رسالة من الأديب الليبي كامل حسن المقهور إلى القاص أحمد يوسف عقيلة سنة 1996

- رسالة من الأديب الليبي كامل حسن المقهور إلى القاص أحمد يوسف عقيلة سنة 1996

عزيزي أحمد..

تحيّاتي..

لا أُحفي عليك أنني كنتُ في شوقٍ أن اقرأك منذ أن اطَّلعتُ على قصة لك في (الفصول الأربعة).. منذ ذلك الوقت ارتبط اسمك لديّ "بمستقبل" القصة الليبية.. وابتدأتُ أفكِّر جدِّيّاً في الاتصال بك.

دعني أقول لك إنني حاولتُ أن أكون صوتاً في "القصة الليبية" إلاّ أنني كنت أعرف أنّ "قصصي" قصص المدينة وما جاورها.. وكنتُ أتمنَّى أن أجد مَن يُعبِّر عن حالة الإنسان الليبي خارج نطاق المُدن.. ولم أكن ذلك "الأحد".. إذ تقصر مخيّلتي عن الزاد اللازم لمعرفة حالة إنساننا خارج نطاق المدن.. صحيح أنَّه مرَّت عليّ ـ بحكم عملي ـ أنماط وافدة إلى المدينة تستقرّ فيها أو تقضي منها حاجة.. إلاّ أنها تفد دون أن تحمل معها مناخها أو ظروفها أو مستلزمات تكوينها.. ولقد لاحظتُ على القصص التي قرأتُها منشورة أو مخطوطة أنها تحصر نفسها في الإطار الذي أتناوله (أي إنسان المدينة) فلم تُفاجئْني.. ولم تشدّني إليها.. حتى قرأتُكَ في "دروب".. ومن يومها وأنا أبحث عنك.

عزيزي أحمد..

وإذ وجدتُكَ أخيراً تشبَّثْتُ بك.. فلقد قرأتُ مجموعتك التي أتحفتَني بها أكثر من مرَّة.. وجدتُ قاصّاً ليبيّاً كنتُ أشتاق إليه.

دعني أقول لك إنني وجدتُ في "المتاهة" و"الوصفة الأخيرة" و"المجنون" نفَساً آخر جديداً.. وعلى الرغم من القول بأنَّ "الموضوع" يُمكن أن يكون له محلّ في المدينة ـ أي "مدينة" ـ إلاّ أنَّ ربطَه بالواقع الذي تخيَّرَه القاصّ أعطاه نكهةً أخرى.. إذ يتحرَّك الحدث جميعه داخل إطارٍ من واقعٍ يُميِّز القاصّ ويتحدَّث عنه بثقةٍ تدفع إلى تصديقه والتمتُّع به.. وأَمّا قصص "الهاوية" و"سارق التبن" و"شوال التمر" فهي الرمز الذكيّ لفعل حيوان أو مُتخيَّل.. بما يدور في الواقع.. إنَّ هذا التحديد في بعض القصص لا يُلْغي القصص الأخرى.. فلم أقصد إلاّ التمثيل.

عزيزي..

أَذهلتْني مقدرتُك القصصية من وجهين: أوَّلهما الحفاظ على شاعرية اللغة العربية.. واستعمالها في الحوار بمقدرة.. (وإن كنتُ لا أتَّجه هذا الاتجاه كما تعلم).. وثانيهما انسياب السَّرْد دون تكلُّف أو تدخُّل من القاصّ في أغلب القصص.. ولم أجد هذه المرَّة صعوبةً في استرسال القراءة كما وجدتُها أوَّل مرَّة وأنا أقرأ قصتَك الأولى التي أشرتُ إليها فيما سبق.. والانطباع الذي خرجتُ به أنكَ قاصّ مُتمكِّن من أدواته بشكلٍ كبير.. واعٍ لاستخدامات هذه الأدوات.. مُقدِّر لدورها دون عنتٍ أو مشقَّة.

عزيزي احمد..

يُمكنني بعد القول السابق أن أُثير لكَ بعضَ هواجسي.. وما أقوله لك مباشرةً إنَّما أقوله بحبّ.. وخشيةّ عليك.. فلقد تصوَّرْتُ أنك علامة مُضيئة في القصة الليبية.. أخاف عليها من بعض ما يدور في الساحة الأدبية الليبية والعربية.. ولتكُن الملاحظات التي سأُبدي بعضاً منها حواراً بين مُحبَّينِ للقصة اختارا طريقينِ ربَّما اختلف بهما في بعض السلوك:

أوَّلاً: لا أُحبُّ أن يكون عنصر (الجنس) غالباً على كافَّة المواقف.. وبتلك المكاشَفة في الوصف.. وهو (الجنس) وإن كان من ضروريّات الحياة.. ولازِماً لها.. وجُزءاً هامّاً من شكلها العامّ.. إلاّ أنَّه ليس مكشوفاً كلُّه.. بل إنَّ بعضَه عفيف.. ولربَّما تراءَى لي أنَّه يُمكن أن تكون مواطن الجنس عند لزومها أكثر عٍفَّة وشفافيّة.

ثانياً: يصل المُبدِعُ قمَّة عطائه إذا جاء إبداعه تلقائيّاً.. يشد به "بحِرَفيّة" تملُّكه من أدواته.. إلاّ أنه يجب الاحتياط لكي لا تغلب الحِرَفيّة على توهُّج "الفنّان".. ومهما كانت إغراءات اللغة وجماليّة التراكيب.. فإنَّ الإغراق في مُحسِّنات استعمالها قد يُسيءُ إلى النَّصّ.. وأنا هنا لا أقصد المُحسِّنات البديعيّة المتعارَف عليها في اللغة.. ولكني أقصد التراكيب الجديدة التي برع فيها بعض كُتّاب المقال و القصة في ليبيا بشكل خاصّ.

ثالثاً: قد يكون الرمز نهراً واسعاً.. يُمكن للمُبدِع أن يتَّخذَه سبيلاً.. وهو سبيل صعب وشاقّ.. إلاّ أنّ القُدْرة التي بانت في تناولك لشخوصِك ووقائع قصصك.. تُبهجُني أكثر.. ولو ازددتَ غوصاً في الواقع الذي أبدعتَ في تناوله لكان ذلك أروع.

رابعاً: تناولك للحوار باللغة العربية ـ وهو جميل كما سبق وأن قلتُ ولا غبار عليه ـ قلَّلَ في بعض الأحيان من مصداقيته.. وجعل من استعمال بعض الشخوص للغة العربية.. على الرغم من معقوليّة ما يقولون.. غير متفقٍ مع واقعهم.. ذلك أنَّ استعمال (اللغة) رفَعَ من نغمة ما يقولون بحيث بدا وكأنَّه لا يُناسبهم (قصة المجنون مثلاً).

عزيزي أحمد..

ليس عليك إن لم تأخذ بما سبق أن قلتُ.. ولا تجعلْه مُغيِّراً لما انتويتَ أن تتخذه سبيلاً لإبداعك.. ذلك أنني لم أشأ أن يكون كل ما أقول إطراءً.. مُخفِياً بعضَ ما طرأ على خاطري ولو لم يكن دقيقاً.. فأنتَ تُدقِّق مع المُبدِع إذا وصل إلى درجة من الإبداع تأسركَ وتحاول أن تدفعَه إلى المزيد منه.. وما كان لي.. وقد بحثتُ عنكَ كثيراً.. إلاّ أن أقول لكَ ما أحسستُ به.. وصَدِّقْني بأنني لستُ ناقداً ولا أَدَّعيه.. إلاّ أنني أُكرِّر القولَ بأنني وجدتُ فيكَ قاصّاً ليبيّاً طالما بحثتُ عنه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى