نجيب محفوظ - معركة في الحصن القديم.. قصة

عاد إلى الحارة فى أول إجازة بعد فترة غياب غير قصيرة. وهمست امرأة (ذهب يوم الكشف بجلبابه, وهاهو يعود بالبدلة الكاكى .ما أجمله فى البدلة الكاكى). و حذاؤه الأسود الضخم لم يخف على أحد و لا طربوشه الطويل . أجل نحف ولكن عوده اشتد و صلب . اكتست بشرته بسمرة غميقة من شمس الصحراء . وقال عجوز سبق تجنيده:

–أمامه خمس سنوات سخرة كسائر الجنود المساكن.

يوم دعى للتجنيد كان من أيام الحارة الحزينة . هرعت أمه إلى شيخ الحارة و قالت له فى ضراعة ) نحن فى عرضك). فقال لهها الرجل:(قوانين الحكومة لا تجدى معها الشفاعة) و أوصاها أن تذهب به إلى رجل مشهود له بالمهارة فيضمن له عاهة تعفيه من القبول يوم الكشف , ولكن الشاب رفض الفكرة و قال لأمهى: إنه يفضل خدمة الجيش خمس سنوات عن عاهة تلتق به طوال الحياة. هكذا قبل جنديا بلا زغاريد.

و يوم المحمل ا حتفلت به الحارة كلها . احتل الرجال قطاعا من الطريق فيما يلى حى الشوام, و تكأكأت النسوة فيما بين الحمام و الجامع . وخفتت ضجة الجماهير حين ترامت أنغام الموسيقى النحاسية, ثم أقبلت فرقة من المشاة تتقدم الموكب, تسير أربعة أربعة واضعة البنادق على المناكب. وظهر الشاب بين الجنود , جادا بخلاف ماألفوه. ولما مر صفه أمام أهل الحا من الجانبين تعالى الهتاف الغايد ورفعوا أمه فو عربق عربة كارو وقفت عند جانب الطريق , وخفت القلوب يالأفراح. وعاد الشاب إلى إلى حارته فى الإجازة ليستمتع بشىء من الحرية و الراحة . و عزمت أمه على ألاتضن عليه بشىء و لو باعت آخر أسورة فى معصمها . وقال لأمه و هو يخلع ملابسه:

-حياة القشلاق فوق طاق البشر .

فدعت له بالقوة و الصبر ثثم قالت متشكية بدورها :

-وحياتنا فى الحارة أصبحت مسل حياة القشلاق وأسوأ , ألم تسمع بما حصل ؟

-بلى قد سسمع كلمات متناثرة و لكنه لم يدرك أبعاد الحكاية, فواصصلتى أمه قائلة:

-لم يكن ينقصنا إلا العفاريت , ألم يكن فى الناس الكفاية؟

الواقع أدرك الشاب ان الحارة تمر بمحنة . قدر رهيب حرك الشر فى قلوب ساكنى الحصن الذى يوجد بابه المغلق تحت القبو . وعلى غير عادة جاوزوا حدودهم فى العبث فقطعوا الطريق على كل من انفرادوا به ليلا , و ملأوه رعبا فقط منهم جرحى وهم يفرون من الهول . استمع الجندى إلى حكايات الضحايا و عاين الجراح و الكسور ثم ققال بامتعاض شديد:

مايصح أن تعبث العفاريت بارة مؤمنة..

فأيه جميع السامعين و قال صوت :

-نحن ففى حاجة لى بطل ..

فهز الحماس الشاب و قال:

-أنا لها!

فثارت ضجة و هتاف , وتحمس كل شخص باستثناء أمه فأسكره الحماس و صاح متحديا:

-أنا لها!

وانتظروا المغيب و قد تعلقت به الآمال , وانزوت أمه تبكى , و هبط المساء ذلك اليوم فى هالة من التهاويل و الأخيلة الخارقة. ووقف الجندى ممسكا بعصا أهداها إليه فتوة متقاعد . وتقدم من القبو يشق طريقه فى زحمة الخلق فعلت الضوضاء حتى غطت على تحذيرات أمه الباكية.وفى صوت قوى واحد صاحوا (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم , بسم الله الرحمن الرحيم) وفى ثبات ظاهرر مرق الجندى من باب الحصن القديم . وانصتوا بقلوب راجفة و دفنوا الهمسات فى الصدور , ومال شيخ الحارة نحو الإمام و سأله :

-كيف تنتهى المعركة؟

فـأجاب الإمام:

-الله يؤتى النصر من يشاء .

وندت من الداخل حركات عنيفة ارتعدت لها القلوب , ثم كان انفجار , وتبعه صوت كالرعد , وانتشرت فى جوف البو أصوات دق و كسر و تمزق و زمجرة و دار همس حار مع الأنفاس المضطربة : (الدقيقة بعام كامل , لو انهزم الحق علينا أن نرحل عن الحارة . لولا حكمة ربنا ما أقدم الشاب على المعركة) .

وساد الصمت فجأة و فتح باب الحصن مرة أخرى فاقتحم صريره سكون الليل . وأمر شيخ الحارة بإشعال فوانيس الطوارىء فاشتعلت وتراءت على أضواء الوجوه الشاحبة و لاح الجندى فى الباب فهتف الناس بجنون (الله الله) وتقدم نحو الحارة يسير فى مشية عسكرية أربعة . ذهل الناس وهم يرون الطابور وهو يشغل سطح الحارة من القبو حتى مخرج الميدان . وتوقف الجندى فتوقفوا وهم يتحركون محلك سر . ظلوا يتحركون هكذا حتى لم يجد الناس مكانا إلا لصق الجدران. وألف الناس الفرحة و أفاقوا من سكرتها , وحل محل ذلك تساؤل ودهشة و قشعريرة خوف . وسأل رجل شيخ الحارة:

-عم أسفرت المعركة؟

فقال الرجل بضيق وسرعة:

-ألا ترى ما أمامك يا أعمى..؟!

وأصرت الأم على إطلاق تحذيراتها حتى رميت بالجنون . ولم يعد يسمع فى الليل إلا وقع الأقدام الثقيلة!

عاد إلى الحارة فى أول إجازة بعد فترة غياب غير قصيرة. وهمست امرأة (ذهب يوم الكشف بجلبابه, وهاهو يعود بالبدلة الكاكي .ما أجمله في البدلة الكاكي). و حذاؤه الأسود الضخم لم يخف على أحد و لا طربوشه الطويل . أجل نحف ولكن عوده اشتد و صلب . اكتست بشرته بسمرة غميقة من شمس الصحراء . وقال عجوز سبق تجنيده:

–أمامه خمس سنوات سخرة كسائر الجنود المساكين.

يوم دعي للتجنيد كان من أيام الحارة الحزينة . هرعت أمه إلى شيخ الحارة و قالت له فى ضراعة ) نحن فى عرضك). فقال لها الرجل:(قوانين الحكومة لا تجدي معها الشفاعة) و أوصاها أن تذهب به إلى رجل مشهود له بالمهارة فيضمن له عاهة تعفيه من القبول يوم الكشف , ولكن الشاب رفض الفكرة و قال لأمه: إنه يفضل خدمة الجيش خمس سنوات عن عاهة تلتصق به طوال الحياة. هكذا قُبل جنديا بلا زغاريد.

و يوم المحمل ا حتفلت به الحارة كلها . احتل الرجال قطاعا من الطريق فيما يلي حي الشوام, و تكأكأت النسوة فيما بين الحمام والجامع . وخفتت ضجة الجماهير حين ترامت أنغام الموسيقى النحاسية, ثم أقبلت فرقة من المشاة تتقدم الموكب, تسير أربعة أربعة واضعة البنادق على المناكب. وظهر الشاب بين الجنود , جادا بخلاف ما ألفوه. ولما مر صفه أمام أهل الحارة من الجانبين تعالى الهتاف والزغاريد ورفعوا أمه فوق عربة كارو وقفت عند جانب الطريق , وخفقت القلوب بالأفراح. وعاد الشاب إلى حارته فى الإجازة ليستمتع بشىء من الحرية و الراحة . و عزمت أمه على ألا تضن عليه بشىء و لو باعت آخر أسورة فى معصمها . وقال لأمه و هو يخلع ملابسه:

-حياة القشلاق فوق طاقة البشر .

فدعت له بالقوة و الصبر ثم قالت متشكية بدورها :

-وحياتنا فى الحارة أصبحت مسل حياة القشلاق وأسوأ , ألم تسمع بما حصل ؟

-بلى قد سمع كلمات متناثرة و لكنه لم يدرك أبعاد الحكاية, فواصلت أمه قائلة:

-لم يكن ينقصنا إلا العفاريت , ألم يكن فى الناس الكفاية؟

الواقع أدرك الشاب ان الحارة تمر بمحنة . قدر رهيب حرك الشر في قلوب ساكني الحصن الذى يوجد بابه المغلق تحت القبو . وعلى غير عادة جاوزوا حدودهم في العبث فقطعوا الطريق على كل من انفردوا به ليلا , و ملأوه رعبا فقط فسقط منهم جرحى وهم يفرون من الهول . استمع الجندى إلى حكايات الضحايا و عاين الجراح والكسور ثم ققال بامتعاض شديد:

مايصح أن تعبث العفاريت بحارة مؤمنة..

فأيده جميع السامعين و قال صوت :

-نحن فى حاجة إلى بطل ..

فهز الحماس الشاب و قال:

-أنا لها!

فثارت ضجة و هتاف , وتحمس كل شخص باستثناء أمه فأسكره الحماس و صاح متحديا:

-أنا لها!

وانتظروا المغيب و قد تعلقت به الآمال , وانزوت أمه تبكي , و هبط المساء ذلك اليوم فى هالة من التهاويل و الأخيلة الخارقة. ووقف الجندى ممسكا بعصا أهداها إليه فتوة متقاعد . وتقدم من القبو يشق طريقه فى زحمة الخلق فعلت الضوضاء حتى غطت على تحذيرات أمه الباكية.وفى صوت قوي واحد صاحوا (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم , بسم الله الرحمن الرحيم) وفى ثبات ظاهر مرق الجندي من باب الحصن القديم . وانصتوا بقلوب راجفة و دفنوا الهمسات فى الصدور , ومال شيخ الحارة نحو الإمام و سأله :

-كيف تنتهى المعركة؟

فـأجاب الإمام:

-الله يؤتي النصر من يشاء .

وندت من الداخل حركات عنيفة ارتعدت لها القلوب , ثم كان انفجار تبعه صوت كالرعد ،وانتشرت فى جوف القبو أصوات دق و كسر وتمزق و زمجرة و دار همس حار مع الأنفاس المضطربة : (الدقيقة بعام كامل , لو انهزم الحق علينا أن نرحل عن الحارة . لولا حكمة ربنا ما أقدم الشاب على المعركة) .

وساد الصمت فجأة و فتح باب الحصن مرة أخرى فاقتحم صريره سكون الليل . وأمر شيخ الحارة بإشعال فوانيس الطواريء فاشتعلت وتراءت على أضوائها الوجوه الشاحبة و لاح الجندي في الباب فهتف الناس بجنون (الله الله) وتقدم نحو الحارة يسير فى مشية عسكرية أربعة . ذهل الناس وهم يرون الطابور وهو يشغل سطح الحارة من القبو حتى مخرج الميدان . وتوقف الجندي فتوقفوا وهم يتحركون محلك سر . ظلوا يتحركون هكذا حتى لم يجد الناس مكانا إلا لصق الجدران. وألف الناس الفرحة و أفاقوا من سكرتها , وحل محل ذلك تساؤل ودهشة و قشعريرة خوف . وسأل رجل شيخ الحارة:

-عم أسفرت المعركة؟

فقال الرجل بضيق وسرعة:

-ألا ترى ما أمامك يا أعمى..؟!

وأصرت الأم على إطلاق تحذيراتها حتى رميت بالجنون . ولم يعد يسمع فى الليل إلا وقع الأقدام الثقيلة!





- من مجموعة صدى النسيان




أعلى