رسالتان من الدكتور هادي العلوي

- رسالتان من الدكتور هادي العلوي


من هادي العلوي
دمشق 5/8/1985

العزيز السعيد سلام الله عليك..

تسلمت أمس نسخة مواقف 55 ووجدت في حوارك مع الألف بعض أجزاء مشروعي اللغوي. وهو في الاملاء، اختصاصك الأرقى. وسيكون بالفعل جزءا من هذا المشروع.

سأحاول من الآن ان اكتب الهمزة منفردة حيثما أمكن والألف المقصورة ممدودة. أنا أجمع في هذا المشروع كل ما اقتنع به من تجارب الغير، لا سيما ان كان هذا الغير من الأقربين! اللهم لا عصبية وإنما محبة لمن يستحقها. وقد اقتبست من كمال ابو ديب نحوته في ترجمته لاستشراق ادوارد سعيد وأنا استعملها وأنسبها اليه في الهامش. أرسلت اليك مقدمة المعجم. وهذا العنوان من تصرف الناشر الذي نشره وأنا في الصين وكان العنوان الأصلي: <<نحو اصلاح لغوي جذري ومعجم جديد للعربية الموسعة>>. ويبدو انه استطاله فغيّره. وقد أشرت الى أبجديتك في الكتاب الذي أرسلته اليك مع الصديق النبيل كامل مهدي على ان يرده اليك من لندن.

صدرت طبعة جديدة من المستطرف وتبلغ ضعف الأولى من حيث المادة. لم أستطع إرسال نسخة اليك لعدم توفره عندي. مادتك التي جمعتها يمكن ان تضاف الى الطبعة القادمة مع الاشارة الى جامعها في المقدمة. آمل ان ترسلها او صورة منها مع أي طارش.

انتظر ان تشارك في تطوير مشروعي اللغوي بابداء رأيك فيه. فهو لا يمكن ان يكون مشروع فرد واحد. لقد كتبت بعض الملاحظات بشأنه، بعضها توجيهي ايجابي وبعضها تسفيهي. وما يصلني من التسفيهات والشتائم هذه الأيام تضيق به النقائض. أصبحت غرضا للرامي في شتى البقاع. وفكرت بالعودة الى الصين ثم قررت الصمود! اشتغل حاليا في المعجم الكبير وأوجز لك ما فعلته حتى الآن:

1 أفرغت ما انتقيته من القاموس المحيط للفيروزأبادي. ثم المعجم الوسيط، ثم المعاجم القديمة المتخصصة وهي: كشاف التهانوي، كليات ابو البقاء، دستور العلماء، تعريفات الجرجاني.

2 بدأت بانتقاء القواميس العامية لمعجمة ما يصلح من مفرداتها للغة الكتابة. وانا الآن في هذه المرحلة. فاذا اكملت سأنتقل الى القواميس السامية. وقد درست كلا من العبري والسرياني وحصلت على قاموس عبري ولم احصل بعد على قاموس سرياني. وابحث ايضا عن قواميس آرامية وكنعانية وبابلية مع علمي ان الحصول عليها يتطلب ثروة بترودولارية لا تتوفر عندي. ثمة مثلا قاموس آشوري ثمنه 800 دولار! لو حصلت عليه لاستفدت منه كثيرا. وأريد ان اشرح لك كيفية الاستفاد من هذه القواميس.

أنت تعرف ان اللغات السامية تنتمي الى لغة أم واحدة. وقد أدهشني التقارب بين العبري والسرياني والعربي. وأستطيع ان اقول ان قواعد العبرية أقرب الى العربية من قواعد اللهجات العامية المعاصرة. واليك مثل عن الطريقة التي أعمل بها:
كلمة GONOCIDE ليس لها مقابل عربي لكني عثرت على نص آرامي وردت فيه كلمة بهايبد، بمعنى يبيد النسل، فأخذت منها المصدر (مهابدة) ليكون مقابل الاصطلاح الانكليزي. وقد استعملته في عدد من المقالات السياسية ووضعت مقابله الاصطلاح الانكليزي لتعود القراءة عليه.

مثال آخر: كلمة TERNA التي تعني دور او نوبة وجدتها في العبري بالطاء، وهي ملفوظة في عامية بلاد الشام بالتاء وفي نفس المعنى. هذه الكلمة ستدخل في القاموس كمقابل للكلمة الانكليزية. ولا شك ان الكلمة السامية هي الأصل لأنها اقدم من الانكليزية.

مثال آخر: كلمة DILEMMA بمعنى محنة وأزمة وجدتها في القاموس المحيط: ديلم في نفس المعنى. وهذا يعني انها سامية الأصل وأظن الألف في اللفظ الانكليزي هو الألف الآرامي الذي يضاف عادة على اواخر الكلمات فيقال: نفطا في نفط وسابا بمعنى شباب (شاب ساب).

سيكون المعجم على طريقة فقه اللغة للثعالبي والمخصص لابن سيدة، مبوبا على المعاني لأنه موجه في الاساس للكتّاب والمترجمين لحل مشكلاتهم مع المفردة والاصطلاح.
انتظر ملاحظاتك..

كنت قد كتبت اليك من الصين. ويبدو اني أخطأت العنوان. انا افكر فيك مثلما تفكر فيّ وقد بنيت، كظنك بي، بعض المواقف على انقطاعك عني. وبلغ بي سوء الظن حد اتهامك بالتوجّس مني. وأنا سيء الظن بالأصدقاء. سوداوي الفؤاد. سريع النقد سريع الرضا. واني مع ذلك أصارع نفسي لتحريرها من هذه الآفات الموروثة من بيئات العصر العثماني التي تجمع بين ضغط الجهل وضغط الفقر. وأنت تذكر هذا البيت:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا = وأقبح الكفر والافلاس في الرجل

لكن الكفر ليس هو القبيح وإنما الجهل الذي غالبا ما يقترن بالايمان وليس بالكفر، فليس في الدنيا أجهل من المؤمنين. وقد ورثت الجهل من ايماني القديم بالله وملائكته الساميين.

لم أسمع شيئا عن سلمان منذ عشر سنوات. هو في ذاكرتي. وقد استشهدت بشعر له في بحث عن المهدي ضمن (قاموس التراث) الذي ينشر متسلسلا في (الحرية) وصدر القسم الأول منه مجتمعا في كتاب. كنت اريد مناسبة لكي أذكره وأثبت اسمه فأتيحت لي هذه المناسبة.

أستعين بالأولياء لمواجهة الصعاب. وهي كثيرة ياسعيد. لكنهم لم يخيبوا ظني بهم بل ولم يردوا لي طلبا. كلما عصفت بي أزمة عدت الى شيخي ابو يزيد لأسأله كيف الطريق اليه؟ فيقول لي: غب عن الطريق تصل اليه. فأواصل غيبوبتي حتى أصل اليه.

ولتشملك بركاته وأنت في غربتك أيها الغريب.
ألم تسمع بقوله طوبى للغرباء؟ وبحديثه: موت الغريب شهادة؟
لقد وجدتها منقوشة على قبور عربية في الصين ترجع الى القرن السابع...

هادي

******

- رسالة من هادي العلوي

يوم الأربعاء 28/5/1997

كيف علمت انني في هذه الأيام محتاج الى كلمة منك بعد ان اشتدت عليّ الغربة في مغتربي. ليس غربة المكان بل غربة الزمان. تقطعت مع أبناء الوطن المغترب علائقي. ومرّ علي وقت شعرت فيه اني وحيد في منتبذ السباحة ضد التيار حتى ظننت الظنون بأقربهم إليّ. قلت شغلت سعيدا عني شواغل الشعر والفن ولم يعد طبعه الرقيق يتحمل مخاطبة هذا البدوي الممعن في الهجرات. وفكرت لماذا يصمت عني كل هذا الزمن الطائل. لكن مع اني لا اقر بالتخاطر فإن اشتداد حاجتي اليك قد أثار فيك النخوة الحاضرة. والروح إذا تحللت من قيد الجسد تتخطى المسافات.

كيف تسألني عن خلل قد أراه وإذا رأيته ان استره. ان في بعض سور القرآن تباين وفي هذه الرسالة الشعرية لاتباين. وسأحتاج لاستيعابها أكثر الى قراءتها أكثر. وهي جاءتني في وقت مناسب من جهة أخرى، فتحت الطبع <<مدارات صوفية>> ختمتها بنصوص صوفية قديمة وحديثة منها لأدونيس. وسأضيف هذي الرسالة اليها بعد ان أحذف منها اسم (هادي) لاستبعاد البعد الشخصي فيها. وسوف أتلوها على من يأتيني وهم كثيرون، ولكن من غير ابناء الوطن. وكنت أتمنى لو يفهمها الفقراء الذين يراجعونني لاستلام تخصيصاتهم من جمعية بغداد المشاعية، لكنهم وهم ابناء وطني كلهم بسطاء أميون وليس بيني وبينهم لغة مشتركة سوى همومهم التي أسعى للتخفيف منها بما يردني من مساهمات مالية محدودة. وقد وفروا لي مادة للبكاء. فهم يأتونني شبه حفاة يلبسون الأسمال والجوع ظاهر على وجوه الأطفال وأمهاتهم فيفجرون دموعا انا في حاجة الى تفجيرها لتغسل شيئا من احزاني. لكن الدموع لا تعالج حيرتي حين أقف عاجزا أمامهم لأني لا أملك ما يكفيهم فأضطر الى التقتير عليهم.

لم ألق الاستجابة المتوقعة من أبناء الوطن القادرين على المساهمة، والأكثر من ذلك ان حصارا تتعرض له الجمعية، بدأ بالروزخونية، ثم انزج فيه (شيوعيو الأمس) الذين تخصصوا اليوم في التنظير لاقتصاد السوق والمجتمع الدولي. ان ثقافتهم العصرية جدا تجعلهم يسمون بالتخلف فكرة تقديم الطعام للجياع.

سلام عليك يا خلّ الوفاء، يا طلع النخلة البصرية. قرأت في حروفك معنى المسيح المتجرد من علائق المادة لخدمة الأرواح البشرية، وكأنني أشم في هذه الحروف شيئا من عبق التاو، فلا يعدم شاعر بصري يجري في دمه ماء النخيل ان يشدو قبسا من التاو في زمن يلقي الشعراء عن أكتافهم عبء الناس للبحث عما وراء القصائد من أسواق المجد القائمة على الضد والمقيمة سورا يحجز الروح الشعرية الجاسية عن حليب الأطفال.

سلام عليك أيها السعيد، يا ضمير البقاء في برزخ الفناء، ويا بقية الشعر الذي لم ينطفئ بأسواق المجد الضدية لأن عرشه على الماء لم تلوثه أنفاس الخلائق، وحول كينونته الحرة تتلاقى هموم المعذبين فيعبّر عنها بلسان الوجد شاربا من كأس القرب في سكر صحوه الأبدي.

هادي

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى