رسالة من أنور عبد العزيز الى الدكتور ابراهيم العلاف

- رسالة من أنور عبد العزيز الى الدكتور ابراهيم العلاف

في 2 شباط –فبراير 2008

الأخ والصديق الحميم الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاّف المحترم

تحية تقدير وإكبار..
أعلمني الأخ الشاعر محمد حمّاد هلال ، بوجود موجز عن (سيرتي الذاتية) على موقعكم الالكتروني ..استنسخته شاكراً ،وممتناً لأخي الكريم حرصه واحترامه لجهود الآخرين، وسبق أن استنسختُ نسخاً كثيرة مما كتبته عن ( قصص 69) ، ووزعته على الأصدقاء من الأدباء وغيرهم، وأخبرت الأخ حسب الله يحيى بذلك.

أخي الكريم: أنا لا أعتبرك (مؤرخاً ) فقط في حيّز ضيّق من علوم التاريخ، وفي موضوع محدد، أنت من مثقفي المدينة الكبار الذين أسهموا ولسنين طويلة في خدمة الموصل العريقة ثقافياً وأهم ماقدّمته – وكله مهم ، ومفيد ، وممتع – هو (تاريخ الصحافة) و (تاريخ التعليم)، وقد أضأت بكتاباتك للأجيال الحاضرة ، تواريخ ، وحياة ،ومنجزات العشرات من الصحفيين والعلماء والمهندسين والأطباء والعلماء ولمائة عام وأكثر . كثير ممن كتبت عنهم لم يسمع هذا الجيل حتى بأسمائهم، بالإضافة لملاحقتك لكل جديد في عالم صحافتنا اليوم.. كثير من الأكاديميين اكتفوا (بأطروحاتهم) فقط ، وأكثرهم لم ينشرها ، وتحوّل لمجرد مدرّس لا يحسن إلاّ اختصاصه وقد لا يحسنه كما هو مطلوب ، ومع متغيرات العصر، حتى أصبح لقب (الأكاديمي) عند كثير من القرّاء لقب سلبي لأنه قليل العطاء وجامد في تطوره..
أفقك أوسع من هذا بكثير ، فأنت مع الجميع: شعراء ، وقصاصين، وفناني مسرح، وتشكيليين ، وكتّاب مقالات ، ونقّاداً وروائيين، وأنت مع المدينة في عمارتها وتاريخها ووقائعها وحوادثها ، وأحداثها ،ومامرّت به من فرح أو حزن أو كرب وكوارث وزلازل غير طبيعية وفواجع ونكبات ومواجع.. أنت مع المدينة في إبداعها الحرفي.. أستطيع القول أنني قرأت وأقرا غالبية ما كتبته وما تكتبه.. استمتع به لأنه يتصف بشرطي الكتابة الناجحة: (الفائدة العلمية) و(المتعة الروحية) وأنا حزين عندما أتحسس الجهد الشاق الذي تبذله في كل هذه الإختصاصات الثقافية المتعددة.. حزين لجهودك وجهودنا شبه الضائعة مع غالبية لا تقرأ أيّ شئ.. لا أحد يقرأ..نفوس الموصل ثلاثة ملايين نسمة وفيها جامعة لا أعرف عدد طلابها وأقدرهم بأكثر من (50) ألفا مع مئات ألأساتذة وغالبية ما يصل للموصل من صحف ومجلاّت يكون أكثره (مرجوعاً) لبغداد أو لمصادره الأخرى لا أحد يقرأ.. طفولتي قضيتها في محلة (الميدان) ووعيي فيها كان وعي طفولة كان أسمها (الصحراء) وفيها (مركز شرطة الصحراء) لقربها من مقبرة ، وكان أبي فيها مأمور المركز.. ثم انتقلنا الى الدواسة وبقيت فيها (30) سنة بعدها للزهور (39) سنة.. في الدواسة لم يكن أحد يقرأ وكذا الحال في الزهور.. أنا بين يوم وآخر أنزل من الزهور للدواسة، أتأمل كل المقاهي من باب الطوب حتى (سينما حمورابي) نهاية الدواسة.. ليس فيها غير( الدومينة ) و( قرقرة النركيلة).. لا تجد إلا في النادر جداً . جريدة أو مجلة بيد أحدهم وفي الباص في الذهاب والإياب.. الباص مملوء بخمسين وستين ومائة من البشر لا تجد في يد أحدهم جريدة أو مجلة ولا أقول كتاباً إلاّ الكتب المنهجية في أيدي طلبة الجامعة والثانوية وفي الدواسة ولاكثر من ثلاثين عاماً و 39 سنة في الزهور وعشرات من البيوت حول أصحابها من الموظفين والمعلمين والمدرسين وأساتذة الجامعة والمتقاعدين.. لا جريدة ولا مجلة بل ويرثون لحالك انك عاشق ، محبّ للقراءة، حتى مدرسي العربية، وأمر المتقاعدين أكثر عجباً فكيف يقضون 24 ساعة دون هواية القراءة ولو الشئ القليل .. لا أحد يقرأ ونحن نكتب لأنفسنا ولبعضنا.. أقرأ لك وتقرأ لي.. (منظمة اليونسكو) وتعرفونها ومقرها باريس ورئيسها الحالي ياباني تصدر سنوياً (إحصائية) عن أحد الموضوعات أو الإهتمامات البشرية عموماً..سنة 2006 أصدرت إحصائية عن عدد الكتب في دولة بما فيها الكتب المنهجية.. وفي سنة 2007أصدرت (إحصائية عن متوسط عدد القراء في المعدّل) فماذا كانت النتيجة والمعلومات عن عدد القراء أخذتها (المنظمة) من المؤسسات الثقافية في كل دولة ، فماذا كانت ألنتيجة؟ يا للمفاجأة! اليابان وفرنسا وأسبانيا وأمريكا وبريطانيا وهولندة وكندا والسويد والدانمارك والنرويج وروسيا ودول أوربا الشرقية والبرازيل والأرجنتين وفنلندة وغيرها من دول العالم حتى الهند والإسكيمو والأفارقة، كان معدل قراءة الفرد بين 150 – 400 كتاب في السنة، أما عن الوطن العربي (300) مليون نسمة فقد كان المعدّل (ربع ورقة) في السنة حتى أنهم في (منظمة اليونسكو) يحسبون الوقت فقال الخبراء أن مدة قراءة (ربع الورقة) لا يزيد على خمس دقائق..فلمن نكتب؟! أنه وكما أقول للصديق سعد الدين خضر: (اننا مصابون منذ خمسين سنة بالمرض الجميل) ، في القراءة والكتابة والآن الحالة أقسى وأصعب كنا نكتب على الورق ونرسلها للجريدة فتنشر، أما الآن فالطبع بالكومبيوتر ثم التصحيح ثم الإرسال وقد تصل أو لاتصل.. ومع هذا (المرض الجميل) فنحن مسرورون بالمتعة الروحية في القراءة والكتابة أحياناً يصيبني الضجر فأقول: لأهجر الكتابة وانصرف للقراءة فقط فهي لذيذة ، وسهلة، ولكن وبعد يومين وأكثر يدفعني (حافز) قرأت عنه أو (فكرة قصة) فأعود متناغماً مستريحاً للمرض الجميل المرهق والذي يجعلنا نعيش حياتنا بتوتر دائم ومشغولية.. أنا وسعد الدين كنا نحث الآخرين على القراءة وماذا كانت النتيجة؟! لم يبدُ عليهم الاهتمام، فقط طلبوا منا أن نوصل الصحف لدورهم؟! تصوّر أي صفاقة وأي استهتار!. أما عن غلاء الصحف والمجلاّت فهي (كذبة كبيرة) فآلاف من أصحاب الملايين يصرفون على أتفه (الترهات) ويبخلون عن شراء جريدة بـ (250) ديناراً وبلا حياء يريدونها منك (أي الجريدة) . أما عن أعداد الكتب المطبوعة فهي مسألة تكاد لاتُصدق، (كاولو باولو) روائي برازيلي أصدر رواية عنوانها: (الخيمياء) تدور أحداثها في مصر، والأهرامات، والصحراء مزيج من الواقعية والخيال والرموز والأشباح والإشادة ببدو الصحراء وقيمهم..صدر منها وبيع بلغتها البرازيلية (60) مليوناً وتُرجمت للأسبانية فبيع منها (40) مليون نسمة ثم إلى 32 لغة عالمية منها العربية وحتى للغات محلّية كالسواحلية والعبرية ولغات أفريقية لم يسمع بها أحد.. كاولوباولو هذا، كمثال وهو (نوبلي) وزار نجيب محفوظ قبل وفاته وعند اللقاء وأمام عدسات التلفزيون والفضائيات قبّل رأس ويد نجيب محفوظ قائلاً له: (أنت استاذنا جميعاً، نحن تتلمذنا على رواياتك وإبداعك) فلم يحتمل نجيب محفوظ هذا التواضع وأخذ يبكي معانقاً إياه..

سألني مرّة الدكتور عدنان عباس الفضلي ، وهو طبيب أعصاب جراح، خريج جامعة لندن وله اهتمامات أدبية كالدكتور الراحل فخري الدبّاغ رحمه الله مع الفارق بينهما فعدنان لم ينتج شيئاً ولكنه كان قارئاً جيّداً ومتابعاً.. سألني: كم تطبعون من كتبكم بعد أن طبعت أول مجموعة لي بعنوان: (الوجه الضائع) سنة 1976 عند الراحل عبد القادر في (مطبعة الجمهور).. فأجبته: نطبع (1000) نسخة ونحار في توزيعها، استغرب جدّاً وقال كان معنا من الطلاب الإنكليز من لهم هوايات أدبية وهم ليسوا بأدباء، كان أقل ما يطبعونه من كتبهم هو عشرة آلاف نسخة تباع في اسبوع أو اسبوعين و(النوبلي) نجيب محفوظ لم يستطع بيع أكثر من (5000) نسخة من أحسن رواياته في مصر ذات السبعين مليوناً من البشر.. مع هذا أفبعد كل هذا العمر نتراجع، أنّ ما قرأناه وكتبناه صار هو عمرنا الحقيقي رغم كل القهر والتعب والفكر الذي رافق هذه الرحلة الجميلة الموغلة في المتاعب والمواجع وانتظار نتائج النشر وردود أفعال القراء تجاه مانكتبه – إن كان هناك قراء – وبالأعداد التي نحلم بها وليست ذلك النزر اليسير.

كلما مررت بالدواسة أتأمل مكان (مقهى أبي زكي) الذي كنتم تجلسون فيه شتاءً بداخله وصيفاً على تخوت الرصيف: أنت ووالدي (مفوض الشرطة السابق) وأبو برهان (مدير قسم بلدي سابق) و(أبو محمد) مدير زراعة سابق ومع فراش مدرسة صلاح الدين، وكان أبو برهان ومعه والدي أيضاً يمتعكم عن حوادث وأحوال الدولة ألعثمانية ثم ماتوا جميعاً وانتقل (أبو زكي) بمقهاه للجانب الأيسر قرب النبي يونس ثم مات بعدها.. رحمهم الله جميعاً ورحم كل الآباء.. ورحمنا لما نعيشه من حالة روتينية، وكآبة موحشة ، وقسوة الحياة في كل متطلباتها التي أصبحت صعبة وعسيرة تجاوزت قدرة الإنسان – مهما كان صحيح الجسم والنفس – على المطاولة والاستمرار، وأعود فأقول لولا هواية أو احتراف القراءة والكتابة لكان مصيرنا الهلاك بعد أن اقتربنا من المرحلة الصعبة جداً جداً (ضعف الأمل) والأمل هو دائماً (الداينمو) الذي يحرّك الحياة والإنسان وكل البشرية على هذه الأرض.. طوبى لكم ولنا بقوة الإصرار والمطاولة والعناد على الاستمرار على هذا النهج الثقافي الذي اختطناه واخترناه ورضينا به قدراً جميلاً ولذيذاً..

متمنياً لأخي الباحث المستنير ، المثابر ، والمتنوع في أيّ اهتمام اسمه (ثقافة) الصحة الطيبة، والعافية المستديمة أبداً ودائماً ان شاء الله وبإذن الله.

مع محبتي وتقديري وتحياتي لكل الأحبة الأعزة العاملين معكم

* ملاحظة: "ورد في سيرتي الشخصية"
ص 7 اسم كتاب لكاتب آخر:
واسم الكتاب الصحيح للراهب اللبناني هو
"يوميات غجري لايجيد الرقص"

أنور عبد العزيز
الموصل/ حي الزهور

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى