محمد جبريل - الجســـر

(إلى مريد البرغوثى .. تحية له ، ولرام الله)

حين دخلت المقهى المطل على الميدان ، فلأنه بدا أقرب الأماكن إلى الجسر ، ولأنى كنت أريد أن أستعيد ما حدث .
التفت ـ بعفوية ـ ورائى ، قبل أن أخطو داخل الجسر ، يسبقنى ويتبعنى العشرات . رجال ونساء وأطفال . يحملون الحقائب والأكياس ، أو يكتفون بحافظة ورق . يصدر عن وطء أقدامهم لخشب الجسر تلاغط طقطقة . أعرف أن المئات يعبرون الجسر كل يوم . عمان هى الترانزيت ، ميناء العبور من مدن المنفى وإليها . أحاذر فى خطواتى . الطقطقة المنبعثة من تحت القدمين تشى بقرب سقوطه ..
لم أتبين من تقارب السحن والملابس ، وحتى اللغة العربية التى كان يتحدث بها الجميع ، من هم منا ، ومن هم من الإسرائيليين . شردت فى روايات أبى ، ونحن نجلس فى الشرفة المطلة على المنتزة ، عن جيرته لأسرة يهودية فى حى الظاهر ، أعوام دراسته فى القاهرة . فضلت أن ألوذ بالصمت والانطواء . لا أتكلم إلا إجابة عن سؤال ..
قدمت أوراق أمنا وأوراقى إلى الضابط الإسرائيلى من كوة النافذة الزجاجية . أشار بيده إلى صفوف الكراسى فى الصالة المستطيلة . تنبهت من الشرود الذى أخذنى على النداء باسم أمنا ، واسمى . دفع الضابط بالأوراق من وراء الكوة :
ـ المرأة تدخل ..
ونقر بإصبعه على بقية الأوراق ..
ـ حاتم عبد الهادي .. لا يوجد تصريح بالدخول ..
دنوت ـ بعفوية ـ من الكوة الصغيرة :
ـ أرجو أن تتأكد .. أنا من مواطنى رام الله ..
دون أن يزايل هدوءه :
ـ أنقل عن الأوراق وليس عن مزاجى ..
غلبنى الارتباك . لم أعرف من ينبغى أن أتجه إليه ، فتكلمت إلى كل من أنصت لى . غلبنى اليأس ، فحاولت أن أتجنب الوداع الذى لم أكن أعددت له نفسى ..
أومأت أمى إلى رأسها ، فحملت الحقيبة ، ووضعتها عليه . أشفقت لاهتزاز جسدها تحت ثقل الحقيبة ..
حتى لا تتقابل عينانا ، تظاهرت بمتابعة الحركة فى نهاية الجسر . لم أكد أتابع سيرها البطىء ، حتى التفتت بكل جسدها ، كأنها حدست أنى أحتضنها بنظرتى ..
لوحت بيدى ، فى مغالبة للارتباك ، وابتعدت ..
ـ غريب أننا نستطيع لم شملنا فى باريس ، ولا نستطيع ذلك فى فلسطين ..
كانت هذه المرة الأولى التى تغادر فيها أمنا رام الله . لم تغادرها حتى أيام الاحتلال ، ولا أيام السلطة الوطنية ..
تصفح الضابط الإسرائيلى طلب التصريح لها بالخروج من رام الله . واتته الرغبة فى الدعابة . قال :
ـ تريدين الالتقاء بأولادك فى باريس .. لماذا لا تقيمين هناك . إنها مدينة جميلة ..
اكتفت أمنا بالقول :
ـ رام الله أجمل !
ربتت كتفها :
ـ لا شئ يظل على حاله ..
سافرت مع أمى من رام الله إلى عمان . سافر خالد من القاهرة . كنت ـ أنت ـ تنتظرنا فى باريس ..
تنبهت إلى موضعك خارج مبنى المطار من صيحة أمنا :
ـ نايف ..
قلت وأنا أدفع إليك بالكيس البلاستيك :
ـ هذه زجاجة زيت زيتون ..
واحتضنت كتفك :
ـ أردت أن أذكرك بزيتون رام الله ..
التمعت عيناك بومضة حزينة :
ـ هل تغيب رام الله عن بالى فأحاول تذكرها ؟
وعلا صوتك بالانفعال :
ـ أنا هنا أفتقد حتى الحجر الأبيض الذى بنيت منه رام الله ..
قال خالد :
ـ الطمى فى حياة المصريين من قبل أن يعيشوا فى الوادى .. لكنهم ـ فى الأزمنة القديمة ـ فضلوا أن يشيدوا البيوت والمقابر بالحجر وليس بالطوب اللبن ..
استعدت نظرتى إلى البنايات المقابلة :
ـ لماذا اخترت الإقامة فى هذا الشارع الخلفى ؟
ـ لرخص الشقة النسبى ، ولأن البيت قريب من الحى الذى يقيم فيه العرب ..
ثم وأنت تشير بامتداد ذراعك :
ـ على بعد أقل من مائتى متر يوجد المسجد ومحال الأطعمة المغربية ومقهى أم كلثوم والمقاهى التى يتردد عليها العرب ..
تحدثت عن حرصك ـ فى أيام إقامتك الأولى ـ على الانتقال بالمترو . شبكته الهائلة تغطى قلب باريس وضواحيها . وضعت خريطة المترو فى جيبك ، وتنقلت بين المترو الأحمر والمترو الأزرق . تجد نفسك فى المكان الذى تقصده . سافرت للعمل فى جمع العنب . كان الجليد قد حرق المحصول فى 1974 . تجولت ـ بلا عمل ـ فى المدينة . مضيت إلى الأماكن التى تقصدها من أسهم تشير إلى مسار الاتجاهات . الشوارع الواسعة ، والبنايات ذات المقرنصات والنقوش ، وتماثيل الميادين ، وأشجار المارون والبلانتين والكستناء ، وتنقل خطواتك فى الشانزلزيه وساحة الباستيل وأمام الأوبرا واللوفر وقوس النصر وعلى شاطئ السين ، ومربعات البازلت أمام كاتدرائية نوتردام . تتأمل الجداريات المنحوتة والتماثيل التى تتخلل البناء . لم تعد تخشى حتى الشرود ، أو الابتعاد عن المحطة ، أو فقدان الطريق . تعود بالمترو المقابل إلى محطة البداية . تلجأ إلى مكاتب الاستعلامات داخل المحطة ، أو تسأل رجال الشرطة بالإنجليزية . تتلقى الإجابة باللغة نفسها ..
قال خالد :
ـ المشكلة أن الفرنسيين الذين نطلب إرشادهم لا يتحدثون إلا الفرنسية ..
هززت إصبعك فى الهواء :
ـ قد يعرف الفرنسى لغة أخرى .. لكنه يعتز بلغته ..
ثم وأنت تومئ إلى المدى خارج النافذة :
ـ إذا تعرفت إلى الأماكن على الخريطة جيداً فلن تحتاج إلى من تسأله ..
ورسمت على شفتيك ابتسامة مهونة :
ـ من الصعب على المرء أن يتوه فى باريس حتى لو قرر هو نفسه ذلك . يكفى أن ينظر ـ على النواصى ـ إلى الشوارع ومحطات المترو ..
أضاف خالد ملاحظة عن سهولة الإجراءات فى مطار أورلى . سريعة ، ولا تحتاج إلى الكثير من الكلام . يقدرون ـ ربما ـ أن السياح والزوار قد لا يعرفون الفرنسية . يلغون توقع الارتباك بوضع كلمات بالإنجليزية فى بطاقة الدخول . دقائق قليلة كان يقف ـ والحقيبتان فى يده ـ أمام باب المطار ..
قلت :
ـ تابع سائق التاكسى كلامنا ..
وأشرت إلى أمنا :
ـ تكلم بالعربية .. عرفنا أنه جزائرى ..
أمنت بهزة من رأسك :
ـ عدد كبير من سائقى التاكسى جزائريون ومغاربة ..
وأشحت بيدك :
ـ إذا كنا نعانى الاحتلال ، فالكثير من العرب يعانون استبداد الأنظمة ..
وأنا أتأمل الشعرات البيضاء التى تسللت إلى مقدمة رأسك وفوديك :
ـ يستطيعون العودة إلى بلادهم .. تظل أوطانهم .. أما نحن فالأمر يختلف ..
تحدثت عن حبك للخضرة . ذلك ما ألفته فى رام الله . وضعت فى قلب السور المعدنى المتوازى أصصاً فخارية ، بها زهور وورود ونباتات تدلت أوراقها على الجدار . يهمك أن تطل ـ فى أى وقت ـ على الخضرة التى تفتقدها . ليست الخضرة المترامية فى أرض رام الله ، لكنها تذكرك بها . أحدس النشوة فى انفراج شفتيك عن أسماء الأحياء والشوارع والبنايات : البيرة ، المقاطعة ، ميدان المنارة ، شارع الإرسال ، شارع القدس ، قرية سردة ، مبنى المحافظة ، كنيسة الله ، جامع العين ، المكتبة ، مقر الرئيس عرفات ، حى المسيون ، تماثيل الأسود الأربعة المنحوتة فى حجر الورد ، جامعة بير زيت ، رام الله القديمة ، تلال جبال القدس ..
حذرك الساكن فى شقة البناية المقابلة من أنه سيلجأ إلى الشرطة إذا لم ترفع أحواض الزرع من فوق كورنيش الشرفة ..
ـ لاحظ أنها توسخ واجهة البناية ..
وتداخلت فى صوتك دهشة :
ـ المهم أنه يسكن فى بناية أخرى ..
ثم بصوت هامس :
ـ رفعت الأحواض حتى لا تتدخل الشرطة ..
وأشرت إلى المدى خارج النافذة :
ـ فى أيام الآحاد أزور فونتناليه على بعد 50 كيلو متراً عن باريس .. أحاول تعويض غياب خضرة رام الله ..
قال خالد إن ألفة المكان لا معنى لها فى حياته . تنقل بين الكثير من المدن والشقق والفنادق . قبل أن يتم تعرفه إلى المفردات ، ينتقل إلى ما لم يكن أعد له نفسه ، باختياره ، أو بانتهاء الإقامة ، أو بإنهاء تصريح إقامته . يعتنى بما فى الحقائب أكثر من عنايته بما فى الأدراج . الحقائب تسعفه وقت الرحيل الذى ربما يكون مفاجئاً . أما الأثاث فيظل فى موضعه . اختلطت نوعيات الأثاث ، وألوانه ، وعدد الغرف ، وسحن الجيران ، والأماكن التى تطل عليها . تعرف إلى المئات فى المنافى . زهقوا من الخيام وعشش الصفيح واستمارات هيئة الإغاثة . أخذتهم القبور والمعتقلات والمدن القريبة والبعيدة ..
ـ أنت تشاهد أفلاماً كثيرة فى قناة الدراما .. تختلط فى ذهنك الأحداث ، فتعجز عن تذكر أي فيلم !
تكلم عن ظروف وفاة والدنا . كانا بمفردهما فى الشقة المطلة على ميدان الجيش . أسند رأسه إلى يديه ، ثم سقط الرأس واليدين ، وتهاوى الجسد كله ..
أدرك أن شيئاً ما يهدد أبانا بالخطر ، شيئاً لا يستطيع أن يلمسه ، أو يراه ، وإن بدت أنفاسه قريبة . خمن أنه يعانى غيبوبة السكر . استغاث بالجيران والإسعاف ، لكن الحياة كانت فارقته ..
غالبت أمى تأثرها :
ـ ثانى مرة يفارقنى فى زواج أربعين سنة ..
ثم وهى تغالب النشيج :
ـ أصر على أن يقضى رمضان فى القاهرة ..
التمعت عيناك :
ـ أجله !..
قالت أمى فى تأثرها :
ـ يؤلمنى أنى لم أكن معه ، ولم أودعه ..
قال خالد :
ـ شعبنا كله فى قوائم الموتى الأحياء ..
ثم وهو يهز المسبحة الصغيرة بأصابعه :
ـ الموت فى ظروفنا روتين ..
أضاف لنظرتى المتأملة إلى المسبحة فى يده :
ـ لم تفارقنى منذ اشتريتها من خان الخليلى ..
وهرش رأسه بطرف إصبعه :
ـ من الأشياء القليلة التى اخترتها بذوقى ..
تكلم عن الزيارات التى يجريها ـ عبر أسلاك التليفون ـ تناقش التقدم الدراسى ، والمشكلات الصحية ، وظروف الإقامة ، والهجرة إلى المنافى ، ومشروعات الزواج والطلاق ، ونبرات الحنين والشوق واللوم والعتاب والأسى والخوف والسأم والملل ..
تكلف ابتسامة :
ـ أظن أن مخترع التليفون كان يتنبأ بحاجة الفلسطينيين إليه بعد أن يشردوا فى الأرض !
اتجهت ناحيتى بنظرة متسائلة :
ـ حاتم .. ما أخبار رام الله ؟
قلت :
ـ مدينة تحت الاحتلال !
ـ ماذا تفعل السلطة الفلسطينية ؟ ..
ـ الحدود إسرائيلية والعملة إسرائيلية والجوازات كذلك ..
ثم وأنا أظهر التململ :
ـ كل شئ يخضع لسلطة الاحتلال !
غابت أمى فى زحام الناحية الأخرى من الجسر . حملت الحقيبة ، وملت ناحية الضفة الشرقية . طالعتنى تقاطعات الشوارع والميادين وزحام المارة والسيارات . جلست على أول مقهى صادفته . أستعيد ما حدث . التفت ـ بعفوية ـ إلى رام الله الممتدة أمامى . البيوت المسقوفة بالقرميد ، المتدرجة على الجبل ، تتوسط مساحات الخضرة ، والشوارع المسفلته العريضة ، والشوارع الترابية ، والجبال ، والكهوف الصخرية ، والشعاب ، وحقول الزيتون وكرم العنب والتين واللوز والمشمش ، والتلال الخضر الممتدة إلى أفق البحر ، والقرى الصغيرة فوق رءوس التلال ..
تلاشى التوقع ، وما يجدر بى أن أفعله . اجتذبتنى الحيرة : لا أدرى إن كنت سأبعث هذه الكلمات إليك ، وما عنوان المرسل الذى يجب أن أكتبه على مظروف الرسالة ، أو أتصل بأمنا فى رام الله ، أو بنايف فى القاهرة ؟
اتجهت نظرتى إلى الجانب المقابل . تلال عمان السبعة ، والمخيمات . بدت طريقاً وحيدة ..
لعل المشاركة تدلنى على خطواتى التالية ..


مجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير


محمد جبريـل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى