رسائل من صدقي إسماعيل الى اهله

حلب 12/11/1952
العزيز أدهم
تحية حارة وبعد

تلقيت رسالتك أمس وقد أرسلت إلي من دمشق، لأنني كما ترى ولسوء أو حسن الحظ قد تعينت في حلب، لأنهم لم يعينوا أحداً في دمشق هذه السنة. إنني أدرّس علم النفس والمعلومات المدنية للبكالوريا والبروفيه في ثانويتي المعري ـ وسيف الدولة.. ومعلمو هذه المدرسة الأخيرة ما زالوا يذكرونك ويسألونني عن أخبارك أحياناً، ولا سيما فاتح المدرس وفريد عوض وهم جميعاً يسلمون عليك.. إنني مرتاح لوجودي في حلب، لأن حمّى الحياة العامة في دمشق قد أرهقتني طوال هذه السنوات. وهنا أستطيع أن أنصرف بعض الشيء إلى نفسي وإلى الكتابة. وقد بدا لي التدريس سهلاً جداً رغم أتعابه الفيزيولوجية، وأظن أنني سوف أتعود عليها.. أقضي الوقت هنا في التدريس حتى الظهر، وبعد ذلك انصرف إلى شؤوني الخاصة من كتابة وترجمة. أوشك أن أنتهي من الكتابة عن (فان غوخ) وسوف أستطيع الكتابة إليك طويلاً عن أشياء كثيرة لا علاقة لها بأمور الحياة الثقيلة.. ماذا تقرأ هذه الأيام؟ وماذا تفعل؟ قلت لك مراراً أن تكتب إلي بالتفصيل عن الشؤون الأدبية والفنية، لأنني في يقظة فنية حديثة أخشى أن تزول.. إذا استطعت أن ترسل لي بعض الصور عن فنانين معاصرين فلا تتأخر.. وخاصة للفنان الروسي (فاسيلي كاندنيسكي) الذي يعتبرونه مؤسس الفن التجريدي في الفن المعاصر، لقد أنتج أول أثر (غير مشخص) في لوحة مائية، ووضع مراحل الفن المجرد في كتابه (نظرات على الماضي) الذي يجسد فيه نظريته بأن الرغبة الداخلية للفنان هي التي تحدد الشكل. والانفصال بين مجال الفن ومجال الطبيعة يقوى يوماً بعد يوم. حتى أنه يرى، أن كلاً منهما منفصل تمام الانفصال عن الآخر... فألوانه صارخة حارة ورسومه على جانب من الروح السديمية، غير أن هذا السديم كان يخضع لحتمية باطنية وهي نزعة للتعبير عن القوى الكونية التي تتجاوز حدود الفرد... وبعد أن تعرف على فرانز مارك وأوغست ماك وبول كلي أصدر مجموعة (الفارس الأزرق) وأصبح هذا الاسم بعدها يرمز إلى اتجاه الفن الحديث في ألمانيا.
لا تنسى أن تكتب إلي دائماً يا أدهم.

ملاحظة: لقد افتتح في دمشق المعرض السنوي، وقد انتقد الكثيرون لوحاتك، وعلى كل حال لم يكن المعرض ناجحاً كما كان في السنة الماضية، هذا ما قاله لي فاتح المدرس.
صدقي


***

حلب 2/ 2/ 1953
العزيز أدهم
تحيات وأشواق وبعد

تلقيت رسالتك أمس، ولم أستطع فهم أي أمر يتعلق بك، لم لا تكتب عن أحوالك بوضوح؟ فمثلاً لم نفهم فيما إذا كان تسجيلك في الأكاديمية الفنية يعني تمديد السنة الواحدة التي منحتكم إياها الحكومة الإيطالية، إلى أربع سنوات، وما هي برامج الدراسة خلال صفوف الأكاديمية، وما نوع الشهادة التي تحصلون عليها... كيف تقضي أوقاتك وأيامك، ماذا تقرأ؟ وماذا ترسم؟
في هذه الأيام أقضي الساعات الطوال في القراءة والكتابة. لأن حسنات الشتاء على ما يبدو، أنه يرغم الإنسان على النظر إلى نفسه، والانصراف عن عالم الأشياء بألوانه وأضوائه، إلى عالم داخلي مليء، لا يستطيع المرء أمامه إلا الصمت. لأنه نزعة غريبة إلى التعبير واختيار الأشكال والصور، التي نستطيع بها إغناء الطبيعة الشاحبة، وبعث الحرارة والدفء في صقيعها اللانهائي، بين يدي الآن كتاب ضخم عن (الفنان وعمله) قام بتأليفه مؤرخ الفن المعروف لويس هوتكور Hautecour L. الذي طالما تحدثت عنه الأوساط الثقافية المعنية بتاريخ الفن خلال الأعوام الأخيرة. غير أن المجلد الأول قد اقتصر على موضوع واحد ما يزال يتشعب في دراسات علم الجمال الأخيرة وهو الإبداع الفني وهو العنوان الذي وضع من أجل هذا الجزء. لقد تناول المؤلف في مجلده الجديد كل الدراسات السابقة الغزيرة عن تفسير الفن بصورة عامة ودراسة عناصره وعوامله المتعددة وقد سبق لهوتكور أن شارك في دراسة من هذا القبيل بكتاب نشره عام 1965 بعنوان (الأدب والتصوير في فرنسا من القرن السابع عشر إلى القرن العشرين) وقد حاول في هذه الدراسة أن يركز على شخصية الفنان باعتباره العنصر الأول في الإبداع الفني وأن يتناول على نحو خاص الفرق بين الشروط الشخصية للعمل الفني أي الشروط المتعلقة بمزاج الفنان وظروفه الاقتصادية والطبقية الخ.. وبين الشروط التي ينبغي أن تتوافر لعملية الإبداع أو الخلق الفني الذي أصبحنا نصف به كل نتاج يحمل شيئاً من طابع الجدة والجمال....
ويرى هوتكور أن ثمة التباساً كبيراً بين العمل الخلاّق للفن وبين الفنِ ذاتِه. لم يكن القدامى على خطأ حين اقتصروا في استخدام كلمة العبقرية على نماذج معينة من روائع الآثار وعلى أشخاصٍ معينين من أصحاب النبوغ، هناك فنان وهناك فنان عبقري، ولكننا لسوء الحظ أصبحنا نتحدث عن أي نتاج جيد في الفن على أنه ثمرة للعبقرية وهذا خطأ. وكثيراً ما نعمد إلى تحديد العبقرية من خلال الفنان ذاته، وكلنا نعرف بعض الحدود الفاصلة بين ميشيل آنج مثلاً وبين جميع الذين عاصروه، ولكنَّ هذا التمييز في الحقيقة ليس إلا تبايناً في رد الفعل على شروط واحدة. إن العبقرية تتحدد بمقدار ما يواجه به الفنان شروطاً معينة في البيئة على نحو عالمي، أي يحاول أن يتمثل في رده هذا كل ما هو عالمي يتخطى حدود شخصيته ومزاجه لكي يعبر عن حقيقة مجتمعٍ أكثر شمولاً.
لقد أردت يا أدهم أن تشاركني في قراءة آراء المؤلفين الكبار في الفن والأدب والفنانين. لتطلع على وجهات نظر مختلفة. اكتب لي عن رأيك.. وإلى اللقاء.
بانتظار رسائلك...
صدقي


***

دمشق 18/ 7/ 1953

العزيز أدهم
تحية حارة وبعد

تلقيت رسالتك أمس، وكنت على أهبة الكتابة إليك، بعد هذا الانقطاع الطويل فالجميع بخير.. لم يستطع نعيم المجيء في هذا الصيف لأن خدمته العسكرية قد آن أوانها، وقد نراه في أنطاكية وأظن أنه كتب إليك عن نجاحه وقصة النزاع بين الأساتذة من أجله. أما عزيز فلا نعرف عنه شيئاً، وكان قد كتب بأنه سوف يأتي إلى سوريا، ولم يصل. سررت كثيراً لنجاحك باللغة الإيطالية! وليتك تستطيع إرسال صور لرسومك الجديدة، لأن الجميع هنا ـ وقد تحسنت شهرتك في غيابك ـ يطلبون مني معلومات عنك وعن تطورات رسومك. أقيمت هنا عدة معارض تافهة، كان أحسنها معرض ثانوية الميدان لتلاميذك القدامى. وقد أقام ميشيل المر وشورى واثنان آخران معرضاً لا قيمة له، وأقيم معرض لبعض الآثار المكتشفة حديثاً، وفيه تماثيل قديمة جيدة ولكنها غير كاملة... قرأت عدة مقالات في الصحف الفرنسية عن زيارة بيكاسو لإيطاليا، ولكن ذلك كله لا يجدي شيئاً عن الرؤية. أكتب لي فور وصول هذه الرسالة إلى أنطاكية أيضاً لأن نعيم ورفيقة وأمك سيكونون هناك.. إن مشروع سفري إلى روما مغرٍ جداً، ولابد أن نحققه في يوم من الأيام فإلى الصيف القادم. لقد مرت موجة من الحر على سوريا منذ أسبوع ولا تزال، ومرض الكثيرون، وأنا، منهم، ولذلك اضطررت إلى عدم التعرض للشؤون الفنية الأخرى. تحياتي الحارة إليك وإلى اللقاء.
الجميع هنا بخير يسلمون عليك.
صدقي


***

دمشق 19/9/1954

أخي الحبيب أدهم
أشواق وتحيات حارة

وصلتني رسالتك المطولة منذ عشرة أيام أو أكثر، ولم أستطع الكتابة إليك بسبب تنقلاتي الطارئة، لقد كانت تصلني بين حين وآخر الإعلانات المصورة عن أماكن رحلتك الرائعة، وكثيراً ما كنت أستغرق معك في مثل تلك الأجواء الفاتنة؛ وكم كنت أريد أن أنبهك إذ ذاك إلى ضرورة كتابة يوميات أو تصويرها عما تمر به من مدن وأمكنة؛ لأن انطباعات فنان غريب، مهما تكن عابرة، لتزيد الأجواء معنى. فهل فعلت شيئاً من هذا القبيل؟ أرسله إلي ـ يبدو أن كل ما في «طبيعة» أوروبا من جمال وروعة، إنما يعود إلى يد الإنسان لأن هذه اليد وحدها تملك المعنى الإنساني للجمال، هذا المعنى الذي نطلق عليه عادة اسم «الفن». يُقام في هذه الأيام في دمشق معرض دولي، لعلك قد سمعت به، وهو رائع جداً بالنسبة لهذه المدينة المحرومة من أي «صنع فني»، وقد أدهشني كثيراً أن تنقلب المدينة خلال عشرة أيام لا أكثر، إلى عاصمة فرحة جميلة، بسبب التبديلات البسيطة التي أشرف عليها بعض الخبراء الألمان، وأحدثت في نهر بردى والحدائق العامة والملعب البلدي، بمناسبة إقامة المعرض. الأمر كله يتعلق بإرادة الجمال. كيف صحتك في هذه الأيام، لم ترسل لنا صورتك الكريمة منذ أمد طويل، وأنت تعلم أنني أكون أحياناً بحاجة إلى وسائل إيضاح عندما أجيب الرفاق عن الأسئلة التي توجه إلي عنك وعن أحوالك. أعيش هنا في بيتنا العريق، حياة هادئة بسيطة صامتة إلى أبعد حد. البرنامج العام هو المطالعة والكتابة... والخاص سهرة لطيفة على السطح في الليالي المقمرة والأحلام الكثيرة. لكم بدأت أحب العزلة وأشعر بصفاء النفس في ظلالها... وصلتني رسالة مطولة من نعيم من معسكره، وأعجبتني هذه الروح الفنية في كتابته، وقد أجبته برسالة أطول، وروح فنية ـ أقوى بالطبع ـ وقد سألني عن أمر الذهاب إلى أستانبول. أما زلت أنت عازماً على الذهاب. انني لا أزال متردداً في هذا يا أدهم، لا أعرف لماذا، سوى أنني لا أميل إلى السفر إطلاقاً في هذه الأيام كما قلت لك، ألا يجب أن يراعي الإنسان شعوره الداخلي في أمور كهذه تعتبر بحد ذاتها من أجل الانطباعات التي تتعلق بغبطة الشعور نفسه؟ وقد كتبت إلى عزيز رسالة منذ أسبوعين فهل تتراسلان؟ ماذا تقرأ وماذا ترسم؟ أكتب إلي مطولاً.
وإلى اللقاء
صدقي


***

11/ 10/ 1954

أخي الحبيب أدهم
تحيات وأشواق وبعد

أكتب إليك وأنا جالس على طرف النهر في بندقية دمشق، أتأمل ظلال الجدران العتيقة في الجسر، وهي ترتعد في المياه الخضراء، والخريف الوليد يملأ كل مكان إيقاعاً ساحراً.. أن الخريف في دمشق هو أجمل أيام السنة في كل بلد، لأن فيه شيئاً من الصوفية العميقة التي يشعر بها الإنسان، عندما يحس تبدلاً في أعماق نفسه، تبدلاً في اتجاه الصفاء والهدوء، لا يقدر له مثله في مكان آخر...
لقد حدثتني في رسالة سابقة عن دراسة طرحت مشكلة الروح البدائية في الإبداع الفني... وقد وجدت صدفة وأنا أقرأ الكاتب الألماني (غوته) أنه يؤكد على صفة غريبة في بدائية الفن، تتمثل في أن ما هو بدائي في هذا المضمار هو ما يبدو لنا طبيعياً عفوياً وعادياً، لأنه ينبثق عن طبيعة الحياة. غير أنه في الوقت نفسه يشعرنا بأنه باقٍ.. وأنه يتجدد باستمرار. وقد يصبح في يوم من الأيام، من أروع ما تركته لنا التجربة الفنية، وهذا في الواقع ما يشير إليه تاريخ الروائع التي ما زالت تعيش بيننا، وسوف تعيش أبداً.. وليس لنا إلا أن نحرص على دراسة المصدر الأول لها، أي الفنان. وهو حصيلة ظروف وعوامل تكون دائماً مغمورة ومجهولة.
أكتب دوماً إلى عزيز ونعيم، ويكتبان إلي مطولاً، أكرم يسلم عليك كثيراً وقد كنا البارحة في سهرة تحدثنا فيها عنك أكثر من اللازم، ولعلك سمعت بظفره السياسي الرائع في حماة، ولا بأس أن ترسل له بطاقة تهنئة ودية لأن قائمته نجحت كلها في الانتخابات، وعنوانه المجلس النيابي، ولعلك سمعت أن (صلاح) نجح في دمشق أيضاً، ووهيب كذلك... اكتب إلي وإلى اللقاء.
صدقي

دمشق 11/2/1955

***

أخي الحبيب أدهم
قبلات وأشواق

لقد مضى وقت طويل دون أن تصلنا منك رسالة يا أدهم فما السبب في ذلك؟ أظن أنك قد نسيت أن أمك وأختك هما في دمشق منذ ثلاثة شهور، وأمك ـ كما تعلم ـ في قلق دائم عليك، فاكتب إلينا دائماً. حياتنا هادئة وجميلة إلى أبعد حد، لا سيما في هذا الشتاء الدافئ ولا يزال خالي معنا أيضاً، وهو يسلم عليك كثيراً، وصحة الجميع جيدة، والمنزل كما تعرفه نظافة وهدوءاً... ماذا تفعل في هذه الأيام وماذا ترسم؟ لقد أعدت النظر في كتابي عن فان غوخ وسوف أطبعه في هذا الشهر، ذلك أنني في هذه الأيام اشتغل بالكتابة في جهد متواصل، وكأنها مصيري الوحيد. وقد طبعت كتاباً جديداً عن «محمد علي القابسي» وهو مؤسس النقابات التونسية، وسوف أرسل لك نسخة منه. وعلى الرغم من ساعات التدريس الكثيرة، فلا أزال أجد في المطالعة والكتابة، كل شيء. وقد ألقيت منذ أسبوعين محاضرة في الجمعية السورية للفنون عن هنري ماتيس والأرابسك، إن تحول ماتيس إلى الخطوط على هذا الشكل مما يلفت النظر، أظن قد كتبت إليك عن اهتمامي الكبير منذ سنة، بجميع أنواع الفنون الشرقية ولا سيما اليابانية والصينية والعربية: ماذا تعني النقوش والخطوط بالنسبة للتجربة الفنية؟ لقد كان فان غوخ يصر عليها في جميع رسومه؛ بالنسبة للفلسفة ذلك يعني حذف الزمان والمكان، ومحاولة تصوير الحركة بشكلها الحسي في النقوش، وبمظهرها الروحي البحت في الخطوط. ألديك ملاحظات في هذا الموضوع، وبالمناسبة، أنني أدرس الآن الآداب والفنون في الصين والهند وأترجم كتاباً عن الأدب الصيني، فإذا عثرت بكتب فيها شيء من أشعار الشرق الأقصى، لا تبخل بها علينا. لقد وصلت المجلة الأنيقة التي أرسلتها، وقرأت «فرانسواز ساغان»، إنها قصة رائعة بأسلوبها ورشاقتها، ولكن هذا النوع من الأدب المنحل لم يعد يعجبني، ليس لضعفه فإن الكاتبة موهوبة بشكل يلفت النظر، ولكن لضعف المواضيع التي تبحث فيها، فمعظم الكتب التي تتناول هذه المواضيع تحوم حول تجارب شخصية فيها الكثير من الصغار الأناني. الأحوال العامة عندنا كما تعرفها، دخان، ضباب في كل ناحية، وبالمناسبة صلاح وأكرم وميشيل يسلمون عليك دائماً ويسألون عن أخبارك... لا تنسى يا أدهم أن تكتب رسالة مطولة عن أحوالك من أجل أمك.
والجميع يسلمون عليك، وإلى اللقاء.
بانتظار رسالتك!..
صدقي

دمشق 14/2/1955

***

أخي الحبيب أدهم
قبلات وأشواق

تلقيت اليوم رسالتك وكنت قد أرسلت إليك البارحة رسالة مع الشك. وقد عمدت إلى الكتابة إليك من جديد فوراً لأنني لمست أنك في أزمة لا بأس بها، تجلت من رسالتك الأخيرة الشبيهة بالمرثية الحزينة، وقد تألمت كثيراً، لأنني لم أكن أعرف شيئاً عما أنت فيه... فكيف هي أحوالك من هذه الناحية يا أدهم؟ أكتب إلي بالتفاصيل والوضوح عن كل شيء، فأنا في الواقع لم أكن اهتم كثيراً بالزمن في إرسال الرسائل وغيرها إليك لأنني كنت أظن أن الزمن لا يؤثر كثيراً، وأنك من الناحية المادية في حال جيدة لا تقتضي العجلة الملحة؛ وعلى هذا الأساس تصرفت هنا بشيء من «اللامبالاة» لاعتقادي بأن أمورك تسير على ما يرام... إنني أستطيع أن أرسل إليك يا أدهم ما تريد، فاكتب إلي فور وصول هذه الرسالة، عن كل ما تحتاج إليه، لأن أموري المالية هنا قد انتظمت إلى حد ما.
إنني بانتظار رسالة سريعة جداً منك، ولتكن أكثر سخرية بالصعوبات يا أدهم فالمعكرونة رخيصة في إيطاليا على ما أعرف.. وإلى اللقاء.
صدقي

دمشق17/4/1955

***

أخي الحبيب أدهم
قبلات وأشواق

أكتب إليك من غمرة ضوضاء، وأضواء فرحة تملأ دمشق بمناسبة عيد الجلاء، فقد احتفل الشعب بهذا العيد في هذه السنة، وكأن الجلاء لم يتم إلا من عهد قريب، ولم يكن ذلك إلا رداً على التهديدات السياسية المختلفة التي توجه إلى سوريا بين حين وآخر. (انتهى الحديث السياسي) الجميع هنا في صحة جيدة، وحياتنا لا تزال كما هي هادئة وجميلة إلى أبعد حد. ونحن ننتظر قدوم نعيم الذي سوف يأتي بعد أسابيع ـ على ما زعم ـ
اكتب إليك من مقهى الجسر، وما زالت هناك مشكلة تشغلني سواء في الأدب أو في الفن، ألا وهي مشكلة الالتزام، والالتزام حقيقة، وما من رسام يستطيع أن يفلت من قبضة المأساة التي يحياها عصره، أعني العصر الذي نعيش فيه بصورة خاصة. إن أكثر الرسامين إيغالاً في العزلة الفنية والانصراف إلى الصنعة، هم أكثر الأشخاص التزاماً، ولا يعني هذا أنهم يرسمون الحوادث والمناسبات، بل يعبرون عن انطباعاتهم أمامها، بلغتهم الخاصة، هذه اللغة هي اللون. فمثلاً ألوان (روو) Rouaut)).. إن ملامح العصر كله ترتسم في كل لوحة من لوحاته، وكذلك بيكاسو الذي يمثل الفنان المتجدد في مثل هذا التعبير.
إن الفنان المعاصر يعبّر دائماً عن إيقاع العصر بصورة لم يعرفها أي فنان من أي عهد مضى...
لقد ترك الفنان الإنكليزي (هوغارت) مثلاً بعض الرسوم النقدية يتهكم بها على معايب السياسة والتقاليد في مجتمعه. منها لوحة الانتخابات، والتجار، والزواج.. وصوّر (غويا) مآسي الحرب في لوحته المعروفة (الإعدام) ورسم في مجموعته المسماة (نزوات) كثيراً من متناقضات المجتمع في الحوادث التاريخية. ولكن كل هؤلاء لم يكونوا من طبيعة ملتزمة ـ كما أخبرتني في رسالتك السابقة وتحدثت فيها عن لوحات (دافيد) والفنان (دومييه) الذي تعتبر لوحاته الشعبية ورسومه الساخرة ـ كما قلت ـ مرآة للمشاكل الاجتماعية في عصره ولكن هؤلاء جميعاً لم يكونوا من طبيعة ملتزمة. وكأن الأداء الفني وحده المحور الأساسي في إنتاجهم. فهل يعني ذلك أن الالتزام في فن التصوير هو عادة قديمة لم يعد لها مكان في العصر الحديث؟
بانتظار رسائلك الفنية لك قبلاتنا جميعاً وإلى اللقاء.
صدقي

دمشق 28/8/1955

***

الأخ الحبيب أدهم
أشواق كثيرة وبعد،

اكتب إليك من ضفاف النهر وقد أصبح مستنقعاً أخضر، صالحاً لدراسة فنية خصبة، بالنسبة للمبتدئين في مزج الألوان أمثالي، مع العلم أنني أصبحت أرسم ساعتين كل يوم، فقد يفتح الله على هذه الموهبة الوراثية فتتفتح حتى في أقل أفراد الأسرة نبوغاً (تواضع لابد منه). اليوم صباحاً سافر خليل بكري، وقد قمنا بما يجب تجاهه حسب نصائحكم، فدعوناه مرتين للغداء، وحملناه بدلتكم وعلبة الحلوى التي تبرع بها خالك العزيز الذي سافر اليوم إلى حلب لقضاء عطلة العيد، وبقينا في البيت ثلاثة فقط: أمك ونعيم وأخوك، (رفيقة سافرت مع فردوس وأمها (الأخيرة) لقضاء أيام في حلب... ودمشق في هذه الأيام جميلة جداً كعادتها على الرغم من الحر الشديد الذي اضطر لمكافحته إلى السهر حتى الفجر، الوقت الوحيد الذي يبرد فيه الطقس، ويستطيع الإنسان أن يخلو إلى نفسه مطمئناً... نعيم يرسم في النهار وينام في الليل. ألا تزال تحب النوم مثله؟. وقد بدأ بمعاملة الجنسية، وسوف ينتهي منها حتماً بعد العيد، بمساعدة أكرم الذي كان ينتظر تأدية خدمة كهذه، وقد تحمس لها كثيراً، وهو يسلم عليك أكثر... كما أن مجلة الجندي هنا قد كلفت نعيم برسم بعض الغلافات لها، وأتوقع أن يكلف بأشياء أخرى من هذا القبيل، ورأيي كرأيك أن مجال العمل الحر أوسع بكثير بالنسبة لنعيم من التدريس الذي يصبح سهلاً بعد الحصول على الجنسية.
كيف صحتك في هذه الأيام، يا أدهم، وماذا تعمل، وبماذا تشعر؟ إنك لا تكتب لنا إلا الشيء القليل عن هذه الأشياء التي تهمني أكثر من أي شيء آخر. الأحوال العامة كما تعرفها لا تزال قلقة كالحة، تشبه الصورة التي انتحر أمامها فان غوخ، فلا فائدة من أي شيء، ما دامت الغربان السود تملأ الجو. (تشبيه رمزي للوضع السياسي). لقد اشتريت أمس مجموعة من الفن الصيني، وأعتقد يا أدهم أن من المفيد أن تدرسه جيداً، لأنه مصدر إلهام جديد لكل فن معاصر، لقد كان فان غوخ على حق في إعجابه به وخاصة في مجال النحت..
فهناك ظاهرة غريبة ترجع إلى قرون بعيدة تم فيها اكتشاف آثار قديمة ترجع إلى العصر الحجري تشمل عدداً هائلاً من التماثيل وفق أسطورة تقول بأن الإنسان كان يدفن الأحياء مع الميت، ولا سيما الخدم والنساء، إلى أن كان القرن الثالث قبل الميلاد حين ماتت الإمبراطورة (سوهيم)، وكان يجب أن تدفن معها جواريها وخدمها. ولكن الإمبراطور (سوينين) أشفق عليهم وفكر بوسيلة يستبدل فيها هذا العرف القاسي، وبقي يفكر طويلاً دون فائدة إلى أن اهتدت إحدى جواريه إلى حل للمشكلة، فأشارت عليه أن يدفن مع الإمبراطورة تماثيل للجواري والخدم. ومن ثم أصبح صنع التماثيل جانباً من الأعراف التقليدية في حياة الناس، وهذا العرف الصيني القديم يرجع إلى تزويد الميت بنفس البيئة الاجتماعية التي كان فيها خلال حياته. ولهذا العرف أهمية كبرى من الوجهة الفنية، ذلك أن الصينيين القدامى، كانوا يحرصون على تجسيد الانفعالات المختلفة في وجوه التماثيل. فبعضها يحمل ملامح الحزن والغضب وبعضها يشير إلى الضحك والفرح، وكأنهم يحاولون بذلك عرض شتى المواقف التي كان يقفها الآخرون من الميت. كما يدل هذا على أن فن النحت كان في مرحلة متطورة ساهمت في بناء الحضارة.
قبلات من الجميع وإلى اللقاء.
صدقي

دمشق 12/9/1955

***

الأخ الحبيب أدهم
قبلات وأشواق

البارحة سافر عزيز إلى استانبول بعد أن قضى في دمشق عشرين يوماً أحببناه فيها كثيراً، وسررنا به، ولكنني لحظت يا أدهم أن في نفس هذا «الأخ» المعتزل كآبة داخلية غامضة تجعله بحاجة أكثر إلى اهتمامنا و.. فهل تتصل به أنت؟ وتراسله، لقد قررت أن أزوره في الشهر القادم فلا تنسى أن تكتب إليه دائماً، وتحاول إدخال السرور على نفسه بإرسال رسوم أو ما أشبه ذلك. لقد كان من حسن الحظ أنه جاء وقت المعرض الذي تعرض فيه آثار فنية لا بأس بها ولا سيما من إنتاج الصين الشعبية؛ لقد حدثني سليمان طويلاً عن الأيام الرائعة التي قضاها معك وهو في شبه جنة، وقال لي إنك عازم على السفر إلى أسبانيا، اكتب إلي فور وصول هذه الرسالة؟.. نعيم انتهى تقريباً من عملية التجنس وأظن أننا أخبرناك أنه يرسم لمجلة الجندي الغلاف، ويتقاضى بعض الأجور ولكنني ما زلت أفضل أن ينصرف للرسم دون الارتباط بأي عمل، ولكن أمك ما زالت تلح على ضرورة تأمين مكان رسمي له، وسيقدم في الغالب إلى فحص المدرسين. ما طلبته مني عن (كلي) لم أجده في المكتبة، وليس ذلك لأنني أضعته يا أدهم، فأنت تعلم أن (كلي) غير مرغوب فيه هنا، ولكن لأن عدد المجلة الذي نوهت به قد ضاع منذ زمن قديم. وعلى كل حال فإن لدي كتاباً عن التصوير الألماني الحديث، فيه أشياء عن (كلي) فهل أرسله لك؟ والحديث عن الرسام الألماني (بول كلي) (Paul Klee) يدفعنا إلى دراسة التمازج بين هذين الفنين: الفن العربي والفن الغربي، ويبدو لنا لأول وهلة أن الفن الغربي يتناقض في كل شيء والفن العربي.. لأن الأساس الذي بني عليه الفن الغربي أو الأوروبي على وجه التحديد هو العالم الخارجي بما ينطوي عليه من ظواهر الطبيعة، والوقائع التاريخية،
ومهما يكن للفن من صفة إنسانية شاملة فإن الطابع القومي يلقي ظله على كل أثر فني. إن لكل أمة طاقة فنية مبدعة، لها خصائصها ومميزاتها، وإن جميع البدايات في الإبداع الفني متفرقة متباعدة. ولكنها تلتقي أبداً في النهاية مثلما تلتقي الينابيع في نهر واحد... مثل تلك الطاقة قدمت لنا فناً مصرياً وفناً يونانياً وفناً صينياً وفناً غربياً وفناً عربياً...
الجميع يقبلونك... أكتب لي يا أدهم وإلى اللقاء.
صدقي


***


من رسائله إلى عائلته

حلب 11/ 12/ 1952

ع.. الحبيبة

كتبت إليك منذ أيام ولم أتلق شيئاً منك اطمئن فيه إلى أنك لست مريضة. فهل أنت مريضة؟ ولم لم تكتبي إلي وأنت تعلمين مدى ما يمتلكني من القلق والاضطراب عندما تنقطع أخبارك عني، وتعلمين أنك الكائن الوحيد الذي يهمني أن أعرف كل شيء عنه في كل لحظة من الزمن. لقد كنت مريضاً، كما قلت لك في رسالتي السابقة، ولكنني الآن في حال جيدة. أكتب إليك في الصباح، من مقهى صغير يشبه الكوخ، في الحديقة العامة، وكل ما حولي كآبة جميلة كالموسيقى تذكرني بك وتبعث في نفسي حنيناً جارفاً إلى أن أراك وأتحدث إليك... فأين أنت الآن في مثل هذه الساعة المتيقظة من الوجود؟ إن إحساسي بجمال الطبيعة، وهي هنا في أجمل رعشاتها، قد أصبح مقترناً بك إلى الأبد. الغيوم التي تنزاح في الشرق عن زرقة متألقة، والأزهار الشتائية الرطيبة، والأغصان العارية كوحشة الابتعاد، وشجيرات السرو ذات الاخضرار الذي تحبين، والدروب الصغيرة خلال حقول الورد المنداة؛.. كلها مسارح وإطارات سحرية قد أعدت لك، من أجل أن يخطر فيها شالك وسمرتك وعيناك، «من أجل» ليست كلمة عابرة بل هي كل ما يحمل وجودنا على الأرض من معنى. كل ما في العالم من صور وأشكال، يغمغم ويتنهد من أجل القلب الإنساني الذي يخفق له ويجدده. وكل ما في القلب من حيوية وعاطفة وقدرة على التجديد إنما يبدو في الجمال الذي عرف الحب، عرف كيف يحررنا من تلك الهموم الصغيرة التي ترهقنا بها ضرورات اليوم، هذه القيود التي تثقل خطى «الجميع». والجمال الذي نحب يعيش معنا أبداً حاملاً الآلاف من الهموم الكبيرة: هموم القضايا الحقيقية في وجود الإنسان، وهل من قضية أثمن من أن ننفعل في سبيل التحرر مما ألفه «الجميع» لكي نختار الصورة التي نريدها لنا في الحياة، لكي تكون هذه الحياة إيانا، وحدنا، تحمل لوننا وكل ما في قلبنا من صدق وبساطة ونزعة إلى «الأكثر تألقاً وإرهافاً».. ذلك لا يُقدر لمن يقول: إن الحياة لي بل لمن يستطيع أن يكون هو الحياة، أن يقول: سرمدية اللحظة هي أن تصبح مليئة، أن لا يكون ثمة فراغ، أن يموت إلى الأبد هم التخلخل والعدم والحيرة، من وجودنا. ولا سبيل إلى أن يموت هذا الهم إلا بالاستجابة لذلك النداء العميق الذي يهيب بنا أبداً أن نعطي كل وجودنا، لكل شيء، وفي كل لحظة، ما دمنا قد استيقظنا على حب الجمال الذي أخذنا إليه، ووضع يدنا على ما هو إنساني خالق أزلي في نفسنا، هل نُلام إذا كانت حياتنا ابتهالاً ولهفة إلى القلب النبيل والسمرة المتيقظة؟..
ماذا تقرأين؟ هل تكتبين شيئاً تستطيعين إرساله إلي؟ منذ أيام وأنا مستغرق في قراءة مسرحيات «غوته» الكاملة. وقد انتهيت اليوم من قراءة مسرحية شعرية رائعة له هي «باندورا» وأعتقد أنها أجمل ما كتب، لأنها تضم فلسفته كلها؛ الفعل والحب. بالفعل action يمتلك الإنسان مصيره، وبالحب يملأ الزمن بما هو إلهي، ويعطي مصيره معناه المبدع:
«ومن ثم صعّدت بصري، وعلى الغيوم الشاردة عبر الفضاء،
كان عالم حبيب يطوف بأسره، وصور شتى من وجوه الآلهة.
وكانت باندورا تعددها لي، وتريني الصور المرفرفة في الأوجه،
كانت تقول لي: هناك، هناك تشرق لك السعادة والحب.
قلت: كيف تشرق هناك؟ وأنا أعرفها كلها فيك أنتِ:
باندورا، لا خيبة في الجمال، للقلب المحب؛...»
وسوف أترجم المسرحية كلها رغم صعوبة الترجمة، وأرسلها إليك. هل تذهبين إلى الجامعة؟ هل بدأت بقراءة شيء عن الفلسفة الإسلامية، إن تعقدها وصعوبتها يتطلبان بعض الجهد... حلب في هذه الأيام حزينة كثيرة الأمطار تشبه فصلاً مملاً من قصة جيدة. أقضي معظم الأوقات في المدرسة وفي هذا المقهى الهادئ، ولكنني لا أستطيع الكتابة لسبب أجهله، رغم أن الوقت والجد متوفران كثيراً. طلبت إليك أن تستمعي إلى سيبليوس يوم الثلاثاء، فهل فعلتِ؟ أو تفعلين كل ثلاثاء؟ اكتبي إلي. تحياتي إلى الجميع، وأشواقي الحارة إليك وإلى اللقاء.
صدقي


***

ع. الحبيبة

أكتب إليك فور وصول رسالتك الأخيرة، لأن ذلك على ما يبدو هو السبيل الوحيد لأن تنتظم رسائلنا، وتلتقي. وكنت قد أرسلت لك البارحة رسالة مضطربة، أسألك فيها عن مرضك وسبب تأخرك، أرجو أن تكون قد وصلت إليك، لقد سررت كثيراً لأنك أصبحت في صحة جيدة، وأسفت كثيراً لأنني نقلت إليك شيئاً عن اضطرابي وقلقي بسبب آلامك، ولكنك قد لا تتصورين هذه الوحشة الغريبة التي تنشرها هذه المدينة الجرداء بشتائها الكئيب على النفس التي نأى عنها الجمال الذي أحبت، عندما تشعر هذه النفس الحزينة بأنه لا عزاء ولا سلوى إلا هذه الرسالات الصغيرة التي تحمل كل شيء، والتي هي وحدها تستطيع أن تبدد صقيع الفراغ والعزلة. أو لا أُعذر إذا رجوتك أن تكتبي إلي دائماً؟..
لقد لمست في رسالتك شيئاً من المأساة، ولا أعرف كيف أبدأ بلومك على شعور كهذا. أمام الحب وحده يتراجع القدر، لأن الحب هو القدر الأقوى الذي يفرض مشيئته على كل ما في الوجود، لأنه ظفر القلب الإنساني على حكمة الحياة وقوانينها الحصيفة، وتمرده على الموت والزمن والهم. ولكم أود أن أكون إلى جانبك، عندما تشعرين بهذا العذاب النبيل الذي يعلمك إياه قلبك الطيب، بحرارته وجموح نزعاته، إذن لوضعت يدي في يدك وقلت لك في كثير من الاعتزاز؛ يجب أن نبارك الحياة كل يوم، لأنها أتاحت لنا الانطلاق في منزلها الدافئ الكسول إلى رحاب العوالم الغنية الأخرى، التي تصبح فيها الكلمة والهمسة، قانوناً جديداً للحياة، وتعود فيها النظرة والابتسامة شكلاً حياً للعالم. من أجل ذلك نعرف الهم والعذاب، لأن الحب قد اختارنا وضمنا إلى مملكته المتألقة الأشياء، المليئة الساعات.... لماذا تحمل إلي أنفاسك يا عواطف، أبداً، كل هذا التفاؤل وهذا الإيمان.. أقرأ كلماتك في حرارة وشغف لا حدود لهما، وأسمع صوتاً من الأعماق يشعرني بأن فيك، أيتها السُمرة الشاحبة، نفحة من المستحيل. ليس ذلك شعراً ولا خيال مجنون، بل حقيقة مليئة، نشعر بها بكل جوارحنا، وما يشعر به القلب الذي يُعطي هو الحقيقة وحده...
الأشعار القديمة لا تعودي إلى قراءتها، إلا إذا أردت التسلية في الاستماع إلى تلك الإيقاعات المضطربة التي حاولتُ فيها عبثاً أن أغني بعض صور حبك وفتنة عينيك. وآية هذا الاضطراب أنه كان غناء قلقاً حزيناً، في حين تلبث ملهمته إلى الأبد خفقة من الفرح والغبطة. فهلا أشعرتِني أبداً، بأنك هذه الخفقة، وأن العذاب والهم لن يجدا سبيلاً إلى بساطة نفسك بعد الآن، في الرسالة القادمة سوف أرسل إليك قصائد جديدة كتبتها عنك، وقد تعرفين منها الشيء الكثير عن تحوّل تلك الهواجس والهموم إلى إشراق لا نهاية له...
صحتي جيدة. ولكنني لم أستطع استئناف أعمالي العادية بعد ومنها إتمام بوشكين، ولكنني سوف أنهيه هذا الأسبوع في الغالب، وسوف أخبرك عن ذلك. إن موضوع «طبيعة النفس عند أفلاطون» جيد، لولا أنك سوف تضطرين فيه إلى الاهتمام بكثير من الأمور الجدلية «المنطقية» التي أولاها هذا الفيلسوف القديم اهتمامه. وسوف أرسل لك كل ما تقع عليه يدي من مصادر. لقد اتصلت بأسعد فوراً من أجل دفتر الفلسفة اليونانية ولكنه لم يكن في المدرسة، وذهبت إلى البيت فلم أجده أيضاً، ولكنني سوف ألقاه في الليل، وسوف أرسل إليك الدفتر فور حصولي عليه... هل بدأتِ بالدراسة؟ وبماذا بدأتِ؟.
عواطف،
كلما بدأت بالكتابة إليك، تيقظت حولي جميع الأشياء، وامتلكني نوع من الحنين والإرهاف، يجعلني نهبة لكل نسمة ونفحة من صور الطبيعة حولي، أهو اسمك العذب الذي يشيع الحياة والتفتح بأشكال العالم وألوانه فترغمني على التحدث عنها إليك، كما كنت أحدثها أبداً عنك، منذ يومين والضباب يحجب كل شيء في هذه المدينة؛ ضباب يشبه الأردية الواهية التي يسدلها الزمن على الذكريات.. ولكن ذكرى حبيبة واحدة تتمرد على كل شيء، وتمزق كل نقاب، لأنها فوق الزمن، ذكرى؟ بل حياة دائمة وحضور تتوجه فيه عينان دامعتان إلى طريق العودة... تحياتي الحارة إليك وإلى اللقاء.
أين تمضي في الليل مركبة الحب وقد أغلقت عليها الدروبُ واستبدت بها العواصف رعناء، وهبت من جانبها الخطوب وتشكت حوافر الخيل أن يسخر منها هذا المكان الجديب أين تمضي؟ تمضي إلى جنة الأرض إلى حيث كل غصن رطيب حيث ينهال من شفاه الأزاهير نداء.. هنا يعيش الحبيب.
صدقي


***

حلب 20/ 12/ 1952
الحبيبة ع.
أشواق حارة وبعد
لا أعرف كيف أشكرك على الغصن الأغبر الذي تضمنته رسالتك الأخيرة؛ إن إرهاف نفسك لا حد له؛ وكم أنا فخور بحبك وحنانك. أشياء كثيرة في الحياة لا تبرر ولا تحمل منطقاً، ولكننا نشعر بأنها أجمل ما في الحياة، منها هذا الوجد اللاهف الذي تثيره فينا كلمات بسيطة، أو أشياء صغيرة، لمجرد معرفتنا بأن من نحب هو الذي قال هذه الكلمات أو لمس بأنامله الغضة تلك الأشياء. عندئذٍ يبدو للقلب أن الحب ليس شيئاً يضاف إلى وجودنا، بل هو حقيقة هذا الوجود، وعنصر الحرارة والإبداع فيه. ومن الأعماق يتصاعد إيمان حار كالابتهالات بأن ما سميناه حباً ليس في الواقع إلا الكائن الذي أحببناه، هذه الصورة المجسدة الحية للجمال الذي يحمل بذاته مبررات وجوده، والذي تبدو كل لمحة منه وسمة، إيماءة ترشد خطانا المتعثرة إلى كل ما هو أصيل ورائع في وجود الإنسان. لقد كنت أظن في الماضي، أن الحب تجربة أو حادثة فذة، أستطيع أن أبرر بها حياتي. ولابد للقلب الإنساني أن يبرر خفقاته وجريان الدم فيه. وفكرة الحادثة هذه دفعتني إلى الارتباط بمصير الشعب أحياناً، وبالشعر أحياناً أخرى. ولكن الآلام العميقة التي لم تكن الأشعار التي كتبتها لك، إلا ظلاً باهتاً لها، هذه الآلام، علمتني أن الحياة بأسرها هي تجربة نلتمس فيها التعبير الجميل عن المستحيل أو اللامعقول الذي يكمن في طبيعة الإنسان. والجمال المتيقظ هو هذا التعبير؛ وكم يبعث في نفسي من غبطة أنك الصورة المثلى لهذا الجمال، من أجل ذلك أقول لك دائماً إن الحياة غناء للأشياء. وإيقاع لوجوه الناس، لأنك في كل مظهر من العالم نفحة سحرية تحمل موسيقى طليقة تشعرني بأنه لا نهاية لشيء على الأرض. وكما أن قوة الحياة الكامنة في جميع الكائنات، سرمدية لا نهاية لها، كذلك تهب عاطفتنا التي وجدت الجمال، اللانهاية والحقيقة، لكل ما يبدو محدوداً وزائلاً...
كتبت لك اليوم عن نفسي، لأن ابتعادي عنك علمني أن أنظر في كثير من الرثاء لهذه النفس التي أصبحت الكآبة سمتها وطابع وجودها. السؤال القديم: لماذا توجد؟ لم يعد له معنى؛ بل أصبح همها الوحيد: كيف تستطيع احتمال البعد؟.. وفي غمرة هذا الهم أصبحت تعاني ساعات من الاستغراق العميق الذي لا يوصف، لأنه فوق الفرح والحزن، وأغنى من أعمق الآلام وأجمل المسرات. ومثلما تتلعثم كلمات البوح الساذجة، أمام حقيقة الانفعال الذي يغمرنا بها حنان من نحب، فإن جميع وسائل التعبير تعيا أمام استغراق المحبين. أهي، كما يقول ريلكه الدهشة أمام حقيقة الحياة، لأن العاشقين وحدهم يسيرون في دروب الحقيقة؟..
كيف صحتك في هذه الأيام؟ أما زلت في شحوب واضطراب؟ في هذه الأيام الباردة أقضي معظم الأوقات في المنزل قرب المدفأة، استمع إلى الموسيقى وأفكر في عذاب هذا الوطن. وصلتني الصحيفتان، وأشكرك كثيراً على تكبدك مشقة إرسالهما ـ أثناء مرضك. أرسلت لك في البريد المضمون نوت للفلسفة اليونانية، وقد استعرته من أحد أصدقائي هنا. وبذلك تستطيعين التخلص من دروس العوا. ما يتعلق بالأطروحة أستطيع تلخيص ما تريدين، فأخبريني بما أشار به عليك المقدسي من مصادر أو مخطط؛ لم يكن إهمالي «العزيزة والتحية الحارة» إلا تمهيداً لهذه البداية في هذه الرسالة، فهل تأخذين عليها شيئاً؟..
عن أية إساءة ماضية تتحدثين؟ وأي حنق؟ أشياء كهذه أرجو أن لا أسمعها منك بعد الآن؛ هل يستطيع هذا القلب الذي أعطاه الحب كل شيء، وطهر جوانحه، أن يعرف الإساءة والغضب، في أجمل ما يملك من ذكريات؟..
أرسلك إليك في هذه الرسالة قصائد نظمتها في فترات مختلفة أرجو أن تجدي فيها بعض التسلية، وتغفري أنها لم تزل غير منقحة... تحياتي إلى سمية وشفق والجميع، أسعد يسلم عليكم جميعاً، ويأسف لعدم عثوره على نوته، كما قلت لك...
المساء، ولا تزال غمامات بلون اللهيب الأحمر توشي جوانب الآفاق البعيدة وأنت إلى جانبي، ليتني أستطيع أن أحمل إليك شيئاً مما تنطوي عليه هذه التنهدات.
تحياتي الحارة وإلى اللقاء
أثم أشياء سوى أن أرى = الأبعاد تفنى في الغروب الحزين
وأن تقول لسحب مخضلة = مضت عهود الورد والياسمين
وتنثر الأغصان أوراقها = شاحبة، هامسة، لآت حين
وأشهد الشمس بأطيافها = أشعة فوق الثرى يرتمين
وأن تغني الريح أحزانها = وفي صداها زفرات أنين
يا أوقع الأسماء في مهجتي = إني أناديك فهل تسمعين؟

صدقي



.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى