يتجرأ أحد على الإقتراب من قلبها. رغم أن الجنيد، يغني لها بعض أغنيات الغزل، لكنها تنظر له بلطف وتعبره.
تحلب الماعز، وتنشر بعض اللحم في الحبال لكي يجف، تقطع مسافة ليست بالقصيرة لتحتطب، وتوقد النار بيديها متجاهلة التقابة. ينزل العرق من فروة رأسها وتهبط القطرات من مفرقيها، لتنحني مع مساير شعرها الملتفة حول أذنها الصغيرة المزينة بقرط ذهبي قديم، ثم تسقط باردة على رقبتها الجميلة ومنها إلى أكتافها دون أن يطرف لبثينة جفن، أثناء عجنها للعصيدة، وطبخ ملاح الشرموط، ولا يهدأ لها بال حتى بعد إطعام شقيقها حِمِّيد وعثمان ووالديها، وأولاد شقيقيها، وزوجاتهم، ثم ترسل بعض الطعام لجارتها ووالدها الشيخ. لا أحد من أسرتها كان يرغب في زواج بثينة؛ لأن زواجها يعني وقوع عبء كل ما تقوم به على كواهلهم.
في الصباح تطعم الحمار، والدجاجات وتسرح بالماشية، وتعود لتملأ الجرار بالماء من الخور البعيد. وهكذا لا تهدأ أبداً.
أحياناً يهمس لها الجنيد أثناء عبورها متوسلاً:
بقول فيك كلام ريد آبثينة اسمعي عليك الله..
فتتوقف وتبتسم وهي تقول:
أها
فينشد شعره
‎ حينها تضحك وتقول:
- إلا دة قلتو إنت؟
فيقول بحسرة:
- وحاة اسم الله قلتو أنا
تعرف أنه كذاب لكنها لا تخبره بل تتركه باسمة..فيستمر هو في النظر إليها بحزن عميق حتى تختفي..
***
العطا يطلبها من والدها، فترفضه، فيخطبها شقيقه فترفضه فيتقدم والد العطا نفسه لكنها ترفضهم جميعاً وتقترب سنها من الثانية والعشرين وهي لم تتزوج بعد، فيتقدم من هم أقل شأنا من أولاد العطا، ومع ذلك ترفضهم، فأدرك جميع أهل القرية أن بثينة لا رغبة لها في الزواج، وتوقفت النسوة عن حسد جمال قوامها وشفتيها الرطبتين الصغيرتين ومسايرها الناعمة.
وفي محاولة يائسة يرسل الجنيد نفيسة الصغيرة لتجس نبضها، فتغتبط شقيقته لهذه المهمة، التي رأت فيها معركة حياة أو موت؛ حينها شدت ثوبها وسط خصرها، وغادرت نحو قطية بثينة بعد أن قالت له:
- أكان ما عرستها ليك آجنيد أبقى أنا ما نفوس..
فتمتلئ روح الجنيد بالأمل وينتظر فتمضي الدقائق وكأنها ساعات، ثم الساعات وكأنها أشهر.
...
أما نفيسة فوقفت على رأس بثينة وطلبت منها أن تترك كل شيء وترافقها لزيارة ضريح الشيخ عبد القادر كي تقدم نذراً خاصاً. فتركت بثينة عجينها وارتدت ثوبها لترافق الصبية. غير أن الصبية انحرفت عن طريق الضريح متجهة نحو الخور ، فقالت بثينة:
- وين بتدوري تمشي؟
وحين وصلتا إلى الخور وتحت شجرة كبيرة، أخبرتها نفيسة بطلب شقيقها، وعددت محاسنه.
نظرت بثينة إلى وجه نفيسة المستدير نظرة طويلة، ومسحت بكفيها على وجنتي الصبية الطريتين، ثم انحنت وطبعت على شفتيها قبلة طويلة، ثم تغلغلت كفاها في جسد نفيسة، وارتفعت أنفاس المرأتين.
***
لم يفهم الجنيد شيئاً حين عادت أخته بوجه شاحب وعينين زائغتين، وبجملة مرتبكة قصيرة أخبرته برفض بثينة الزواج به، ثم غابت عن نظره على عجل.
حاول ملاحقتها لكنها صرخت:
- قلت لك ما بتدورك آجنيد..
طلب منها أن تشرح له السبب..غير أنها رفضت رفضاً باتاً، فعاجلها بصفعات وركلات وهو يصيح:
- اتكلمي آبت.. اتكلمي..
وأخذت هي تصرخ دون أن تعطِه سبباً يريحه. فتركها وغادر القطية، ولم يرجع إليها قط بعد ذلك؛ فقد ترك القرية كلها إلى الأبد منتقلاً إلى المدينة حيث عمل مغنياً هناك يبث شجونه في حفلات الأعراس.
***
لم تفهم نفيسة ما انتابها بعد تلك الحادثة، لقد تلبسها خوف مُبهم، وأحياناً كان يغمرها شوق لمقابلة بثينة، وفي لحظة ما، فقدت سيطرتها على نفسها، وغادرت القطية.
- دة شنو آبثينة؟
ويغوص اللحم في اللحم..ويتعرق الجلد، وتهمس بثينة:
- بتعيشي معاي بعد هجَركم أخوك..
- وأبوي وأمي آبثينة؟
- بريدك آنفوس..
- وأنا كمان بريدك آبثينة..
ويحيط بهما لحن ما، صوت طنبور من طنابير الرعاة الرُّحل الذي ينوح في شفق الغروب.
***

أشارت بثينة لآثار لصوص الماشية، فهرع شباب القرية، وتعقبوا اللصين ثم قتلوهما بعد أن استردوا الماشية. وانتقل خبر مقتل اللصين إلى قبيلتهما التي أطلقت فزعتها، وضُربت صنوج الحرب.
كانت غزوة سريعة، سلبت فيها القبيلة المعتدية المزيد من المواشي وبقرت بطون الأطفال والنساء وقتلت بعض الشباب، فصاحت بثينة تهجو رأس القبيلة الباغية:
قالو البدرع الساقيي لي أمو بعِل ويعاتي
انشغل الرجال بالسيف حِماهم عاتي
وزولنا بصير قعاد في جمل الحريم الفاتي
دوباي الطيور أنا كان هجيت ماخاتيي..‏
فاستعر القتال بين الرجال، وحاول قائد قبيلة السُّراق الهجوم على بثينة فتصدى له شاب، وهي تصيح:
الدرار بساسك بي الكلام الني
وكان شاقوه فر من الدواس والكي
في ميط امو متوهط هجيعة الفي
وين مفازتك يا ود القليب الني
بنمرقك قشيرة من جوا اللحيم الحي
فضرب قائدهم عضد الشاب فقطعه، غير أن الشاب رماه بحجر بيده الأخرى شاجَّاً رأسه فتقهقر إلى الخلف لتواصل هي تحفيزها للشباب هاجية رأس القبيلة الباغية:
غتغات في الضهر وشمس النهار الحارة
الراجيك دواس وليلة فجيعتك صارة
وين تهرب تكوس تلحق رويحةً فارة
ما تنجيك مفازة على الضريسة الشارة
فحميت قلوب الشباب من الجانبين، واندفعوا في القتال، وقائد البُغاة يصيح:
- كان ما جَـبِــيتِــك آمنعولة أبقى ما راجل..
فترد عليه ، والوطيس يحمى:
قالوا الموت رحيم وقبر السمح والطالح
علا معاك محنضل... مراً كريهاً مالح
جاييك الغراب ما ضوا وجهو الكالح
غوغاي في السما...كان تبقى راجلاً فالح
لكن القبيلة الباغية، تقدمت وتقهقهر مقاتلو قبيلة بثينة، وبدا أن الهزيمة قد انفلجت فكان على بثينة أن تجد حلاً سريعاً لإنقاذ قريتها، فلما أسقط في يدها وباتت الهزيمة مؤكدة حملت نفيسة للهرب معها من القرية. وهكذا غادرت المرأتان القرية فوق جمل سريع والقرية وراءهما تحترق بأكواخها وجثثها.
***
- بنعمل شنو في البندر آبثينة..
كانت نفيسة تنظر لشوارع المدينة بخوف، تتلفت وهي تغطي نصف وجهها بطرف ثوبها. خلعت بثينة قرطها الذهبي القديم وقالت:
- بنبيع الجمل والدهباية..
ثم سألت بائع التمر عن محل بيع الذهب، وكان البائع أربعينياً بكرش مدور كبير، ومؤخرة مماثلة لكرشه، فمسح شاربه الكث وقال بنصف ابتسامة:
- بتدوري تشتري ولا تبيعي؟
فقالت بجفوة:
- الإتنين..
حينها انقطع أمله فأشار لها بسبابته المكتنزة قائلاً:
- اليهودي..الشارع الورانا..
ولما انعطفت المرأتان نحو زقاق مطل على باحة كبيرة، وجدا رجال الشرطة، ورجلاً أسمراً نحيلاً ينتحب..
- لهفوا دهبي كلو يا جنابو..شقا عمري..
كاد الشرطي أن يضحك لكنه تماسك وقال:
- برجع بإذن الله ما تخاف يا داوود..
قالت بثينة مخاطبة اليهودي:
- مقطوك دهبك؟
رفع اليهودي رأسه متسائلاً، فأضافت وهي تنظر للأرض:
- سرقوا دهبك؟
فهز داوود رأسه بأسى وعيناه مغمضتان، فقالت:
- الحرامي طلع فوق راس دكانك..
حينها انتبه الشرطي وقال:
- إنتِ شفتيه؟
فقالت:
- لا.. أنا وسامة من الفريق الجنوبي..
ثم أضافت:
- ونزل من جهة دكان التمر.. وما شايل معاهو الدهب..
اتسعت عينا اليهودي، فقالت:
- دهبك فوق راس دكان التمر..
ورغم أن داوود كان كهلاً ضعيف البنية غير أنه هرول لداخل محله بسرعة وعاد وهو يحمل سلماً خشبياً، صعده برشاقة ولهفة ومن خلفه رجال الشرطة. وبعد عشر دقائق عاد الجميع واليهودي يحمل كيسين من القماش منتفخين بالذهب. فقالت بثينة:
- الحرامي حفيان وأصابع رجله اليمين مقطوعة..
صاح الشرطي:
- عجبو..دة عجبو الحرامي..
ومن بين دموعه، دفع داوود بالمرأتين نحو منزله، فأعد لهما فيه مكاناً للمعيشة. أما الشرطة فقد منحت بثينة أجراً شهرياً مقابل تعاونها معهم في كشف أي جريمة أخرى، وقال الشرطي للضابط:
- دي أحسن من الكلب البوليسي وحاة الله يا سعادتو.

***
اشتهرت بثينة في وقت وجيز، إذ كشفت كل جرائم السرقة التي عانى منها تجار السوق الكبير.
***
عزيزي جان
تحية طيبة
أرجو أن تظل هذه الرسالة سرية للغاية.
لقد انتقلت إلى الشمال من أجل متابعة جمجمة اكتشفها السيد آدمز وأتمنى ألا تحمل الجديد، وإلا كان ذلك سبقاً علمياً يضاف إلى حصيلة الإنجليز. وهناك في الشمال التقيت بالتاجر اليهودي ديفيد. حيث تقطن معه فتاتان في مقتبل العمر، إحداهما تمتلك قدرات فائقة. سأحكي لك عن بعضها، لقد اشتهرت هذه الفتاة باكتشاف المجرمين، فهي تستطيع اقتفاء الأثر بشكل مذهل. قبل يومين حدث شيء غريب، لعلك تتذكر ذلك اليوناني الذي يعمل في القنصلية اليونانية. ذلك الذي التقينا به في حفل عشاء السفير الألماني. ربما لا تتذكر جيداً زوجته التي كانت ترافقه، تلك المرأى النحيلة الشاحبة. لقد قتلها وزعم أنها انتحرت. غير أن الفتاة العجيبة ما أن رأت الجثة في مسرح الجريمة حتى أشارت إليه وأخبرتهم بأنه هو الذي قتلها. قالت بكل بساطة أن الثقب برأس المغدورة يكشف عن إطلاق نار يبعد بوصتين وهذا لا يتفق وطبيعة الانتحار الذي يضع فيه المرء فوهة البندقية على صدغه قبل أن يطلق النار، كما أن الإمساك بها على بعد بوصتين يتطلب أن يتم الإمساك بالبندقية بكلتا اليدين وأن وزن البندقية الذي يبلغ كذا لا يمكن لعضلات يدي المغدورة النحيلتين أن تتحمله. ثم أضافت أن البندقية تسقط على الجهة اليمنى في حين أن الثقب من الجهة اليسرى وأن البندقية لا يمكن أن تسقط في ذلك الاتجاه على هذا النحو. وباختصار أخذت تحلل مسرح الجريمة وكأنها تلقت تدريباً عالياً رغم أنها فتاة قروية وانتهى كل شيء حين أشارت نحو اليوناني وطلبت الكشف عن صدره وساعديه حيث تبقت بعض علامات إطلاق النار على جسده، حينها انهار اليوناني واعترف بالجريمة. لكن؛ هذا ليس هدفي من هذه الرسالة، إنما ذلك مجرد مدخل لتسمع ما لم تسمعه من قبل. لقد قررت مقابلة هذه الفتاة على انفراد، وكنت متأكداً من أن اليهودي سيتاجر بها إذا عرف أهميتها لنا وللإنجليز. لقد رشوت شرطياً صغيراً ليستدعها قرب كنيسة المخدع المقدس، وهناك تحدثتُ إليها. وستندهش إذا سمعت ما دار بيننا من حوار.
....
- لماذا ترفضين الدخول يا سيدتي؟
- هذه كنيسة وأنا لست مسيحية يا سيدي.
دقق فرانسوا النظر في عيني بثينة، وسألها عن دينها لكنها قالت:
- لقد دعوتني إلى لقائك رغم أنني لا أعرفك جيداً.
أدخل كفيه داخل جيبي بدلته وسألها:
- متى تعلمتِ الفرنسية؟
لم تكن تنظر إليه وهي تتحدث، وبدا له أنها تفقد صبرها، مع ذلك فقد أجابته:
- تعلمتها قبل بضعة أيام مع زيارات أصدقاء لداود.
قال بجدية:
- هل تلقيت أي طلباً بالمقابلة من بريطانيين؟
- لا.
أدرك أنها أذكى من أن يحاول استدراجها فقرر أن يكون مباشراً في حديثه. أخرج غليوناً بمبسم ذهبي، وقال أثناء إشعاله له:
- ما رأيك لو سافرتِ معي إلى باريس؟ سنمنحك مبلغاً مالياً محترماً ومنزلاً حديثاً.
قالت:
- ما المقابل؟
أجاب بعينين حائرتين:
- لا أعرف حتى الآن.. ولكن لا شك بأنهم هناك سيعرفون كيفية الاستفادة من إمكانياتك.
ثم اقترب خطوة نحوها وقال:
- عليك ألا تتحدثي مع الإنجليز.. سأذهب إلى القنصل لأحذره من فعل ذلك.. لقد أصبحتِ حليفتنا الآن..
ندت منها ضحكة خاطفة مكتومة وقالت:
- ستعود إليه؟
أسدل يده التي يمسك بها الغليون وقال:
- كيف عرفتِ؟
أشارت إلى حذائه، فنظر إليه ولم يلحظ شيئاً. حنت رأسها وودعته بابتسامة صامتة، ثم مضت وتركته يتأملها حتى اختفت من ناظره.. همس لنفسه بحسرة:
"سيخطفها الإنجليز..لقد تحدثوا معها بالفعل".
ثم عاد ونظر إلى حذائه ولم يلحظ شيئاً. فرفع قدمه ليشاهد الحذاء عن قرب، وشعر بأنه يبدو أبلهاً.
...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى